فؤاد الصباغ يكتب :الاقتصاد الإسلامي “إرساء للحوكمة الرشيدة و مكافحة للفساد المالي”

علي الرغم من تفرع العلوم الاقتصادية إلي العديد من الاختصاصات منها الاقتصاد النقدي، المالي، البنكي، الجزئي و الكلي، الإقتصاد الأخضر و الرقمي، إلا أنه هناك إقتصاد حيوي يعتبر في أهدافه و محتواه مضادا حيويا للأزمات المالية و محققا للإستقرار الإقتصادي و الإزدهار الإجتماعي. فذلك الإقتصاد الذي يعتبر غائبا تماما في التطبيق علي أرض الواقع في بعض الدول العربية الإسلامية و لو أنه تم إعتماده بصفة محدودة و محتشمة في فترة حكم الحركات الإسلامية علي غرار الإنتشار الواسع للبنوك الإسلامية في بعض بلدان شمال إفريقيا. أيضا الإنطلاق الفعلي في طور خطواته الأولي عبر إعتماد مبادئ المالية الإسلامية في وزارات المالية منها طرح صكوك إسلامية أو تقليص الإعتماد بالمقايضة بالرباء المالي. فالإقتصاد الإسلامي يمثل اليوم البديل الرئيسي للإقتصاديات الوطنية التي أضحت مؤخرا تعاني من تراكم للعجز المالي في ميزانيتها العمومية و تفاقم مديونيتها الخارجية. إذ لتحديد مفهوم ذلك الإقتصاد يجب وضع الإطار الرئيسي لأهدافه و نتائجه و ذلك كمضاد حقيقي للأزمات المالية و قادر بالفعل علي إرساء الحوكمة الرشيدة و مكافحة الفساد المالي المتراكم منذ سنين طويلة.

أنواع الأزمات المالية

إن الأزمات المالية تعتبر مثل الفيروس القاتل القادر علي إستدراج الإقتصاد الوطني إلي الهاوية و إصابته بشلل جزئي أو كلي علي المدي القصير أو الطويل. فالأزمات تصنف في خانة أمراض العضال التي تصيب الإقتصاديات الوطنية للدول بشكل رهيب و غريب و هي تأتي، إما في دورة إقتصادية عادية بعد كل مدة عشرة سنوات من تصاعد للنمو الإقتصادي و الإنتاجية ثم إلي النزول و تباطؤ النمو و الإنتاجية لتصل إلي نقطة الأزمة القاتلة. أما بعض المنظرين الإقتصاديين فهم مختلفون في تحديد أنواع تلك الأزمات منهم المختص بدراسة أزمات العملة و أجيالها التي وصلت إلي حد الآن الجيل الرابع بحيث يتم تحديد ذلك المفهوم عبر ما يعرف ب “Speculative attacks “. فتضرر العملة المحلية يفسر بعدة عوامل منها داخلية أو خارجية بحيث تصل إلي الحضيض مقابل سلة العملات الأجنبية، و ذلك إما نتيجة لإرتفاع التضخم المالي و الأسعار أو مضاربة المستثمرين في الأسواق المالية مما تنتج تلك الفقاعة خاصة في ظل تذبذب المعلومات و الغياب التام للثقة. أيضا نذكر الأزمات البنكية و التي تعتبر الأخطر نظرا لأنها تصيب العديد من البنوك بالإفلاس و الغلق التام عبر سحب الودائع بصفة مفاجئة و هذا ما يؤثر مباشرة علي الأوضاع الإقتصادية الداخلية و هي ما تعرف ب “Bank run”. فالأزمات البنكية قادرة علي تعطيل دواليب الدولة بالكامل نظرا لإرتباطها “ببنك البنوك” أي البنوك المركزية و خاصة بالسياسة النقدية المحلية التي تراهن في بعض الدول علي صرف العملة و بعض الدول الأخري علي القاعدة النقدية و تقليص التضخم أو إستقرار الأسعار. أما بقية الأزمات مثل أزمات البورصة و الديون السيادية و الرهن العقاري فهي في مجملها ذات طابع مالي، إما في الأسواق المالية أو لتراكم الديون و العجز في إستخلاص الدين في موعده. إجمالا، فهذه الأنواع من الأزمات تنتج مباشرة من رحم سياسات التحرر المالي و الخصخصة و المضاربة بالأسواق المالية و تحرير الأسعار بحيث يصبح رأس المال “جبان” و يتأثر بأبسط المتغيرات و المعلومات لأن الرغبة في زيادة الربح هي السائدة بين المستثمرين في تلك الأسواق.

