وجوه الموت “قصة قصيرة”

كان يرى الموت أمراً مقبولاً .

 هكذا ظنَّ في إحدى المراحل ، حين كانت روحه متقدة وواثقة مما تقرأه في الكتب . طفلاً ، رأى الناس يموتون .

وحدهم العجزة ، الطاعنون في الشيب وبطء الحركة والترهل والخرف ، كانوا يصلحون للموت ، ويهوون في حفرة تليق بهم . الثياب السود ، وكلمات الرحمة ، والموسيقى الجنائزية ، ومشهد التابوت محمولاً فوق رؤوس المسيرة ، وأصداء جرس الحزن التي تصيب الناس بالجمود والوجوم ، وإعلانات الموت التي تُلصق على الأعمدة والحيطان، والمآدب الخفيفة التي تقام في المناسبة لسدِّ رمق المحزونين والنادبات …

كلُّ هذه العناصر السوداوية التي تكسر تدفق الحياة في أحد الأحياء، لم تكن إلا كليشيهات نموذجية لحدث عادي عَرَفَ أن اسمه الموت .

ولم يعد يذكر من كان أول شخص أطلعه على وجود هذا الحدث ، عبر رحيله . لم يكن هذا الحدث شديد التأثير في وقع حياته وخياله ومشاغله المتعلقة بلعب الكرة في أحد الأزقة الجانبية .

كان يكفي أن يذهب أهله إلى الدفن ، طالبين منه عدم الاقتراب من المكان الذي تجري فيه مراسم الموت ، حتى ينصرف هو إلى رفاقه ، فيتجمعون في حي آخر ، كي لا يزعج صراخ لهوهم الميت وأهله .

 فلا يجوز أن يلهو الأولاد أبداً قرب الموت، لأن الموت حدث جدي وحزين ، ويجب أن نهاب كل ما يحيط به من أحاديث وتصرفات ومراسم وتقاليد. كانت هذه الأمثولة الأولى التي تعلَّمها عن الموت !

لكنه لم يقتنع بسهولة بالتعليمات التي كانت توجَّه إليه . ومراتٍ ، وجد في نفسه الحشرية الكافية لمغافلة أهله ، والاقتراب كثيراً من المنطقة المحرَّمة على الأطفال . وفي إحدى المرات لمح النسوة متحلقات حول الجثة .

وكان هناك تناوب بين الصمت والندب ، وسط زحمة المحتشدين في المنـزل وخارجه . وشاهد الرجال خارج المنـزل ، يدخنون في حلقات صغيرة، ويتحادثون ، كأنهم في تجمعهم يبحثون عن المؤازرة وطرد الأشباح .

أصابته كل هذه المشاهد بالصدمة والإرباك ، كأنه أمام لغز لا يفقه دهاليزه إلا الكبار . وكان يبكي لمجرد سماعه نحيب الباكين ، من دون أن يعرف على من يبكون ، ولا لماذا.وتكوَّنت لديه قناعة مع الوقت وهي أن الموت واحد من الأشياء غير المفهومة تماماً بالنسبة إليه .

وعلم بحدسه أن هذا الحدث هو ربما أكثر الأحداث غموضاً في الحياة . وكان ذلك بمثابة أمثولة ثانية بالنسبة إلى الطفل الذي كانه ، ولكنها أمثولة شكَّلت تحدياً بالغاً له ، انكب لسنين طويلة فيما بعد على الإطاحة به ، وتفكيك شبكات الوقاية من حوله ، وإيجاد الأجوبة المتشعبة على الأسئلة البسيطة التي يطرحها هذا التحدي . وهكذا بدأت مسيرته للتعرِّف على الموت .

 باكراً جداً ، راقب الكهنة المتشحين بالسواد يتولون مهمة الإشراف على رحلة الإنسان الأخيرة . يرافقونه بالشموع والصلوات ، واثقين من وجهة السفر .

كانوا آخر الملوحين عند رصيف محطة الوداع ، يغلقون بعدها أبواب العودة .

