جميلة تفقد ثديها”قصة قصيرة”

عشرة أيام مرَّت كدهر على جميلة ، وحلَّ بعدها أسوأ الكوابيس.

لم يعد هناك شك أو ظنون.

 أكدت نتيجة الزرع أن ثدي جميلة الأيمن، يحتضن خلايا سرطانية يمكن تحسسها باليد العارية.

 ” والأسوأ ، قال لها الطبيب، يجب بتر الثدي في أسرع وقت ممكن ، لأن الورم تخطى مرحلته الأولى”.

تدحرجت فجأة فوق صدرها كلُّ أحزان العالم، فانهارت في غرفتها من وقع الصدمة والبكاء.

ثلاثة أيام وجميلة حبيسة غرفتها وذاتها المحطّمة .

لم تنجح والدتها في اختراق عزلتها وانزوائها.

كانت قلقة على حياة ابنتها ، وهي تستعيد في ذهنها تحذير الطبيب بضرورة إجراء عملية الاستئصال سريعاً .

 ” ولكن اطمئنوا، هناك نسبة ضئيلة من الخطر على الحياة بعد هذه العملية”.

” حسناً “، تنهدت الأم بين أنفاس قلقها.

“ولكن مما تخاف جميلة ، صغيرتي؟ لا شكَّ أن كلمة سرطان وحدها ، كافية لتهديم أصلب العزائم”.

في داخل الغرفة ، انطلقت الحبيسة في رحلة أخرى ، خارج مخاوف المرض والموت.

رفيقها الوحيد ، ثدي حريري الملمس ، منتصب بجرأة وعنفوان ، باهر بجماله وتأثيره ، وهو يشقُّ حجب الذكريات والمشاعر منذ نمو براعمه.

ثلاثة أيام ، وجميلة عارية الصدر تحتضن ثديها الأيمن بورع وحسرة.

 أذهلها كم يبدو سليماً ونضراً في هذه الأوقات.

الجلد ناعم وشهي في استدارته ورقته.

يلتفُّ حول نفسه كغيوم قطنية ، ملائكية في شفافيتها وبياضها.

 وفي هذه الرقة الأثيرية، تنفر حلمة مكتملة وسط هالة خفيفة السمرة ، كما يبدو القمر في بعض الليالي تزنِّره هالة ضوئية غامضة.

سكنت جميلة المرآة، وحوَّلتها إلى مسرح لحياتها الماضية، تتوارد فوقه الصور والمشاهد والأحاسيس كواقع يحدث للتو، ويفجِّر انفعالاتها ومشاعرها.

لمحت خدوده للمرة الأولى منذ عشرين سنة.

 كانت على أبواب مراهقتها، وهي ما تزال حائرة بين ألعاب الطفولة وتحوِّلات جسدها السريعة. بدا كورم طفيف من جراء جرح داخلي. بالكاد لاحظته وقتها، ولم يعنِ لها هذا الورم شيئاً. كانت اهتماماتها في مكان آخر. ونسيت وجوده لفترة تحت ثيابها الطفولية.

وفجأة بدا موجوداً بقوة، يطلُّ برأسه من تحت القمصان ، ويخلِّف نتوءاً ظاهراً فوق وجه صدرها الذي كان حتى فترة قريبة عجينة ملساء.

شعرت جميلة أن شيئاً ما يتغير في حياتها.

 شيء مهم ومفصلي.

 وتأكدت أحاسيسها حين أحضرت لها والدتها حمالة للنهدين.

 “من الآن فصاعداً ، سترتدين الحمالة طوال حياتك”.

وبدا وجود نهديها ، جزءاً جديداً في جسدها ، عليها أن تتعلم كيف تتعامل معه، وكيف تخفيه عن العيون.

 لكنها استغربت اهتمامها المفاجئ بهذا الجزء الطارئ على جسدها ، وأشعرها ذلك بالإثارة والفرح.

كانت تنام كل ليلة وهي تتحسَّسه تحت الغطاء .

تعاين استدارته بيديها.تحاول أن تقيس نموه ، وتشعر به يتجاوب مع لمساتها ، ويتشكَّل فوق كفها بأمان.