أسباب الأزمات المالية

هنا يكمن مربط الفرس، فيمكن إبراز الدور الهام للإقتصاد الإسلامي القادر علي إزالة العوائق و تجاوز تلك الأزمات بسلاسة نظرا لإعتماده علي قواعد تحد من الفساد المالي و تحقق الحوكمة الرشيدة متجاوزا بذلك ضغوطات الأسواق المالية، لتكون بذلك الموازي الحقيقي لذلك الإقتصاد الوطني التقليدي و المساهم الرئيسي لتغطية تلك الإختلالات عبر صمود البنوك الإسلامية في وجه مختلف الأزمات المالية. إن الإقتصاد الرأسمالي و إعتماده لسياسات التحرر و الخصخصة تعتبر في مجملها هي المسبب الأول و الرئيسي لنشأة تلك الأزمات المالية المتتالية و تواصلها بصفة متقطعة إلي حتي الآن أو في المستقبل. أما للتعمق أكثر فأكثر في الأسباب الأخري و التي هي متفرعة و متنوعة منها بسبب الإنسحاب المفاجئ لرؤوس الأموال و الإستثمارات الأجنبية المباشرة عبر سحب مفاجئ شامل و كامل للودائع و مغادرة تلك الدول نظرا لتضرر إقتصادها بسبب تلك الأزمات السياسية أو الإقتصادية خاصة منها إرتفاع نسب التضخم المالي و قلة الإنتاجية و الربح و عدم الإستقرار الإجتماعي. أيضا لتضرر العملات المحلية مقابل سلة العملات الأجنبية في ظل إرتفاع متواصل للتضخم المالي و نزيف النقص في الإحتياطي المركزي و الإنخفاض الحاد في نسبة النمو الإقتصادي. فالعدوى تنتشر سريعا بين الدول خاصة منها المندمجة في فضاء إقليمي واحد تربطهم قنوات مالية و تجارية مشتركة علي غرار منطقة المنظومة المالية و النقدية للإتحاد الأوروبي أو دول جنوب شرق آسيا بحيث يعتبر ذلك الوباء متحول عبر تلك القنوات من خلال المعاملات المالية و المبادلات التجارية اليومية. أما الأهم هنا في أسباب الأزمات المالية نذكر غياب الحوكمة الرشيدة في القطاعات الحيوية للدولة أو في القطاع الخاص منها بالأساس المؤسسات البنكية و منظومة الفاسد من رجال المال و الأعمال التي تشكل أخطبوط قاتل للإقتصاديات الوطنية التي تعاني من هشاشة هيكلية أو ضعف للقطاع الخاص. فالفساد المالي ينخر الإقتصاد مثل السرطان بحيث يتسبب في شلل كلي خاصة إذا تراكمت الديون لأولئك المستثمرين الفاسدين مع عدم قدرتهم علي إسترجاع أقساط القروض أو نظرا للرهن المكتسب لدي البنك الغير قادر علي تسديد الدين العام مما تسجل بالنتيجة خسارة علي ميزان تلك البنوك و بالتالي علي الحكومة بطريقة غير مباشرة نظرا لأن البنوك المركزية هي الموزعة للسيولة المالية علي البنوك الخاصة و العامة.

فؤاد الصباغ يكتب :تأثيرات الإقتصاد الرقمي علي النمو الإقتصادي للبلدان ذات الإقتصاد الصاعد