 اقتنع أنهم يحملون بلا شك مفاتيح أقبية اللغز ، فحاول الإنصات إلى ما يكشفونه في كلامهم من إشارات تقود بحثه عن المعنى .

فعرف منهم أن الموت باب للمحكمة ، وفي داخل هذه المحكمة ، عرش وإله وأناس محتشدون يميناً ويساراً ، يواجهون المصير الذي يستحقونه .

 وفي وسط هذه الصورة الأخيرية ، تسرَّب من فم الكهنة كلام عن حياة بعد الموت. كان كلاماً قليلاً ، لم يهتم الرجال السود بالتركيز عليه ، لأن هدفهم كان في مكان آخر ، وهو أن يجعلوا الناس يخافون من الخطيئة ، والمصير الذي تقود إليه ، أي العيش في جحيم “ناره لا تنطفئ، ودوده لا يكلُّ “.

لكن المهم أنه عرف منهم أن هناك ” شيئاً ما ” بعد الموت .

وهذا بالضبط ما كان يثير خياله ، ويشعل فيه القلق الأكثر إلحاحاً وطغياناً .

الباقي لم يكن يعنيه .

 فالندم حالة يمكن السيطرة عليها ، وتدجينها ، بعكس الخوف من الموت .

 وهكذا عرف أن الحياة لا تنتهي ، وهناك أدلة عدة يعرفها أصحاب المعرفة ، منها إيقاظ لعازار بعد دفنه بأربعة أيام.

والأهم عودة رجل يدعى يسوع من العالم الآخر .

ولكن شيئاً واحداً لم يخبر عنه يسوع بعد عودته، وهو كيف هي صورة الحياة هناك. بدايةً ، لم يكن هذا الأمر مهماً .

فهذا جزء من اللغز ، لكنه جزء أقل أهمية من المعرفة الأساسية .

 هذه المعرفة التي تقول إن اختفاء الجسد بعد الموت ، ليس سوى وهم ، أو على الأقل حقيقة ناقصة ، لأن عيوننا تعجز عن اختراق الحجب .

 والحقيقة الكاملة هي أن هناك جسداً آخر بانتظارنا ، وحياة أخرى ، وسفراً باتجاه جديد.

وهذا ما دفع الطمأنينة إلى صدره ، وجعله يتوغل أكثر في حياة الإيمان .

 الإيمان بالمقوِّمات الرئيسية للماورائيات ، أي وجود حياة أخرى بعد الموت .

أما الوصايا، وصورة الله ، وطقوس العبادة وغيرها ، فكلها تأتي في المرتبة الثانية . فمشكلته هي مع الموت بحدِّ ذاته ، وهنا يجب أن يخوض المعركة .

بهذه الوداعة الإيمانية عَبَرَ مرحلة الطفولة ومن بعدها المراهقة .

 ثم استفاقت حشريته من جديد عندما بدأ بالاطلاع على كتب الفلاسفة ” وبراهينهم ” العقلية في ما خصَّ الوجود، وكيفية الخلق ، وحتمية وجود خالق وعالم آخر غير عالمنا المادي .

راقت له كثيراً رياضتهم الفكرية ، واستنتج أن الفلسفة هي قلق العقل في بحثه عن المعنى ، فبدأ عقله بالقلق. وقادته السببية مرغماً إلى الإقرار بوجود من هو خلف المسرح .

” عظيم جداً” قال في نفسه ، فالموت إذاً ليس سوى نقص في المعرفة .

 أنا لا أعرف ، إذاً أنا أخاف. حتى جداتنا كنَّ يقلن مثل ذلك .

 وبدأت عقلانيته منذ تلك المرحلة تنمو وتكبر وتأخذ لها موقعاً بارزاً في طريقة تحليله للحياة وإدارة شؤون تساؤلاته والعقبات التي تبرز في الطريق .