وفي الصباح ، تهرع إلى المرآة ، وتكشف عن نهديها الصغيرين ، لتعرف ما إذا كانا ينموان خلال النوم ، وهل باتا بحجم نهدي أمها أم لا .

في السادسة عشرة من عمرها ، نضجت إطلالة نهديها بشكل كامل .

كانت تعرف من المقارنة مع رفيقاتها ، أنها تملك لمسة أنثوية ثمينة ، تشدُّ خيوط النظرات إليها ، كما تجذب أغصان الدبق العصافير.

احتارت ماذا تفعل بثدييها .

هل تطلقهما بجرأة وحرية ، من خلال القمصان التي تتيح إبراز هذه المنحوتة الأنثوية الرائعة ، تماماً كما تُبرَز لوحة فنية جميلة في المعرض ، عبر ضخِّها بمصدر للنور؟ أم تداري اندفاعهما خلف الملابس الفضفاضة؟

كانت علاقتها خاصة جداً بنهديها.

استشعرت أنها تتفرَّد بهذا الاهتمام والشغف عن بقية نساء العالم.

لم تغفل يوماً واحداً في حياتها ، التأمل بهما أمام المرآة ، وتحسُّس بشرتهما الفائقة الرقة والخجل.

تسافر بهما في خيالها ، وتلبسهما حللاً ومشاهد شديدة الهذيان والابتكار.

ترى الواحد منهما ملاكاً مرفوعاً بجناحين فوق ضباب الفجر ، يعوم على وجه بحيرة شفافة ، تطفو فوقها ورود ربيعية تنضج عطراً أخَّاذاً يملأ الأرض والسماء.

أو ترى وجه شاب وسيم حرَّك مشاعرها في إحدى اللقاءات، مطبوعاً فوق ثدييها ، ومنهما يقفز إل المرآة ويحدق بها مسحوراً.

وتتساءل مرات كثيرة عن هبة الجمال التي خلعها الله على النهدين.

هكذا، جمال مجاني ، يجعل المرأة عمقاً للانبهار والجوع ، لا يُسبَر غوره. عنايتها بثدييها فاقت كل الحدود .

 في الحمَّام ، تدللهما ، وتدعكهما برقة بالصابون والعطور ، وهي تخاطبهما بعبارات مشحونة بالحب والقربى.

تحسب أنهما يصغيان إلى أحاديثها .

تخبرهما عن أحلامها ، وأحداث نهارها ، ومشاريعها ، وأحزانها. تراهما يحدِّقان بها فرحين.

هكذا ! تلمح من خلف سفرها، نهديها يعطفان عليها ، ويطلقان في أحاسيسها دغدغة وجود حميمي تستسلم له ، وتبوح.

انعطفت مشاعر جميلة في العشرين ، إلى الحب.

تحرَّكت أقاصي كيانها دفعة واحدة ، ونمت علاقة أولى بخفر واندفاع. في العتمة ، ذاقت قبلتها الأولى، فاحترقت أطرافها بلحظة، وسمعت صراخ النار التي اشتعلت في صدرها.

 كان زمن أشبه بالسحر ، شلَّ أحاسيسها المتشابكة والمبهورة، وحوَّل المدى من حولها إلى محيط من اللذة.

ثم رحلت يده إلى نهدها تستقي المزيد.

استيقظت فجأة مسامها ، كأنها اختُرقت بسكين، وانتفض جسدها ملسوعاً من وقع التعدي.

لم تعرف كيف عاجلته بصفعة ، أعادته إلى وعيه ، ثم راحت تصرخ في وجهه المصعوق:

– ” لا تلمس نهديي، أنت لا تعرفهما. كيف تجرؤ، وهما لي ، لي وحدي أنا ؟”.

اعتذر منها سريعاً ، ثم اعتذر مطولاً على مدى أيام . ظنَّ أنه تسرَّع في خطوته ، وأنها لا ترغب بإشعال الجنس بينهما قبل أوانه.

استعادت هدوءها وحبها ، وغفرت له جهله.

وحين وثقت مع الأيام بعمق مشاعره ، بدأت تدخله شيئاً فشيئاً عالمها السري، وتلقِّنه مبادئ علاقتها الحميمة بثدييها.