الإصلاحات الهيكلية و المراقبة المصرفية

الإصلاحات الهيكلية تنطلق من بوابة تطهير البيت الداخلي للإقتصاد الوطني داخل جميع البنوك و المؤسسات العامة و الخاصة. فالإصلاح ينطلق عبر تقوية القطاع الخاص حتي يكون قادر علي مجابهة المتغيرات و الأزمات مع ضبط قواعد رئاسة مجلس الإدارة و لإرساء الديمقراطية و توفير المعلومات في كنف من الشفافية و المصداقية. كذلك تدخل “اليد الخفية” للدولة لتعديل إنحراف تلك الأسواق الخاصة عن مسارها و إنجرافها نحو الهاوية لأن القطاع الخاص أوهن من بيت العنكبوت. فالأسواق المالية حساسة جدا و تتأثر بأبسط المعلومات أو الإضطرابات و التجربة أثبتت أن أي خبر إعلامي قادر علي تغيير ألوان أسهمها من الأخضر إلي الأحمر في ثوان معدودة مثل لمحة برق. فهنا يجب توفير مناخ من تبادل للمعلومات في ظروف جيدة و تعزيز الثقة بين المستثمرين و المضاربين و الحفاظ علي مناخ الإستقرار المالي. كذلك يجب إعتماد مفهوم التجديد و التطوير داخل المؤسسات مع التحكم في التكنولوجيات و التقنيات الحديثة و وضع مخططات إستشرافية ناجحة و ناجعة في محتواها و أهدافها علي المدي البعيد. أما المراقبة المصرفية فهي تعتبر اليوم الشغل الشاغل للمنظمات العالمية و المؤسسات المالية الدولية المانحة منها صندوق النقد الدولي المكلف بالحفاظ علي الإستقرار المالي العالمي أو البنك الدولي المكلف بتحقيق التنمية المستدامة. بالإضافة إلي ذلك نذكر اللجان المختصة بالمراقبة المصرفية منها العالمية المشكلة من أجل التثبت في مداخيل و مصاريف البنوك من خلال تحديد آليات و بنود تلتزم بها جميع البنوك حتي لا تقع في فخ التحيل من قبل المستثمرين أو الإنجراف نحو الإفلاس. فالودائع المصرفية المتأتية عبر الإدخار و التداول اليومي للرواتب الشهرية و غيرها فهي تعتبر ودائع قابلة لتمويل الإستثمار. بالتالي يجب وضع قواعد توازي بين الإدخار و الإستثمار و تضمن في حد ذاتها الإستقرار و التوازن في الميزانية العامة للبنوك. فأفضل طريقة للمحافظة علي الإصلاحات الهيكلية و المراقبة المصرفية تختزل ببساطة في التقييد بمبادئ الإقتصاد الإسلامي من أجل إرساء الحوكمة الرشيدة و مكافحة الفساد المالي. فالمالية الإسلامية أثبتت تجربتها مدى نجاحها و لو هي مازالت محتشمة عمليا في بعض البلدان الإسلامية، خاصة علي مستوي قدرتها لمجابهة أزمات سوق رؤوس الأموال بحيث أضحت اليوم تصنف كمضاد حيوي للأزمات المالية نظرا لعدم إستعمالها “للرباء المالي” في منظومتها المالية و المصرفية. أيضا نظرا لتقليصها من هيمنة توحش نظام الرأسمالية في الأسواق المالية بحيث تضمن إطار من المصداقية و الشفافية أمام جميع المستثمرين و تساهم في إرساء الثقة من أجل المزيد من الإدخار و الإستثمار.

فؤاد الصباغ يكتب : صندوق النقد الدولي “تأثيرات المديونية علي البلدان المستوردة للنفط”

التنمية الإقتصادية

إن التنمية الإقتصادية في مفهومها الكلي تعني تسخير المكاسب و الطاقات الوطنية و تحويلها إلي نواة قوة إجمالية قادرة علي تنمية البنية التحتية و غيرها من أنواع التنمية و خاصة منها التنمية المستدامة التي تراهن علي الإقتصاد الأخضر و الحفاظ علي بيئة سليمة خالية من السموم الغازية. أما في المقابل يعتبر النمو الإقتصادي في مفهومه الجزئي هو تراكم للثروات الوطنية منها البشرية و التقنية و الفيزيائية و التكنولوجية بحيث يتراكم الناتج المحلي الإجمالي السنوي “الحقيقي” ليكون بالنتيجة محفزا للتنمية الإقتصادية الكلية. فهنا يمكن وضع المفاهيم في إطارها بين تحقيق التوازن بين التنمية و النمو الإقتصادي في ظل تطبيق نظريات الإقتصاد الإسلامي الحديث الناجع في محتواه و أهدافه و قادر علي تحقيق تلك الحوكمة الرشيدة الموعودة علي أرض الواقع و التخلص من المفسدين في الأرض من رجال مال و أعمال فاسدين و تقويض الحرية المطلقة للنظام الرأسمالي المتوحش و سياساته التعيسة علي البلاد و العباد. بالنتيجة تتحقق التنمية الشاملة في صلب ذلك الإقتصاد الإسلامي الضامن الرئيسي لإستقرار الأوضاع الإقتصادية و الإجتماعية و لإزدهار الشعوب العربية.

فؤاد الصباغ – كاتب تونسي و باحث اقتصادي دولي

اقرأ للكاتب

فؤاد الصباغ يكتب : الأسواق المالية الإفتراضية “الإيجابيات و السلبيات”

شكرا للتعليق على الموضوع