بعد الإيمان ، الذي يتطلب تصديقاً لما هو غير منظور ، من خلال حدث منظور ورد في رواية أو تناقلته الألسن ، أو حتى كنا على تماس مباشر معه ، والذي أدخله في طمأنينة ساكنة في ما يتعلق بالحياة الأخرى وغياب الموت بشكله العبثي ، حلَّت مرحلة الفلسفة في حياته .

لم يندثر إيمانه من جراء طغيان العقل المحلِل ، ولكنه انطوى على ذاته ، وغاب عن أحاديثه وممارساته الطقسية .

وأصبح في هذه المرحلة ” مقتنعاً ” باستمرارية شيء ما من الحياة بعد الموت .

لا بد من ذلك ، لأن المسار الفكري الذي أوصله إلى هذه القناعة ، لا يحمل ثغرات منطقية .

من أوجد الإنسان هنا ، يمكنه أن يوجده في مكان آخر .

وأساساً ، إذا كان أوجده على هذه الأرض ، فلسبب معين ، ولا يمكن أن يكون ذلك عبثياً .

إذاً ، لا معنى بعد ذلك لأن نقول إن الموت هو نهاية الأشياء .

 ربما لا نعرف ، ولن نعرف ، شكل الاستمرارية ، ولكن هذا لا يلغي كون الموت مجرد محطة على الطريق.

 هذا ما أوصلته إليه الفلسفة ، فوجد ذلك حسناً ، لأنه مدماك آخر في عمارة مواجهة سراديب الموت ، يضاف إلى المعطيات الإيمانية ، لا بل يدعمها بالبراهين .

 في هذه المرحلة بالذات ، اطَّلع على نظرية التقمص.

 أن يموت الإنسان ويولد من جديد على هذه الأرض في جسد آخر ، كان أمراً جذاباً للغاية .

وما زاد في غرابة الموضوع ، روايات اللابسين جسداً جديداً ، التي يخبرون فيها ذكريات من الحياة السابقة ، يتبين فيما بعد صحتها ، كما يتبين أنهم تمكَّنوا من التعرف على بعضٍ من أهلهم ، وأخبروا أسراراً ما كان لأحدٍ غير المتوفى أن يطَّلع عليها . والتقى هو بنفسه أحد المتقمصين .

بهره بالقناعة التي يملكها حول حقيقة التقمص .

استمع إلى روايته المدعَّمة بالإثباتات ، مذ كان طفلاً غريباً ، يذكر أسماءً ليست من محيطه ،ظهر لاحقاً أنها أسماء إخوته وأهله .

راقت له الظاهرة كثيراً ، وبدأ يميل إلى الأخذ بها كواقع أخيري .

ومرات كان يظن أنها ربما لا تحصل مع الجميع ، وإلا لكان لكل إنسان ذكرياته وروايته الخاصة .

ولاحق بفكره جميع التساؤلات المطروحة حول التقمص .

 لماذا يحصل ؟

لماذا ” ينطق ” البعض ، فيما لا “ينطق” الآخرون؟ كم هو عدد مرات التقمص ؟ وغيرها من الأسئلة .

أغواه البحث ، وزاد في انكبابه على التحليل.

 لكنه ظلَّ يردِّد في ذاته بأنه لا يجوز له أن يجزم في أمر، ويأخذ به كقناعة تامة ، لأن الحياة بدأت تلقِّنه مبدأ اللايقين .

وكان هذا برأيه الدرب الصحيح لمقاربة علمية تتسم بالتواضع .

 أن يجزم يعني أمرين : إما التطرف إلى حدِّ الإغراق في النظرة الذاتية وإغلاق الباب أمام رحابة المعرفة ، وإما أن ما نجزم به لم يعد يثير جدلاً حوله .

وكانت فكرة التقمص طبعاً ، بعيدة عن نهاية الجدل حولها .

بيد أن هذه الظاهرة ، شجَّعته على مواجهة الموت من زوايا جديدة ، وساعدته على أن يطمس بها هواجس قديمة متعلقة بنهاية الحياة .

كان كل ما يجري في حياته من أحداث ومصادفات واطلاع على أفكار جديدة ، يستعمله لتحطيم رعونة القلق والمخاوف ، ويبدو أن طريقته عملت جيداً .

