فؤاد الصباغ يكتب : إنقلاب العسكر السوداني”تلبية لنداء الشعب أم تكريس للمزيد من الفوضي؟”
إن إنقلاب العسكر السوداني علي نظام حكم عمر حسن البشير الذي كان يعاني لم يحل بدوره المشكلة بذلك البلد الثائر و الهائج علي أوضاعه الإجتماعية و الإقتصادية التي أصبحت في مجملها في الحضيض, بل كان بمثابة الصاعقة التي ضربت تلك الحشود الشعبية بالملايين و المطالبة برحيل جميع رموز النظام السابق. فتلاوة البيان الإنقلابي الأول من قبل الجنرال السوداني عوض إبن عوف كان بمثابة مجرد صفعة خلع للرئيس الأسبق, فذلك البيان كان في محتواه مشابها كثيرا لإعلان إنقلاب الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي علي الإخوان المسلمين. لكن في التفاصيل الجزئية كانت تكمن خفايا و ألغاز عميقة بحيث تم ذكر كلمة “إقتلاع النظام” مما يعني أن البلاد متجهة نحو تغيير جذري للنظام السوداني السابق برمته. بالإضافة لذلك يشكل هذا الإنقلاب منفذا لدخول أطراف أجنبية علي الخط منتهكة بذلك السيادة الوطنية السودانية التي تحوم حولها أطماع إقليمية و مادية خاصة منها حقول النفط و الغاز. إذ بعد الإنفصال عن إقليم دارفور لم تهدأ عمليات التحريض السياسي الداعية للتمرد و العصيان المدني من قبل بعض رموز المعارضة السودانية خاصة منها من قبل المعارض السوداني الصادق المهدي و حاليا من قبل جبهة قوي الحرية و التغيير. بالنتيجة أصبح المشهد الحالي يشكل نذير خطرا حقيقيا علي الأوضاع الإجتماعية و الإقتصادية لأغلب الطبقات الفقيرة السودانية خاصة بعد رفض الشعب لذلك المجلس العسكري الإنتقالي الأول مما أدي بالنتيجة إلي إعلان إستقالته و تشكيل مجلس عسكري إنتقالي ثاني تحت إشراف المفتش العام للقوات المسلحة السودانية الفريق أول عبد الفتاح البرهان. أما بخصوص اللجنة السياسية التي تشكلت مباشرة بعد هذا الإنقلاب لم تخفف قراراتها إلي حد الآن من غضب الشعب السوداني المتواصل و المتصاعد و المطالب بإزالة جميع رموز النظام السابق بحيث بدأت تتشكل في هذا السياق سيناريوهات مستقبلية في مجملها فوضوية.
تأزم الوضع الإجتماعي و الإقتصادي
مع مطلع هذه السنة خرجت الجحافل الشعبية و ذلك بنسق متزايدا و متناسقا و بصرخة واحدة تقول “إرحل يا بشير”. فبعد مرور شهور دموية و قمعية, أسقط بالنتيجة إنقلاب العسكر السوداني رأس النظام السابق المتمثل في عمر البشر لتسقط بذلك ورقة أخري من شجرة بما يسمي بالربيع العربي التي إنطلقت منذ سنة 2011 من تونس لتعصف عدواها بأغلب رؤساء الدول العربية الواحد تلو الآخر. مما لا شك فيه تعد هذه الثورات المتتالية في جوهرها منعرجا جديدا لطموحات شعوب عربية راغبة بالتغيير الفعلي و الواقعي من أجل تحسين ظروفها الإجتماعية و خاصة منها القدرة الشرائية و تلبية الحاجيات الأساسية. فخروج تلك الجحافل الشعبية السودانية لم يأتي من فراغ بل كان من ورائها دوافع مادية ملموسة بسبب الفقر و الحرمان و نتيجة لسياسة البشير التهميشية و المحسوبية التي لم