حسن الحضري يكتب : الضاد والظاء في قصيدة عائشة الباعونية
هي عائشة بنت يوسف بن أحمد بن ناصر الباعوني، نسبتها إلى باعون (من قرى عجلون، في شرقي الأردن)، وُلِدت في دمشق، وتوفِّيَت فيها سنة 922هـ [«الأعلام» للزركلي (3/ 241)]، وقصيدتها التي نتحدث عنها في هذا المقال موجودة في ديوانها «فيض الفضل وجمع الشمل» (ص 76- 77)، تحقيق ودراسة وشرح: الدكتور مهدي أسعد عرار؛ وهي قصيدة من أربعة عشر بيتًا من بحر البسيط، تقول في مطلعها:
كيف احتيالي وقلبي للهوى عَرَضُ= وليس لي في السِّوَى قصدٌ ولا غَرَضُ
وهذه القصيدة مِن رَوِيِّ الضاد المعجمة المضمومة، عدا أربعة أبيات منها وردت بِرَوِيِّ الظاء المشالة، منها ثلاثة أبيات متتالية، هي:
ولم يرقُّوا لحالي في ملامِهِمُ= ولا رعوا لي ذمامًا لا ولا حفظوا
ونوَّعوا الوعظَ في عذلي ولو عدلوا= وأنصَفوا لنفوسٍ منهمُ وعظوا
لكنَّهم إنْ أسَوْا في العذل إنَّهمُ= قد أحسنوا بمرورِ الذِّكرِ مُذْ لفظوا
والبيت الرابع هو قولها:
كتمتُه زمنًا حتى غُلِبتُ به= فشاع مكنونُ سرٍّ كان ينحفظُ
وذكر محقق ديوانها في تفسير ذلك الخلط بين الرَّويَّين «أنها تعتمد في ذلك على هيئة قراءة الضاد في بعض البيئات واللهجات، فقد تُقرأ ظاء كما في قولنا في بعض عامياتنا (الأرظ) مكان قولنا (الأرض)» [الديوان ص 76]، وهذا الذي ذكره المحقق له وجه، لكن لا أراه جوابًا شافيًا؛ والذي أراه هو أن تلك الكلمات التي وردت برويِّ الظاء المشالة في هذه القصيدة لها أصلٌ آخر تعرَّض للتصحيف، ربما أكثر من مرة؛ وذلك على النحو الآتي:
قولها (ولا رعوا لي ذمامًا لا ولا حفظوا) الأصل فيه (حَفَضوا) ثم تصحفت؛ يقال: حَفَّضَ [بتضعيف الفاء] الله عنه؛ أي: خفَّف [«لسان العرب» لابن منظور (7/ 138)] وتخفيف التضعيف جائز في الشعر لضبط الوزن، ويكون المعنى أنهم لم يقلِّلوا أو يخفِّفوا من ملامها.
وقولها (وأنصَفوا لنفوسٍ منهمُ وعظوا) الأصل فيه (لَعَضوا) ثم تصحفت فأصبحت (وعضوا)، ثم صحَّفوها مرة أخرى فاشتقوا لها من (الوعظ) المذكور في صدر البيت، فأصبحت (وعظوا)؛ يقال: لعَضَه بلسانه؛ إذا تناوله؛ وهي لغة يمانية [«لسان العرب» لابن منظور (7/ 227)]، وعلى ذلك يكون المعنى أنهم لو كانوا عادلين لتناولوا أنفسهم باللوم بدلًا من عكوفهم على لوم الشاعرة.
وقولها (قد أحسنوا بمرورِ الذِّكرِ مُذْ لفظوا) الأصل فيه (وَفَضوا) ثم تصحفت فأصبحت (لفضوا)، ثم تصحفت مرة أخرى فصارت (لفظوا)؛ يقال: أوفضتُ لفلان: إذا بسطت له بساطًا يتقي به الأرض [«لسان العرب» لابن منظور (7/ 250)]، وعلى ذلك يكون المعنى المقصود في البيت أنهم قد أحسنوا منذ صاروا إذا ذُكِرتِ الشاعرة عندهم؛ حفظوا غيبتها فلم يتعرضوا لها بسوء.
وقولها (فشاع مكنونُ سرٍّ كان ينحفظُ) الأصل فيه (ينحفض) ثم تصحفت، يقال: حَفَضَ العُودَ؛ أي: حناه وعطفه [«لسان العرب» لابن منظور (7/ 137)]، والمعنى هنا أنه قد شاع سرٌّ كان منطويًا في صدرها.
وبذلك تكون الفصيدة موحدة الرَّويِّ بالضاد المعجمة، ولعل هذا هو التوجيه المناسب لطبيعة ذلك التنوع في قافية القصيدة بهذين الرَّويَّين، ولا سيَّما في ظل كثرة التصحيف الذي يقع من الناسخين والناشرين، وقد قيل عن الشاعرة: «ونالت من العلوم حظًّا وافرًا، وأجيزت بالإفتاء والتدريس، وألَّفت عدة كتب؛ منها: (الملامح الشريفة والآثار المنيفة)، و(در الغائص في بحر المعجزات والخصائص) وهو قصيدة رائية، و(الإشارات الخفية في المنازل العلية) وهي أرجوزة اختصرت فيها (منازل السائرين) للهروي، وأرجوزة أخرى لخصت فيها (القول البديع في الصلاة على الحبيب الشفيع) [«الكواكب السائرة بأعيان المئة العاشرة» للغزي (1/ 288)]، وقيل: «والذي أجمع عليه العارفون أن عائشة هذه بين المولدين تزيد عن الخنساء بين الجاهلين» [«الدر المنثور في طبقات ربات الخدور» لزينب فواز (ص 293)].
وهذا لا يمنع بالضرورة احتمال وقوعها في الخلط بين رويَّيْن على النحو الوارد في قصيدتها هذه، لكن أرى أنه حيثما وُجِد مَخرج مناسب فالأولى تقديمه ما لم يتعارض مع بيِّنةٍ تؤكد وقوع تلك الأخطاء مِمَّن نُسِبتْ إليه.
الكاتب : عضو اتحاد كتاب مصر
اقرأ للكاتب
حسن الحضري يكتب : العمل البحثي بين المنهجية والتخريب