ثم لاح له اكتشاف لم يكن يتوقعه .

وظهر أنه كان له تأثير قوي عليه لسنوات طويلة .

اكتشف أن هناك من يعود فعلاً من الموت ويخبر عما جرى.

لعلَّ ذلك برأيه كان أهم من نظرية ” الانفجار الكبير ” التي ترسم بداية الحياة .

كان بعض الأشخاص الذين يتعرضون لحوادث وتتوقف قلوبهم لفترة عن العمل ، قبل أن ينجح المنقذون في إعادة النبض إليها ، يروون روايات غريبة .

 خلاصة ما ” يعيشونه ” في خلال توقف القلب عن الخفقان ،هي أنهم في لحظة ما ، بعد تعرضهم للحادث ، ينفتح أمامهم نفق لانهائي في امتداده، ويجدون أنفسهم سابحين في هذا النفق ، باتجاه نور ضئيل يلوح في البعيد.

يصلون إلى النور ، فيكتشفون أنه أقوى مما تخيلونه ، وأكثر سطوعاً حتى من الشمس ذاتها ، لكنه في الوقت عينه أكثر هدوءاً وإراحة للنظر والقلب .

وفي وسط هذا الضوء الآسر ، يلمحون أقرباءهم وأصدقاءهم المتوفين ، ويتحاورون معهم في ذهول تام .

 ثم ، وبطريقة غير متوقعة ومحيرة ، يدور شريط حياتهم أمام أعينهم بواقعية دقيقة . كل أحداث حياتهم ، ومشاعرهم ، ولقاءاتهم ، منذ الطفولة ، تعود حيَّة وحاضرة أمامهم .

كأنهم يشاهدون فيلماً سينمائياً ، ويمثلون فيه في الوقت نفسه.

يلفهم سلام عميق ، حتى وهم ينظرون إلى الأسفل ويشاهدون جسدهم الأرضي ممدداً بلا حركة ، والمسعفون من حوله يحاولون إعادة الحياة إليه.

وفي وسط هذا السلام ، يسمعون كائناً نورانياً يخاطبهم ، ويطلب منهم العودة إلى أجسادهم “لأن وقتهم لم يحن بعد”!

يحاولون التمسك بواقعهم الجديد ، والسلام الذي لم يختبروه من قبل ، لكن التجربة تنتهي عند هذا الحد، ويستفيقون بعدها فوق أحد أسرة المستشفيات ، أو في المكان الذي تعرَّضوا فيه للحادث .

اطلع على مئات الأحداث حول تجارب مماثلة ، بدت له كلها في غاية الإبهار .

 أخيراً ، انفتحت كوة على العالم الآخر ، بدَّدت غيوماً ثقيلة لا بد أن تحوم من وقت إلى آخر في باطن كل إنسان .

وما أعطاه دفعاً قوياً في المواجهة، هو تطابق معظم الروايات بشكل لا يمكن تفسيره بسهولة .

لابد إذاً أن ما يختبره هؤلاء الناجون ، ليس إسقاطاً ذاتياً ، يعكس توق الإنسان إلى إلغاء الموت ، إنما هو حقيقة موضوعية تمكنوا من أن يكونوا على تماس مباشر بها ، عند أبواب موت غير مكتمل .

ظلَّ لسنوات مأخوذاً بتأثيرات هذه التجارب على عتبة الموت. لكنه لاحظ أن مفاعيلها بدأت تخفت مع الوقت ، ومع ذلك لم يكن يبالي .

فقد بدأت حياته تتوغل في دروب قديمة ، أعادته إلى مستوى الإيمان الذي انطلق منه طفلاً في بحثه عن معنى الموت .ولكن إيمانه هذه المرة ، كان أكثر وعياً والتصاقاً بحياته اليومية .