تراعي في مجملها الحد الأدني لحقوق أغلب تلك الطبقات الفقيرة و التي أصبحت تعيش في سجون أوطانها بحيث سلبت منهم إرادة الحياة و قمعت فيها حرياتهم الفردية و عطلت فيها إطاراتهم العلمية لتتحول بذلك إلي ساحة فساد مالي و نهب للثروات الوطنية في ظل غياب كلي للحوكمة الرشيدة. إن الشعب السوداني مل من حكم نظام البشير الذي جثم علي صدورهم طيلة ثلاثين عاما بحيث فقرت البلاد و حقرت العباد و تحولت الأوضاع الإجتماعية بشكل كامل و شامل من السيئ إلي الأسوأ. كما أنه مع تراكم تأزم الأوضاع الإقتصادية خاصة منها قرارات الرئيس البشير في أواخر سنة 2018 عبر رفع أسعار المحروقات و فرض بعض الضرائب الجبائية الإضافية لتغطية العجز في الميزانية مع إرتفاع الأسعار و تقليص دعم المواد الأساسية بدأ ذلك الحراك بالولادة تذمرا و سخطا عن تلك الأوضاع التعيسة جدا التي أصبحت تعاني منها أغلب الطبقات الإجتماعية للشعب السوداني. فعلي ضوء ذلك تواصل الحراك في غليان و هيجان مستمر مطالبا بالتغيير الحقيقي إلي أن وصل ذروته خلال شهر أفريل 2019 ليتم بذلك القضاء علي النظام الدكتاتوري السابق بالضربة القاضية و يتم التحفظ برأسه في مكان آمن حتي يتسني للجهات الأمنية و السياسية إحالته لاحقا إلي المحاكم العدلية المحلية أو إلي محمكة الجنائية الدولية التي أصدرت بدورها في حقه وثيقة جلب دولية. فهذا التأزم الإجتماعي و الإقتصادي عمق بالنتيجة من ذلك الجرح داخل وطن ينزف فقرا و دموعا علي ما آلت إليه ظروفهم المعيشية من بطالة و حرمان و فقر مدقع نتيجة لنظام حكم البشير الذي لم يوفر لهم العدالة الإجتماعية طيلة تلك السنين الماضية.
من عوض إبن عوف إلي عبد الفتاح البرهان
أسقط الإنقلاب العسكري السوداني نظام حكم عمر حسن البشير بعد أكثر من ثلاثون عاما علي رأس السلطة التنفيذية و التشريعية. إذ في هذا السياق تمت تلاوة البيان الأول من قبل رئيس المجلس العسكري المنقلب علي السلطة بقيادة عوض إبن عوف و نائبه كمال بن المعروف معلنا بذلك إقتلاع النظام برمته و بصفة نهائية ملبيا نداء الشعب المطالب بالتغيير. فبعد يوما واحدا من ذلك الإنقلاب شكل المجلس العسكري الإنتقالي الأول لجنة سياسية مستقلة تحت إشراف عمر زين العابدين تسهر علي التحضير للحوار الوطني المستقبلي مع المعارضة السودانية و لتنزل مباشرة إلي أرض الميدان للإستماع لمطالب الشعب الثائر. إذ لم تختلف كثيرا الأسماء من عمر إلي عمر بل إختلفت فقط الألقاب في هذا الإنقلاب المشلول و الأعرج لتعلن بذلك عهدا جديدا لكن بتحفظ مع بقاء بعض الرموز السابقة في السلطة. فمن عمر البشير إلي عمر زين العابدين لم تختلف الأمور كليا بل كانت جزئيا نظرا لحفاظ المنقلبين علي تلك الوجوه السابقة التي تعتبر جزء من المشكلة برمتها و لا تشكل حلا مستقبليا. فكان بالنتيجة خطاب رئيس اللجنة عمر زين العابدين مجرد طعم لإحتواء تلك المظاهرات في الشوارع السودانية عبر إعلانه عن حزمة قرارات لا تقدم و لا تأخر من تلك الأحداث