التعليم العالي فـي زمن كورونا
تقرير : ا. م. د. سامي محمود ابراهيم
رئيس قسم الفلسفة – كلية الآداب – جامعة الموصل – العراق
علينا أن ندخل المؤسسات التعليمية التي صمدت أمام الجائحة وطبقت التعليم عن بُعد دون تراجع، واستطاعت أن تختم العام الدراسي بنجاح استمرارا لهذا النهج الجديد، لنقف على بعض أسرارها والدروس المستفادة منها..
في كتاب (بنية الثورات العلمية)، توماس كون يعرف مفهوم التطور بأنه تحول في النظرية أو الممارسة يحصل حينما تصبح النظرية أو الممارسة السائدة غير متناغمة مع ظاهرة طارئة في الحياة، الأمر الذي يؤدي إلى تبني نظرية أو ممارسة جديدة، هكذا هو الإنسان يركن إلى المألوف ويتثاقل عن تغيير قناعاته وممارساته حتى ولو كانت قد عفا عليها الزمن ما لم يتعرض لهزة قوية في حياته تجبره على الخروج عن المألوف، وتغيير عاداته وخوض تجارب جديدة مثيرة وأكثر فائدة. رأينا ذلك خلال ما عُرف بالربيع العربي حيث تحركت الدول على المستوى السياسي والاجتماعي نحو ممارسات جديدة، ونراه اليوم في خضم جائحة كورونا حيث تحركت أنظمة التعليم العربية بصورة مفاجئة نحو نظريات وممارسات التعليم عن بُعد.
نظريات وممارسات التعليم عن بُعد ـ بأشكاله وأنماطه المختلفة ـ قديمة تعود إلى بدايات النصف الثاني من القرن المنصرم، حيث ظهرت مفاهيم التعليم الإلكتروني والتعليم الافتراضي وجامعات بلا مبانٍ، وغيرها من المفاهيم التي طبقتها الدول الغربية، وظللنا نحن العرب نقرأ ونكتب عنها ونعلمها لمعلمي المستقبل في كليات التربية التي لم تكن تعمل بمقتضاها، وإنما تدرِّس تلك المفاهيم بين أربعة جدران وصفوف من الطلاب كالبنيان المرصوص وفي ظل سياسات الحضور والغياب وجداول زمنية مقدّسة!! شأنها في ذلك كشأننا اليوم مع الهواتف المحمولة ذات التقنيات المتطورة، نحملها ولا حظَّ لنا منها سوى المكالمات الصادرة والمكالمات الواردة والرسائل النصية وبعض التطبيقات الترفيهية.
جائحة كورونا أخرجتنا فجأة من ذلك الواقع التعليمي المتأخر عن ركب الممارسات التعليمية المبنية على نظريات التعليم عن بُعد والتعليم الإلكتروني، ومؤسسات تعليمية بلا جدران التي راهنت عليها الأنظمة التي رأت المستقبل وقررت أن تستعد له، سواء في الدول الغربية المتطورة في هذا الجانب أو في المنطقة العربية التي شهدت تجارب تعدُّ على أصابع اليدين قررت أن تحتضن تلك المفاهيم وتطبقها على سبيل التجربة والنمذجة، وهي التجارب التي وجدت نفسها في ظل جائحة كورونا منسجمة مع مقتضيات الجائحة وآثارها على قطاع التعليم، والذين عجزوا في السابق عن رؤية العوائد غير المنظورة للاستثمارات المسخَّرة لتطوير البنى الأساسية للتعليم عن بُعد، أصبحوا الآن قادرين على استيعاب أهمية الاستعداد لسيناريوهات المستقبل أيًّا كانت.