لا يجد دائماً التفسير المناسب لما يحصل معه ، ولا يعرف تماماً كيف انطلقت سلسلة التفاعلات في نفسه، التي قادته إلى أبواب المعبد بوتيرة متقاربة ، وبالتزام لم يعهده من قبل. اختبر الفرح ، وسلام من يعرف ماذا تريد الحياة منه ، وما هو المعنى العميق للأحداث .

عاشر الصلاة بحرارة فاضت من محياه ، فتخلخلت جبال القلق التي كانت تجثم فوق صدره ، وذابت ككتل الملح أمام الموج.

كانت هناك ثقة في صلاته ، وهمد عقله فجأة عن طرح الشكوك العميقة . اطلع على كتابات الكثير من الملحدين ، والمشككين بالروايات المقدسة ، فلم يتزعزع.

 قال في نفسه إن مشكلة الملحد الأساسية هي الادعاء.

فكيف يمكنه أن يجزم بأي شيء، من غير أن يكون بمقدوره إثبات ما يذهب إليه؟

أين كان حين أسس الله الأرض، على حدِّ ما قال الله بنفسه لأيوب المتذمِّر ؟

 الملحد إنسان لا يريد أن يرى ، ويظن أن الإيمان بحاجة ماسة إلى براهين وإثباتات . ولكنه لا يقدم بديلاً منطقياً سوى القول بأن كل شيء عبثي.

 فهل العبث أكثر إقناعاً من الإيمان ؟

تفاعلت هذه الأسئلة في داخله ، ولم يجد أن بمقدورها اقتحام حصون طمأنينته المستمدة من هدوء ليال خاطب فيها الله ، وشعر به يمطر نداه المنعش في قلبه .

وظل على هذه الحال طويلاً ، ولم يعد الموت بنظره سوى انسلاخ عاطفي مؤلم ، لا بدَّ من أن يثير البكاء والحزن والحداد ، ولكن ليس اليأس والخوف … وكما في كل مرة ، بدأت الأحوال تتبدَّل ، من غير أن يعرف متى كانت حلقة البداية لإطلاق سلسلة التفاعلات التي تقوده إلى وعي جديد يتحكم بحياته إيجاباً أو سلباً .

فجأة شعر بالتعاسة ، وبشعور فاتر يتمدَّد في عروقه .

راح عقله يعمل في اتجاهات متناقضة .

 والمؤلم أنه بدأ يشدُّ به نحو الانتقاد .

وانصب هذا الانتقاد بمعظمه على حالات الصلاة .

لاحظ مع تعاقب الأيام ، أنه لم يعد يصلي بشكل حقيقي .

لم يعد يشعر بأي شيء، وكل ما يفعله هو مواصلة محاولة الصلاة ، لكن هذا كان جزءاً من المعاناة.

الجزء الأكثر إزعاجاً وتأثيراً ، كان شعوره بأنه عارٍ وبلا أسلحة في مواجهة واقع الموت.

الإيمان لم يعد يسعفه ، وهذه هي الطامة الكبرى.

سأل نفسه في غمرة تخبطه : ماذا يفعل الإنسان حين يفقد إيمانه ؟ ما ذنبه في ذلك ؟ وهل الإيمان يُصنع بالإرادة ؟ بدا الله ضبابياً جداً في هذه الصورة ، وزيارته إلى الأرض لم يعد لها الوقع نفسه في روحه .

 لم يعد يعرف إذا كان يصدق أم لا ، كل تلك الأحداث التي جرت في خلال هذه الزيارة، وخصوصاً واقعة القيامة من الموت .

المهم أن الأمر لم يعد يؤثر فيه، وهذا ما رفع منسوب القلق .

وراح رأسه يمتلئ بالشكوك ، ولكن حتى هذه الشكوك لم تكن واضحة. فقد كان هناك أمر واحد طغى على كل ما عداه في هذه الحالة ، وهو البرودة .

كانت حالاته النفسية تتعقد وتتشابك ، وتتأرجح بين الغضب من نفسه والذي تحوَّل مع الوقت إلى عصبية وحزن ، وبين الشكوك والأسئلة المقلقة ، وفقدان الطمأنينة والضياع . بدا ضائعاً للغاية ومبهماً .