المتشعبة و المتوترة بطبعها خاصة منها تحديد فترة حكم مؤقتة مدتها سنتين فقط لتنظيم الأحزاب السياسية و دور المجتمع المدني و تحويل السلطة بعد ذلك من الحكم العسكري إلي الحكم المدني. في المقابل رفض الشعب كليا تلك القرارات و عاد مجددا إلي الشارع مطالبا اللجنة العليا للقوات المسلحة السودانية بالإستقالة بإعتبار أن الحكومة الإنتقالية المشكلة من صلب ذلك الإنقلاب غير شرعية و لا تلبي لمطالب المعتصمين و المحتجين. بالنتيجة سقط ذلك المجلس العسكري الأول الهش بطبعه معلنا بذلك إستقالة رئيسه عوض إبن عوف و نائبه كمال بن المعروف ليتم بعد ذلك بتشكيل مجلس إنتقالي ثاني تحت رئاسة المفتش العام للقوات المسلحة السودانية الفريق أول عبد الفتاح البرهان و تعيين نائبا عاما له و هو قائد قوات التدخل السريع حميدتي. بالإضافة إلي ذلك تشكلت في المقابل جبهة سياسية جديدة ترفض تولي العسكر زمام الحكم بحيث جمعت تلك الجبهة العديد من المعارضين تحت مسمي قوي الحرية و التغيير. لكن مازال الشارع السوداني في حالة غليان و لن يهدأ له بال حتي يسقط بجميع رموز النظام السابق و تلبي مطالبه بالكامل خاصة منها إنشاء مجلس وطني تأسيسي جديد و حكومة مدنية مستقلة.
سيناريوهات..إعتصام شهر رمضان
إن الفوضي العارمة التي تشهدها حاليا المدن السودانية بعد الإنقلاب الناجح و المؤقت علي حكم البشير تمثل نذير خطر مستقبلي مما يتيح المجال إلي بعض الأطراف الأجنبية للتدخل المباشر للعبث بالمكاسب الوطنية للشعب السوداني و نهب ثرواته الطبيعية بالمجان نظرا لما يحتويه ذلك البلد من ثروات باطنية يسبح عليها ذلك الشعب المفقر. فبوادر إنفجار بركان شعبي جديد واردة جدا بحيث بدأت تتشكل ملامحه خاصة بعد العودة للشارع مجددا مع رفع شعارات تطالب بإستقالة الجميع من مجلس عسكري إنتقالي أول إلي مجلس عسكري إنتقالي ثاني مع إستقالة جميع رموز النظام السابق في ظل هذا الإعتصام الحاشد بعد صلاة التراويح في شهر رمضان الكريم. كما أن دخول بعض الأحزاب الإسلامية و الشيوعية المعارضة و قوي الحرية و التغيير علي الخط رافضة لحكم العسكر عقدت الأوضاع من خلال سعيها و دعوتها لمواصلة إحتجاجات إعتصام شهر رمضان حتي يسقط النظام. إنتهت حقبة البشير لكن نذير التدمير لجميع المرافق الحيوية للإقتصاد الوطني السوداني أصبحت هي المخيمة علي تلك الأحداث المتتالية. فإحتمال إنحراف المسار الثوري نحو المجهول أضحت واردة جدا و إنجرافها في دوامة الصراع الدائم مع العسكر أصبحت محتملة أكثر. فهذا الإنقلاب رغم نجاح أهدافه في إسقاط رأس النظام السابق بقي مشلولا و أعرجا بحيث مازالت تلوح في الأفق بوادر صدام و عنف بين الشعب السوداني الثائر و قوات العسكر الإنقلابية رغم تشكيلها لمجلس عسكري إنتقالي ثاني و فتح حوار مباشر مع قوي الحرية و التغيير المدنية لتجنب الدخول في ذلك الصراع المشئوم مع الشعب الغاضب.
اقرأ للكاتب
فؤاد الصباغ يكتب : الشعب الجزائري الثائر”بين الفوضي الخلاقة و ترحلوا ڨاع سلميا”