في السلطنة الآن لا يزال الجدل قائما حول هذا الموضوع الساخن والملحِّ رغم الموقف الرسمي الحذر نظرا لعدم وضوح الرؤية بالنسبة للمدى الزمني للجائحة، والمجتمع منقسم إلى قسمين ما بين مؤيِّد للاستمرار في التعليم عن بُعد، وما بين معارض له، وبين القسمين نجد سيناريو ما يُعرف بالتعليم المدمج : وهو النموذج الذي يقوم على ممارسة تضم الاتجاهين معا: التعلم بين الجدران الأربعة والتعلم عن بُعد بنسب تحددها الجهات الإشرافية، وربما يُعزى هذا الانقسام إلى وجود فئة من الطلاب قرروا منذ البداية عدم خوض التجربة أو خاضوها دون توافر الدعم المناسب لهم، وفئة لها خبرة سابقة ولو بشكل جزئي وتوافرت لها البيئة المناسبة لخوض التجربة بصورة أوسع فذاقت ثمارها وعرفت مزاياها وتشبثت بها، أما الواقفون على الأعراف القائلون بالدمج فهم الذين يراعون واقع المجتمع المتمثل في عدم اكتمال البنية الأساسية اللازمة لتطبيق التعليم عن بُعد على المستوى الواقعي، وهو التحدي الذي تسعى الحكومة الآن للتغلب عليه من خلال مشاريع نتمنى أن ترى النور قريبا بإذن الله تعالى.
بعيدا عن هذا الجدل الذي له ما يبرره في ظل الوضع الراهن، علينا أن ندخل المؤسسات التعليمية التي صمدت أمام الجائحة وطبقت التعليم عن بُعد دون تراجع، واستطاعت أن تختم العام الدراسي بنجاح وتفتح للطلاب الفصل الصيفي استمرارا لهذا النهج الجديد، لنقف على بعض أسرارها والدروس المستفادة منها، وهو أمرٌ تتبناه الآن بعض المؤسسات الرسمية من خلال فرق بحثية تبحث الموضوع بأسلوب علمي منهجي، وإلى أن تظهر نتائج جهود تلك الفرق لا بأس من تبادل الأفكار حول بعض التجارب الشخصية التي مررنا بها علَّها تفيد المؤسسات الصامدة، وتسهم في رفد الجهود البحثية ببعض المعلومات المهمة ذات الصلة.
إذا كانت الثورة الصناعية الرابعة تقوم على تقنية المعلومات فإن قيادات المؤسسات التعليمية لا غنى لها عن الكفايات المتعلقة بهذا البُعد المعرفي، لأن الإرادة السياسية الجادة وحدها لا تكفي ما لم تكن معززة بوعي عميق بحقل تقنية المعلومات وتطوراته وأسراره، حيث إن ذلك من شأنه أن يؤثر في قائمة أولويات المؤسسة التعليمية ويجعل الاستثمار في البنية الأساسية الإلكترونية ضمن أبرز الأولويات، وهذا هو ما حصل في بعض المؤسسات التعليمية الخاصة في الموصل خلال العقود السابقة رغم عدم قدرتها على استغلال تلك البنية بصورة كاملة بسبب بعض العوامل، إلا أنها حينما حان الوقت اقتصر الأمر على تفعيل التقنيات المتوافرة ونشر الوعي بها على مستوى المؤسسة.
تلك العقلية القيادية المتأثرة بالاتجاهات العالمية في مجال التعليم، وذلك التوجه المبكّر نحو الاستثمار في البنية الأساسية الإلكترونية، وأتمتة ما أمكن أتمتته منذ فترة مبكرة من نشأة المؤسسة، أدت إلى تطوير ثقافة تقنية مؤسسية، شملت شتى مكونات مجتمع المؤسسة من كوادر فنية وإدارية وطلاب، فكان لتلك الثقافة دور مؤثر في تقبل الجميع للنقلة النوعية في عملية التدريس، وكانت المهمة الأولى هي توعية أفراد مجتمع المؤسسة بإمكانات النظام الإلكتروني للمؤسسة وتفعيلها، فتبيَّن للجميع أن المنصات الإلكترونية وتقنيات متنوعة للتواصل عن بُعد كلها متوافرة منذ مدة، ولكن لم تكن مستغلة نظرا للركون إلى العادات المألوفة، وعدم وجود حافز قوي للتخلي عن تلك العادات.
حينما أصبحت الرياح مواتية، وتوفر الحافز القوي على مستوى المجتمع ككل، تم تشغيل جميع المحركات في اتجاه تجويد التعليم عن بُعد، فكان القرار السياسي الحازم بتسخير الموارد لتوفير فرص تدريبية مستمرة حول التدريس عن بُعد، حيث تم تصميم البرامج التدريبية اللازمة والاستعانة بالشركاء الدوليين ذوي الخبرة الواسعة في التعليم عن بُعد لنقل الخبرة إلى المؤسسة الجامعية، وهذه المرة لم يكن التدريب على التعليم عن بُعد بين أربعة جدران! بل كان التدريب ذاته عن بُعد وبشكل محترف! الأمر الذي بيَّن واقعية المسألة، وأسهم في تعزيز القناعات بإمكانية التطبيق، حيث إن التقنيات هي ذاتها والبيئات التعليمية متماثلة، ولا عذر في عدم التطبيق.
الأهم من ذلك كله أن الجانب النفسي لم يُغفل في هذه المعادلة، بل روعي منذ البداية، حيث اتخذت المؤسسة كل التدابير الممكنة للتأكد من أن الإنسان ـ أيا كان ـ سلامته تأتي في طليعة الأولويات، وقد تم إرسال رسائل مباشرة في هذا الشأن عبر الإجراءات الملموسة التي تم استحداثها خلال فترة تعليق الدراسة، كما تم استحداث آليات جديدة للتواصل مع الطلبة وتلقي ملاحظاتهم والتعامل معها بشكل سريع لضمان حسن سير العملية التعليمية في أجواء تربوية تضع مصلحة الطالب فوق كل اعتبار دون المساس بالجانب النوعي للعملية التعليمية، حينما يعمل منتسبو الجامعة بمختلف مستوياتهم وأدوارهم كأسرة وكفريق تستطيع المؤسسة أن تحقق معجزات! تحتاج مؤسساتنا التعليمية إلى قيادات واعية وإلى دوافع وحوافز داخلية لترقى ممارساتها إلى المستوى المنشود، على أن تبقى عملية التعلم المستمر قاسما مشتركا بين الطلاب والمدرِّسين والقياديين.
تعلمنا في السابق أن مفهوم (المنهج التعليمي) يمكن أن يأخذ ثلاثة أنماط مختلفة في المؤسسة التعليمية حسب الممارسات الفعلية للمؤسسة، فهو يمكن أن يكون محوره المحتوى المعرفي للبرنامج التعليمي، ويمكن أن يكون محوره المعلم الذي يشرف على عملية التعلم، ويمكن أن يكون محوره الطالب الذي هو الغاية النهائية للعملية التعليمية برمتها، أما الآن مع مفاهيم التعليم عن بُعد والتعليم الإلكتروني فإننا أمام نمط جديد محوره التقنية، فالتقنية التعليمية اليوم تعيد تشكيل المحتوى المعرفي والمهاري والقيمي للتعليم، وتعيد تعريف دور المعلم ودور المتعلم في العملية التعليمية، وبالنظر إلى سيناريوهات التعليم المستقبلية المبنية على معطيات الثورة الصناعية الرابعة، فمن الحكمة أن تساير المؤسسات التعليمية ما تمليه التقنية من اتجاهات في مجال الممارسة التعليمية.
على الساحة الآن إرهاصات إيجابية عديدة، وحالات من المد والجزر نأمل أن تؤدي إلى نتائج تخدم واقع التعليم في العراق، ولا ريب في أن ذلك لن يتأتى إلا بتكاتف الجهود على كافة المستويات، وفي طليعتها المستوى السياسي المعني برسم السياسات العامة للتعليم، خصوصا وأن مضامين الرؤية المستقبلية تنسجم تماما مع تلك الإرهاصات الإيجابية التي نأمل أن لا يتم النظر إليها باعتبارها آثارا جانبية لجائحة كورونا وستزول مع زوال الجائحة، نسأل الله تعالى أن يرفع عنا البلاء، وأن يحفظ المبادرات الإيجابية البنَّاءة التي تشهدها المؤسسات التعليمية في العراق، وأن يوفقنا لتطويرها واستدامتها بما فيه مصلحة أبنائنا وبناتنا الطلبة وبما يعود على البلد بالنفع والخير.
اقرأ ايضاً
سامي ابراهيم يكتب : نحن من الارض وإليها راجعون