حاول أن يستلهم كل المراحل والخبرات التي اختزنها ، والتي كانت تعود عليه بالسلام ، فلم تسعفه .

استعاد مراوغات الفلسفة الفكرية ، ومعادلاتها المنطقية التي تتحدث عن الصانع والمصنوع، والعلة والنتيجة .

تأمل الطبيعة وصياغتها الجميلة ، وتناسقها ، ورونق اتزانها ، ودقة ترابطها ونظامها المذهل ،فلم يتحرك في داخله أي إحساس فائق .

تاه وسط عاصفة باطنية لا يعرف كيف يفسرها أو يتغلب عليها .

وعاد الموت من جديد يسكن لياليه ، ويشده إلى صور الخواء ، وحفر سوداء بلا قعر . كان دائماً يقول في نفسه ، إن الإيمان هو الأساس الذي تُبنى عليه الفلسفات وطرائق الحياة.

 لن تفيده الفلسفة بشيء ، إذا لم ترتكز على الإيمان .

 ستزيد خواء على خوائه ، وبرودة على جفافه. مال إلى دروب التقمص ، مستنجداً بعزائها ، فوجدها قصوراً رملية معبأة بالأحلام والرغبات ، ولكنها عاجزة عن إطفاء الخوف الذي يتقمصه.

ليس المهم أن نعيش مرة واحدة أو آلاف المرات ، المهم كيف يتأكد من أن النهاية ليست نهاية .

 وهل ما لا نراه حقيقي أكثر مما نراه .

نحن نرى الموت والعدم وتفكك عناصر الحياة.

 ونريد أن نؤمن أن هناك المزيد .

لماذا لا نرى هذا المزيد ؟ من يحجبه عن أعيننا؟ وباسم أي هدف؟

تذكر أن هناك من اخترق الحجب ، وشاهد ما شاهد ، وأخبر روايات مذهلة لا يمكن إلا أن تدفع الطمأنينة إلى نفوسنا.

 لكن هل فعلاً ما شاهدوه حقيقي ، أم أنه وهم آخر من صنع الدماغ؟ على أي حال، يجزم العارفون بالدماغ ، أن بإمكانه أن يلعب ألاعيب مماثلة، ويصنع الأوهام والأحلام ، وخصوصاً في الظروف الحرجة ، كالتي يعيشها المشرفون على الموت.

تحوَّلت الأرض تحت قدميه إلى رمال متحركة.

وظلَّ يكافح بصمت من أجل استعادة ثقته بنفسه. لكن الأسئلة لم تصمت ، والخوف لم يتراخ. لماذا الموت؟ لماذا أصلاً الحياة؟

لماذا هذه التعزية المخدِّرة بأن الله يريدنا إليه بالإيمان؟

لماذا الوعي إذا كان سيعذبنا إلى هذا الحد؟

هل العقل هو المشكلة ، لكثرة ما يطرح من شكوك، أم هو القلب الذي تحجَّر عن معاينة أسرار الوجود الفائقة؟

لماذا؟  لماذا؟  لماذا؟

حاول بعناد رهيب أن يخلِّص نفسه من هذا الفخ، مثابراً في كل مرة على أن يحيا بعدل ويضرم في صدره جذوة قهرتها العواصف.

 كان قلقاً وخائفاً. وكان يواصل طرح الأسئلة ومحاولة إيجاد الإجابات. وكان يبحث في عمق الحياة ، في قعرها المعجون بالأنوار والرذائل.

كان يريد بقوة أن يفهم الموت ، ويواجهه ، ولا يخاف. تأرجح بين العذوبة والقلق ، وبين التضرع والجفاف ، وبين تجاذبات عقله والقلب. كان في هذه الحال… حين مات فجأة!

تاليف الاديب : سمير فرحات – لبنان

اقرأ للكاتب : 

رواية ” بنات خودا” جديد الكاتب سمير فرحات

شكرا للتعليق على الموضوع

أضف تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *