شوقي العيسة يكتب : من الماضي ( 7 )

في أواسط السبعينيات انتشرت في المخيم ظاهرة،  اثناء العطل الصيفية للمدارس ، وهي العمل في جمع محصول الفواكه والخضار في اسرائيل ، كنّا نسميها الشغل في الشجر ، حيث أعطت اسرائيل لأشخاص معينين فرصة التعاقد مع شركات إسرائيلية لارسال عمال للعمل لديها، وكان كل واحد من هؤلاء يشتري سيارة كبيرة (ترك) او اكثر  وكل صباح يوقفها امام المخيم ويختار العدد المطلوب من الأولاد والبنات ويحشيهم في (تركه) كالسردين ، ولسخرية القدر كانت هذه المزارع في قرانا الأصلية التي هجر اهلنا منها ، ولم يكن مهما ان يكون العمال هم أنفسهم كل يوم ، المهم العدد ، وكانت الاجور بخسه بينما يحصل المقاول على حصة الأسد عن كل رأس ، وانتشرت الواسطات لدى المقاولين ليكون ابن فلان بين من يأخذهم للعمل في اليوم التالي ، وبدأنا بتعلم بعض الكلمات العبرية التي لها علاقة بالعمل ، ثم بدأوا بالتخابث لإجبارنا على العمل بنشاط اكثر من خلال ما سموه مقاولة اي ان يتفق صاحب العمل مع مجموعة من الأولاد  على كمية معينة من المحصول ينجزوها وينتهي يوم عملهم ، وكثيرا ما كنّا ننجزها قبل انتهاء اليوم بنصف ساعة على الأكثر وفي كل الأحوال يجب انتظار الآخرين للعودة في (ترك) المقاول الى المخيم ، وكان عادة ما يخرب في طريق العودة ، احيانا ندفعه بعد ان ينزل الجميع وأحيانا ننتظر ساعات لإصلاحه ، في تلك الفترة تعرفنا على انواع جديدة من الفواكه مثل خوخ ليلى الذي لم يكن معروفا لدينا من قبل ، وكان مسموحا لنا ان نأكل مما نجمع خلال العمل لانه كان من الصعب منعنا ، ولكن كان ممنوعا بعد العمل ان تأخذ معك للبيت ، باستثناء بعض الحالات التي سمح لنا فيها أخذ كمية قليلة .

كان جمع الخضار تحت الشمس الحارقة اصعب كثيرا من جمع الفواكه حيث نتفيأ بظلال الشجر . وفي فترة ما في تلك المرحلة تعاقد احد هؤلاء المقاولين مع مصنع لذبح الدواجن يقع بالقرب من قريتنا زكريا لتزويدهم ب ١٥ عامل في الليل من الذكور طبعا لتنظيف آلات المصنع ، وكان الأجر تقريبا ضعف ما نحصل عليه من العمل في المزارع ، وكنت احد ( المحظوظين ) للعمل معه ، فكنا ننتهي من العمل النهاري في المزارع ونعود للمخيم ثم نذهب في الليل للمصنع ، ولم نصمد طويلا لصعوبة العمل الليلي فتخلينا عن العمل في المزارع واكتفينا بالعمل الليلي ، كنّا حين نصل للمصنع نحصل على (جزمة) طويلة تصل الركبة وبالطو من البلاستيك وكفوف ( مصابع) بلاستيكية وطاقية وأدوات التنظيف الكثيرة ومتعددة الاستعمال .

كانوا يدخلونا الى المصنع ويغلقوا الأبواب ويعودوا قبل الفجر ، كان المنظر مرعبا ، الأرضيات مليئة بالدماء والدهون وقطع الدجاج ، والآلات مطلية بالدهن والجلاميط، اضافة الى الروائح الكريهة التي كانت ترافقنا لفترات طويلة .

لا ادري لماذا كنّا نسرع في العمل ونحاول تنظيف كل شيء بأسرع وقت ، لأننا في كل الأحوال لن نعود للمخيم الا في نفس الموعد حين يعودوا ليفتحوا الأبواب ويطلقوا سراحنا.

لم يكن ممكنا الاستمرار في هذا العمل طويلا ، فقد كان فوق طاقتنا .

فصرنا نذهب في النهار الى تلبيوت في القدس حيث الكثير من المصانع للبحث عن عمل ، وكان طموحنا ان نعمل في مصنع البسكوت ولكن كان لديهم كفاية ، وبدل ذلك وجدنا عملا في مصنع البلاستيك الذي يصنع براميل الماء السوداء الكبيرة ولكن كان شرطهم ان نعمل في الشفت الليلي ، يبدأ العمل في الحادية عشر ليلا وينتهي في السابعة صباحا، فكرنا في الموضوع وكانت نتيجة الاجتماع السريع الديموقراطي المغلق للشباب ان هذا العمل أفضل وأسهل من مصنع الدجاج ، فوافقنا، واستمرينا في العمل فترة كافية للتأثير على صحتنا جراء العمليات الكيماوية لتصنيع البلاستيك حيث كان العمل الأسود والخطير للعرب فيما اليهود للاشراف من بعيد.

 استمرينا الى ان اخبرنا احد الشباب بخبر اعتبرناه الفرصة الذهبية ، قال ان احد المقاولين العرب في القدس يريد عمال بأجر خيالي ، فأسرعنا للقائه ، فقال لنا الموضوع باختصار كالتالي أترون هذه البناية ، وكانت بناية (مغدال هعير) برج المدينة القريبة من شارع يافا ، الشركة المنفذه تأخرت في إنجاز البناية وتسليمها في الوقت المتفق عليه ، والآن لديها ثلاثة أسابيع لتفنيش كل شيء وتسليم البرج ، العرض كالتالي تعملون ليلا نهارا ومن حق كل واحد ان يأكل ويرتاح وينام لمدة ثلاث ساعات كل عشر ساعات على ان لا تغادروا الموقع حتى انتهاء العمل ، وتستطيعون البدأ بالعمل من الان ، نظرنا الى بَعضنا نظرات لا نعرف ما هي ولكن ما ان نطق بالمبلغ الذي سيحصل عليه كل واحد ، حتى وافقنا جميعا فورا ، وبدأنا العمل في اليوم التالي .

اقرأ للكاتب :

من الماضي ( 6 )

شكرا للتعليق على الموضوع