ظنَّ، بدايةً ، أنها تبوح بإيحاءات جنسية كانت تستثير فيه لذة عارمة . ثم لاحظ شيئاً آخر، وأبعد ، فتملّكه الذهول.

بعد مرحلة التلقين ، كأنه مبتدئ في جمعية سرية ، أدخلته يوماً المنـزل بغياب أهلها. وفجأة، شاهد نفسه أمام نهديها العاريين.

-” تعال، اقترب “، أوحت له بسكينة.

أمسكت يده ، ورفعتها إلى ثدييها.

– ” فتحت لك أعماقي، لتدخل.

دعوتك لتلمس صدري لأني أحبك .

 أنت تعرف أن نهديي هما مرآتي.

 يعيشان معي أجمل اللحظات ، وأكثرها حزناً .

 وهما في حدسي ، أرض السحر والنداء.

أنوثة مجانية ، تخصِّبها الشهوة في عيون الآخرين.

 ولكنهما وجود يذهب بك أبعد من حدود الاكتفاء السريع.

رأس الحبيب يشعر فوق الصدر  بأمان القبول والحب.

وألام تروي الكون بنهديها.

الحزن يفتح جروحه تحتهما، ويشعل ناراً صغيرة قبل أن ينطفئ. والفرح يجعل الصدر أرحب من سهول القمح.

في وقت اللذة ، أشعر بهما يسبقانني إلى المغامرة ، ويجرَّان ترددي خلفهما. وحين تغمرني بحنان ودفء ، يغفوان كطفلين ، ويطلقان في حلقي تنهيدة الأمان والامتنان.

ألا تشعر بهما يقبِّلان كفك؟

تحسَّس هذه النعومة الفائقة المنسدلة فوق بشرة نهديي، كمطر صباحي.

 أي مدى آخر يمنحك هذا الإحساس؟

أي سرٍّ في سطوتهما على الحواس، وهما يشبهان كل نهود النساء حول العالم، ومع ذلك ، يختلفان عن كل النهود ؟

وهذا هو أعمق أسرار الاختلاف برغم التشابه. وما من امرأة يشبه ثدياها ، ثديي امرأة أخرى فوق الأرض. ما الفرق؟ ما هو السر؟

أنت ، قل لي.

هل بدأت تشعر بما أقول ؟

هل بدأت تفهم ؟”.

ولكن ، كل ما كان يشعر به ، هو هذه اللذة التي اقتحمت حواسه ومسامه، وهي تكاد تنفجر ناراً في عينيه.

 أسلمته نهداها للعبث ، وهي تعرف أن أفكاره لم تطأ أرض عالمها الغامض ، وأنه ما زال يحبو فوق مسافات الشهوة القصيرة.

كانت هذه العلاقة مجرد حب وانتهى.

 تعاقبت المشاعر والوجوه ، ولكن شيئاً واحداً كان ينمو وينضج في حياة جميلة ، وهو علاقة السحر التي تجمعها بثدييها.

لا تنسى جميلة وقع إطلالتهما النافرة ، كلما دخلت مكاناً ، أو التقت عيون الرجال بجرأة حضورهما. لم تكن تستحث الشهوة والإعجاب عن قصد . كانت تريد أن تبدو كما هي على طبيعتها ، مرتاحة مع نهديها ، وفرحة بهما.

وهذا الثدي الأيمن بالذات، ألم ينسج قصة حب مع الكثيرين؟

واحدة على الأقل ، ستظلُّ محفورة في حسرتها.

القصة مع زميل يرافقها منذ سنوات.

 متزوج ” مع الأسف ” ، تبوح لنفسها.

 فلطالما حرَّكت وسامته رعشات قلبها ، ولطالما أشعل قربه الجسدي منها، رغباتها وراحتها.

 ولما كانت غير قادرة على إنشاء علاقة حب بكل كيانها ، اكتفت بمعاشرته بنهدها الأيمن.

 وهذا كان يرضيها كل مرة ، ويمنحها الإحساس بالثقة ، وينسج في خيالها قصصاً وهمية تكتبها في خيالها، وفي عالمها السري.

شعرت جميلة منذ اللحظة الأولى ، أن جاذبية نهديها أطاحت بجدية هذا الرجل وأمانته الزوجية ، على الأقل فكرياً .

وهي لم تسعَ يوماً إلى العبث بثبات حياته .

وهو كذلك ، كان وفياً في تصرفاته لعائلته وجديته. لكن أمراً واحداً لم يقدر على لجمه، وهو نظرة الانبهار التي يسددها بهدوء وتأن إلى نهد جميلة الأيمن.

لماذا الأيمن؟ لأن مكتبه يقع إلى الجهة اليمنى من مكتب جميلة ، ولا يفصل بينهما سوى واجهة زجاجية .

حين تمشي جميلة صباحاً إلى مكتبها ، أو حين تجلس فيه ، يكون ثديها الأيمن دائماً مواجهاً لعينيه. وهو يتأمل ، ولا يشبع .

 بخفر ، وهدوء ، وبدون انفعالات الشهوة وحرارتها.

يعرف أنها تعرف، وتلمح ، وتشاهد نظراته مسكوبة طويلاً فوق هذا الموج المتدفق من جسدها.

 ويعرف أنها لا تنـزعج ، لأنه واحد من المنحنين تكريماً لهذا الوهج الغريب. ليس وقحاً ، ولم يُلمح لها مرة بأي رغبة بكسر الحواجز.

هو رجل شعر بان سر النهدين ، لا يؤجج بالضرورة شهوة الجلد العابرة ، ولكنه مصدر تأمل وحب.

وكان هذا الرجل يحب نهديها. وجميلة أباحت له هذا الحب…

قصة أخرى لنهدي جميلة ، نسجتها مع البحر.

تشعر برعشات الماء من حولها ، وتنهدات صاعدة من عمق البحر ، تحوم حول نهديها، قبل أن تداعبهما برقة ، وحده الموج الرقيق قادر عليها.

ثم تؤخذ بإحساس جميل، يريح أطرافها ، وأعضاءها ، وكل جسدها المستسلم لكف المياه، وهو الإحساس بثدييها يطفوان فوق وجه البحر ، فيجعلان جسدها خفيفاً كالريح ، ومسترخياً كطيور النورس السابحة في العراء.

كم عبَّت من تلك اللذة الفريدة! وكم كافأت نهديها بمداعبات البحر!

واليوم تداعى عالمها السحري بلمحة ، وطعنتها الحياة في صدرها .

 من يشفي تلك الندوب التي سيخلفها سكين الجراح ؟

كيف تواسي نهدها الذابل، المعطوب في رونقه وجرأته  وثقته بسحره؟

كيف تخاطبه ؟

وهل سيقبل بعد اليوم لمساتها وحنوها عليه؟

وكيف يعيش الآخر مع توأم هدَّه السرطان؟

هل قُدِّر له أن يذوي بدوره، كما يموت التوائم في وقت واحد؟

كيف ستخاطب المرآة؟

ولمن تبوح وتروي قصص حياتها، وتقلب مشاعرها وهمسات قلبها؟

من يحنو على جميلة بعد اليوم؟

 ومن يشاطرها أحاسيسها الغريبة؟

وذلك الزميل المبهور منذ سنوات بحضور نهدها الأيمن في حياته ، أين سيصوِّب نظراته؟

ومن يملأ له فراغ الألفة؟

والبحر ، هل يقبلها مرضوضة الثدي ، بعدما عاشر نهديها طويلاً؟

استفاقت جميلة من رحلة الأيام الثلاثة ، مرهقة ، ومسلوبة الثقة والوضوح. خرجت من غرفتها ، زائغة النظر ومشلولة.

 احتضنتها أمها بضحكة الارتياح وكلمات التشجيع.

غلّت جميلة في صدرها ، ترتاح فوق نهديها المكتملين.

عاودها الألم بكل سطوته الفائقة ، وتراخت أعصابها دفعة واحدة.

غفت جميلة فوق صدر أمها كطفلة هاربة من كوابيسها.

غفت طويلاً وهي تتمنى في ذاتها ألا تستفيق سريعاً ويلمع في وجهها نصل، سيطعن في حياتها السرية طعنة قاتلة.

تاليف الاديب : سمير فرحات – لبنان

اقرأ للكاتب : 

وجوه الموت “قصة قصيرة”

شكرا للتعليق على الموضوع

أضف تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *