ازمة العقل في عصر ما بعد الحقيقة

“كورونا زمن الفوضى”

تقرير: ا. م. د. سامي محمود ابراهيم

رئيس قسم الفلسفة – كلية الآداب – جامعة الموصل – العراق

 قبل ايام كان الاحتفال باليوم العالمي للفلسفة، وانها ضرورة فكرية. وقد جعلته اليونسكو هذه المرة فرصة للتأمل في جائحة كورونا، تأكيدا على دور التأمل والنظر الفلسفي في مواجهة الازمات التي تمر بها البشرية، وتلمس اسباب المشكلة وتحليلها ونقدها ومن ثم تقديم الحلول لها.

   لكن احيانا تتسم اصلاحاتنا بالشكلانية وتبتعد عن الواقعية كمحاولة للهروب من ازمة تقديم الحلول. فنحن محكومين بسياسة تكميم الافواه، وعنوانها” موتوا بصمت”.                          

وليس الخطر ان يكون هناك صراع بين الحق والباطل، فهذه سنة الحياة ونواميس الكون التي وجد عليها، ولكن الخطر ان يفقد الناس الاحساس بالفرق بين الحق والباطل.

ففي عالم مشحون بظواهر الظلم التي تمزق كبد العاقل كما يتمزق قلب المؤمن من دلالات الفسوق والتفريط في المقدسات على مذابح الشهوات يستهلك الضمير ويصبح العرى النفسي والفكري سمة العصر بامتياز. تحول العالم الى لعبة كونية خطيرة تحكمها القوانين السائلة ونهايات اللايقين.

    وضعنا في جب التناقض، نفكر في الحداثة في عصر ما بعدها، نفكر في الصلابة في عصر السيولة.

  اذ لم يسلم الضمير العالمي من آثار الفوضى التي يمارسها العقل الحداثوي، والتي رسمت بفرشاتها ملامح جديدة لحياة الكوكب بالوان لم نعهدها، فلم تترك جزئية الا ودخلتها، فارضة ارادتها على جميع جوانب الحياة.

ما بعد الحداثة هي ابرز ثمن لتسطيح العقل والمرجعيات القيمية، هي مرحلة تحول عالمي مرعب وخطير، اذ اصبحت الحرية والعدالة والأخلاق، مجرد صفقات قابلة للمضاربة في بورصة السوق والتوحش والفوضى العالمية.

  ما بعد الحداثة هي في الحقيقة الحداثة السائلة التي يجب استيعابها لعلها آتية إلينا يوما ما.   الحداثة مصطلح يحمل مدلول مخالف للتجديد، ومخالف للإتيان بجديد من جنس القديم، بمعنى أن تجديد القميص، يعني أن تخيط المكان الممزق، لكن ممارسة الحداثة على القميص، تعني أن تلغي وجود القميص وما هو من جنسه على جسدك، وأن تستبدله بشيء حديث كليا. هذا هو مفهوم الحداثة.

أن تلغي الدين والمجتمع وكل القيم، لأن الإتيان بالحديث كليا يتطلب إلغاء القديم كليا، فيتعين إلغاء حتى المجتمع، بما فيه من محمولات، كما قالت مارغريت تاتشر” لا يوجد شيء اسمه المجتمع″ والمقصود هنا بث روح الفردانية مكان الجميع، فليس هنالك مجتمع عندما نريد أن نكون حداثيين، فالمجتمع شيء قديم، وإنما يوجد فقط أفراد.

هؤلاء الأفراد يجب أن يزيلوا عنهم الأفكار التي كانت موجودة داخل المجتمع، وأهم هذه الأفكار هي فكرة الامر الناه والوصاية، فليس هنالك آمر ناه، بمعنى ليس هنالك شخص ذو خبرة في الحياة هو من يوجهك كي لا تقع في الخطأ بل أنت الموجه، وأنت المجرب، وأنت المريد.

  كذلك تجربة أي شيء يروج في السوق، والسوق هنا لا يقتصر عن سوق السلع والخدمات، بل يدخل في مدلوله سوق القيم، وسوق الأفكار، وسوق ما تهوى الانفس، معيار الصواب والخطأ لم يعد الامر والنهي، ولم يعد تلك القيم والنظم الشرعية، ولا النص، بل أنت من تحدد، لأنك الآن لم تعد مساهما في تشكيل مجتمع، بل أنت عبارة عن فرد، نتائج أفعالك لا يتحملها معك الاخرون.

وهنا ستوجد لدى الفرد حالة نبه عليها زيجمونت باومان، وهي أنه على الدوام يعيش حالة لا يقين، فهو بدون معيار، بدون مزجه بدون مرجع بدون أخ أكبر، بدون مجتمع، بدون دين وتقاليد، كل ما يدخل السوق العام ويقبل الاستهلاك فالفرد لا يملك قيدا أو معيارا يحدد له هل يستهلكه أو أن يمتنع عنه، بل هو في حالة لا يقين، في حالة شك، سيقبل عليه أو يتركه؟ سيحقق له الكمال أم لا؟  سيبتاع هذا الفرد تلك السلعة، وهذه القيمة، بغير اعتبار لكونها تمثل الحق أم الباطل، بل سيفعل ذلك متبعا لمقولة “المتعة خير من الحق”.

  ويبقى الفرد باحثا بصورة دائمة عن كمال إنساني خلال رحلة الاستهلاك هذه، السلع والقيم في هذا السوق الذي تتطلبه ميوعة الحداثة، فالسوق الرأسمالي متجددة باستمرار، وكل تجدد يشعر المستهلك بأن الكمال لم يتحقق، فما العمل؟ استهلاك أكثر، بحثا عن فرد أكمل، في هذه الطريق غير المنتهية ما دام السوق رأسماليا، وما دام الفرد فردانيا، وما دام الأخ الأكبر قد تمردنا عليه، يتحول الطلب على الحاجيات إلى طلب على الرغبات، فالفرداني يطلب ما يرغب به لأجل الكمال، لكن الكمال الذي هو تحقيق الكفاية والمتمثل في الرغبة بالضروريات، قد بات قديما، فالحداثة تطلب التحديث دوما، وبهذا يصير حتى المرغوب فيه والذي ليس ضروريا ولا من الحاجيات، يعتبر اليوم رفاهية وكماليات، لكن في الغد سيصير ضروريا، بمعنى أن التحديث المستمر للسلع الكمالية بين الامس واليوم، قد جعل انتظار اصدار كماليات جديدة لتحل محل الكماليات القديمة، التي حلت محل الضروريات في الأصل، سابقا على الحاجة لتلك الكماليات.

 فالناس تشتري أيفون لتحقق الكمال، في الغد يصير الايفون ضروريا، لا مجرد رفاهية أو كمالية، مع العلم بأن السنة المقبلة سيصدر أيفون جديد، سيصير انتظار صدوره ألذ وأمتع من الحاجة إليه وأسبق عليها، سيصير جنس التحديث في المنتج السلعي أو القيمي مستمرا لما لا نهاية، وسيبقى الانتظار والاستهلاك واللايقين بصحة التجربة مع هذا الإنتاج غير المتناهي.

 وفي المقابل اصبح الزواج بالتراضي عبارة عن سلعة يوجد عليها طلب تحقق الرفاهية، والمتعة لدى الأفراد، والمجتمع لا يوجد أصلا ليمنع ذلك، اباحية مقنعة، والمعيار قد ذهب مع الأخ الأكبر الناهي الآمر، ونحن مهمتنا التحديث باستمرار، لا إنشاء تقاليد جديدة صلبة. والفرص في عالم ما بعد الحداثة شهية للغاية لأن الفرد بدون رقيب مع دعمه بالفكر الليبرالي التحرري وحمايته بمنظمة حقوق الإنسان الفرد، قد جعل تجريب تلك الفرص أمرا شهيا للغاية، نحن نجرب اليوم، ما جربناه اليوم صار في الغد تقليدا، يجب أن نتحرك لأجل الأحدث، نتسابق مع الكمال لكن ليس الى نهاية.

اقرأ ايضاً | سامي ابراهيم يكتب : النهضة “لسؤالها يبكي القلم؟!”

   مرحلة القناعة لم تعد متوفرة، ذهبت مع المعيار، الآن يوجد مرحلة إدمان لكل ما سيجعلني الأكمل عن النسخة السابقة لي. وستصير الهوية مهمة متجددة، لا هبة، وهذا الإدمان لا يهمني إذا كان مدمرا لكل إمكانية مستقبلية للإشباع والارتواء. بل كما قال باومان: المجتمع الرأسمالي المتطور يلتزم بالتوسع المستمر في الإنتاج. ليس هنالك من يقدم لي يد العون، لأن التصدي للمتاعب من دون عون أو مساعد هو ما يفعله الجميع اليوم، هكذا يقول باومان.

  بالتالي فعند شيوع الرأسمالية، وفقد المعيار، وتحرر الأفراد عن المجتمع والدين، ستكون مواقف الأفراد متخذة على مسؤولياتهم الكاملة، من دون معرفة ضمنية بتبعات القرارات وعواقبها، مع انعدام تام للمعيارية، والقواعد، والأمر والنهي، سيواجه الأفراد أسوأ حالاتهم، لأن اليقين الذي كان يضمنه الروتين داخل المجتمع قد تم وأده، فالنماذج الروتينية التي تفرضها الضغوط الاجتماعية تعفي الناس من معاناة عدم اليقين المتجدد.

   فهذه النماذج الروتينية التي تتم بالرتابة والانتظام تعلم المرء كيف يسلك معظم وقته، وقلما يجد نفسه في موقف يخلو من معالم عبر الطريق.

والعالم داخل الحداثة السائلة كما يقول باومن بحاجة الى مثير اشد قوة واكثر قابلية للتغير والتقلب. صحيح يوجد تطور علمي رهيب ومريب. لكننا وسط الحداثة السائلة نبحث عن اليقين عن الاستقرار. نبحث عن دواء يجعلنا قنوعين راضين متفائلين، نبحث عن من يشاركنا هموم الحياة هموم المسؤولية يحمل عنا حملنا الثقيل، الا نضيع في متاهة البحث عن الكمال، نحتاج الى بناء علاقات اجتماعية تواسينا وتعزينا في الحياة. نحتاج الى عمل يدوم مدة يمنحنا يقين بان العالم يحتاجنا.

  هذا المطلب الان ربما هو غير ممكن الان لان الحداثة همها استبدال كل ما هو قديم، همها الغاء الماضي، واليوم الحداثة نفسها تعد من القديم وبالتالي تم استبدالها بما بعد الحداثة، وهكذا يستمر الما بعد الى ما لا نهاية.

  والتبرير الذي تقدمه ما بعد الحداثة على كل ذلك هو تعميم الحرية الفردية وازاحة سائر القيود الاخرى بما فيها سلطة الابوة والدين والقيم والاخلاق. كل هذا لتكون ليبراليا حرا فردانيا زبونا جيدا في سوق الرأسمالية المنتج باستمرار والى ما بعد البعد.

  وقد استخدمت في ذلك آليات التشتيت والتشكيك والاختلاف والتغريب، وتقترن ما بعد الحداثة بفلسفة الفوضى والعدمية واللامعنى واللانظام.

  لذلك يتميز فكر ما بعد الحداثة بقوة التحرر من قيود التمركز، والانفكاك عن التقليد وما هو متعارف عليه، وممارسة الاختلاف والتفكيك والهدم والتشريح، والانفتاح، والاهتمام بالمدنس والهامش والغريب والمتخيل والمختلف، والعناية بالعرق، واللون، والجنس، والأنوثة، وخطاب الما بعديات المفتوحة.

   يتفق الفلاسفة الالمان على أن مشروع الحداثة لم ينته بعد، حيث يواصل هذا المشروع سعيه لتحقيق أهدافه، حيث الدور الفعال لوسائل الإعلام. فكل شيء هو النص والصورة، إقناع المشاهد بكابوس من عالم الخيال العلمي او العالم الافتراضي، فهذا العالم هو بمنزلة استعارة أو مجاز عن حالة الواقع.

كما ترتبط ما بعد الحداثة بفلسفة التفكيك والتقويض، وتحطيم المقولات المركزية التي هيمنت على الثقافة الغربية من أفلاطون إلى يومنا هذا. فهي موقف متشكك لجميع المعارف البشرية، وقد أثرت هذه المواقف على العديد من التخصصات الأكاديمية وميادين النشاط الإنساني.

كما تعد ما بعد الحداثة عدمية تقوض أي معنى للنظام والسيطرة. حداثة سائلة بمنتهى السيولة.

لقد ظهرت ما بعد الحداثة في ظروف سياسية معقدة، وذلك بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية، وخاصة في سياق الحرب الباردة، وانتشار التسلح النووي، وإعلان ميلاد حقوق الإنسان، وظهور مسرح اللامعقول، وظهور الفلسفات اللاعقلانية كالسريالية، والوجودية، والفرويدية، والعبثية، والعدمية.

اقرأ ايضاً | سامي ابراهيم يكتب : غسيل الزمن واثرنا المعكوس

  وقد كانت التفكيكية معبرا رئيسا للانتقال من مرحلة الحداثة إلى ما بعد الحداثة. ومن ثم، فقد كانت ما بعد الحداثة مفهوما مناقضا ومدلولا مضادا للحداثة. ولذلك، احتفلت ما بعد الحداثة بأنموذج التشظي والتشتيت واللاتقريرية كمقابل لشموليات الحداثة وثوابتها، وزعزعت الثقة بقوانين العقل والسببية والأنموذج الكوني، حاربت العقل والعقلانية، ودعت إلى خلق أساطير جديدة تتناسب مع مفاهيمها التي ترفض النماذج المتعالية، وتضع محلها الضرورات الروحية والتغيير المستمر، وتبجيل اللحظة الحاضرة المعاشة. كما رفضت الفصل بين الحياة والفن واتخذت التأويل والتأويل المضاعف قاعدة ومنهج.

من يتأمل جوهر فلسفات ما بعد الحداثة، فإنه سيجدها فلسفات عدمية وفوضوية، تقوم على تغييب المعنى، وتقويض العقل والمنطق والنظام والانسجام. بمعنى أن فلسفات ما بعد الحداثة هي فلسفات لا تقدم بدائل عملية واقعية، بل هي عبثية لا معقولة، تنشر اليأس والشكوى والفوضى في المجتمع.

وإذا كانت فلسفة الحداثة تبحث عن النظام والانسجام، وتهدف إلى توحيد النصوص والخطابات، من أجل خلق الانسجام والتشاكل، وتحقيق الكلية والعضوية الكونية، فإن ما بعد الحداثة هي ضد النظام والانسجام، بل هي تعارض فكرة الكلية. وفي المقابل، تدعو إلى التعددية والاختلاف وللإنظام، وتفكيك ما هو منظم ومتعارف عليه.

  كذلك رافقت ما بعد الحداثة تطور وسائل الإعلام، فلم تعد اللغة هي المنظم الوحيد للحياة الإنسانية، بل أصبحت الصورة هي المحرك الأساس للتحصيل المعرفي، ومعرفة الحقيقة. لهذا نجد جيل دولوز يهتم بالصورة، ويعتبر العالم خداعا، كخداع السينما.

   كما تتميز نصوص وخطابات ما بعد الحداثة بخاصية الغموض والإبهام والالتباس. بمعنى أن دلالات تلك النصوص أو الخطابات غير محددة بدقة، وليس هناك مدلول واحد، بل هناك دلالات مختلفة ومتناقضة ومتضادة ومشتتة. وبتعبير آخر، يغيب المعنى، ويتشتت عبثا في ظلمات ما بعد الحداثة.

  فنيتشه مثلا ربط غياب الحقيقة بأخطاء اللغة وأوهامها. وبودريار ينكر الحقيقة، ويعتبرها وهما وخداعا، كما يربط الحقيقة بالإعلام الذي يمارس لغة الخداع والتضليل والتوهيم والتفخيم.

ومن ثم، فقد أدلى بوديريار بمجموعة من المفاهيم، كالحقيقة العائمة، وما فوق الحقيقة، والاهتمام بالخيال العلمي، والعناية بالعوالم الافتراضية غير المتحققة. ومن هنا، فقد انتقد العلاقة بين الدال والمدلول عند فرديناند دوسوسير، حيث أنكر كجاك ديريدا وجود معنى واضح، بل قال بالمعنى المغيب، حيث لا يمكن لأحد أن يعيش أي تجربة، وأصبح للعبث لهجة واضحة تلك التي تمتلكها الولايات المتحدة الأمريكية.

  وعليه، فقد دفعه مفهوم ما فوق الحقيقة إلى الاهتمام بالعوالم التخييلية والافتراضية. وكما سبق الإشارة إليه وجدت رؤيته للعالم أصداء في السينما، وخصوصا في ذلك النوع من الأفلام الذي يصبح فيه الواقع الافتراضي غير مميز عن العالم الحقيقي.

  ونستدعي أيضا من رواد فلسفة ما بعد الحداثة المفكر الفرنسي جان ليوتار، الذي أنكر الحقيقة مثل: نيتشه، فالمعرفة برايه لا يمكنها أن تقدم الحقيقة، لأنها تعتمد على ألاعيب اللغة التي هي دائما ذات صلة بسياقات محددة.

وأهم ما يطرحه جان فرانسوا ليوتار في إطار ما بعد الحداثة هو التحرر من الالتزام بالقواعد المنهجية والمعايير المسبقة.

ويعد جاك ديريدا كذلك من أهم فلاسفة ما بعد الحداثة، حيث اهتم بتفكيك الثقافة الغربية، وتقويض مقولاتها المركزية بالنقد والتشريح، بغية تعرية المؤسسات الغربية المهيمنة. ومن ثم، فقد ثار دريدا على مجموعة من المقولات البنيوية كالمدلول والصوت والنظام والبنية، وغيرها من المفاهيم، ودعا إلى تعويض الصوت بالكتابة، وأن المعنى لا يبنى على الإحالة المرجعية، بل على الاختلاف بين المدلولات المتناقضة.

  كما أن ديريدا ينكر القواعد والتعاريف والمعايير والمنهجيات الثابتة. لذا، فالتفكيكية منهجية وليست منهجية، لها خطوات وليس لها خطوات، هي ما بين بين، بين الداخل والخارج. ما يهمها هو تفكيك الفكر والنص والخطاب، وذلك عبر آلية التشتيت والتقويض والهدم، لبناء المعاني المختلفة والمتناقضة، والتشكيك في المسلمات اليقينية، ودحضها عن طريق النقد والتشريح والاختلاف.

هذا، ويعد ميشيل فوكو كذلك من رواد ما بعد الحداثة، وقد اهتم كثيرا بمفهوم الخطاب والسلطة والقوة، حيث كان يرى أن الخطابات ترتبط بقوة المؤسسات والمعارف العلمية. بمعنى أن المعارف في عصر ما تشكل خطابا يتضمن قواعد معينة يتعارف عليها المجتمع، فتشكل قوته وسلطته الحقيقية. هذا، ولقد اهتم فوكو كثيرا بتحليل الخطاب، ورفض التقيد بالمناهج الجاهزة، واستعمال آليات مكررة، واعتبرها بمثابة علبة للمفاتيح. فالنص منفتح ومتعدد، لا يمكن قراءته قراءة أحادية فقط. ويعني هذا أن فوكو يؤمن بتعدد القراءات واختلافها من قارئ إلى آخر.

بيد أن من أهم سلبيات ما بعد الحداثة اعتمادها على فكرة التقويض والهدم والفوضى، إذ لا تقدم للإنسان البديل الواقعي والثقافي والعملي، فمن الصعب تطبيق تصورات ما بعد الحداثة واقعيا لغرابتها وشذوذها. وبذلك، استهلكت ما بعد الحداثة قدرتها الإستراتيجية الفعالة في إبراز التحيزات المجحفة دون أن يكون لها موقف أخلاقي أو سياسي أو اجتماعي. ويعجب المرء من المفارقة بين قوتها العدائية ضد التحيزات والنهاية المحايدة التي تنجم عن مثل هذه الحرب الضروس. ولعل مثل هذه النهاية هي التي دعت الكثير إلى توجيه أصابع الاتهام. فهناك من يقول: إن هذه السمة ذاتها هي التي تجعل ما بعد الحداثة متواطئة مع الأشكال الشمولية القمعية التي تسعى إلى الهيمنة والسيطرة والظلم الاجتماعي الاقتصادي. لا غرو والحالة هذه أن تدخل ما بعد الحداثة مجال العلوم الإنسانية حديثا جدا، وحتى هذا الدخول لم يتسم بالفعالية نفسها التي عرفتها في الفن والأدب والموسيقا والاستعراضات المسرحية وغيرها من مشارب الحياة اليومية التي لا يترتب عليها اتخاذ قرارات حاسمة تمس حياة الإنسان مباشرة.

   ولعل المفارقة القارة التي تجعلها عاجزة هي معاداتها للثنائية الضدية، إذ إن التضاد أساس المعرفة وأساس التحيز، وبدون التضاد لا يمكن معرفة ما إذا كان توجه ما أفضل من غيره. ولذلك، فإن دفاع ما بعد الحداثة عن الهامش جعلها تتقمص خصائصه، إذ انقلب على أهميتها، فأصبحت هامشية لا تغير من الواقع شيئا. وككل هامشي، أصبحت ما بعد الحداثة تتمنى أن يتحقق الوئام فجأة، فتسود العدالة، وتختفي الطبقية الهرمية، ويختلط المركز بالهامش، وتلغى الفوارق من غير تحيز أو غاية. هذه هي الطوباوية التي تحلم بها كل المثاليات: حداثية كانت أو ما بعد حداثية.

ويلاحظ أن نظرية ما بعد الحداثة تقوض نفسها بنفسها، نظرا لطابعها الفوضوي والعدمي والعبثي.

الى هنا نجد ان ما بعد الحداثة نظرية عبثية وفوضوية وعدمية وتفويضية تساهم في تثبيت أنظمة الاستبداد والقمع والتنكيل، وتجعل من الإنسان كائنا عبثيا فوضويا لا قيمة له في هذا الكون المغيب، يعيش حياة الغرابة والشذوذ والسخرية والمفارقة، ويتفكك أنطولوجيا في هذا العالم الضائع بدوره تشظيا وضآلة وانهيارا وتشتيتا.

  كانت ما بعد الحداثة ابرز ثمن لتسطيح العقل والمرجعيات القيمية، هي مرحلة تحول عالمي مرعب وخطير، اذ اصبحت الحرية والعدالة والأخلاق، مجرد صفقات قابلة للمضاربة في بورصة التوحش العالمي وفي اتم تجلياتها اللاإنسانية بإدارة لا نظام عالمي مجنون ومعقلن .

فمنذ أن أطلق فوكوياما نهاية التاريخ ذات الصدى الهيغلي المتطرف، أصبح التسليم بنموذج الرأسمالية أمرا من البديهيات.

  وهذه الإيديولوجيا تمارس اليوم نوعا من يوغا الإرهاب المفتوح خال من كل معنى الا اشاعة التوحش السياسي وجنون المنفعة.

  رأسمالية ترسم ملامح تراجيديا “نيوكنفشيوسية” بخيال مغرق في التعصب والفوضوية وخلق الازمات.  فلا نكاد نخلص من كارثة حتى نسمع بأخرى أكثر جرما منها.

  وما أن نتنفس الصعداء ونقول أن صوت الحق والضمير انتصر، ولم تنزلق النفس الغضبية نحو حرب إقليمية او عالمية  أخرى، حتى نشهد بوادر التنفيذ الوحشي لصفقة اخرى من صفقات القرن الجديد.

    اذ لا شيء يعلو على أخبار المرض والموت والقتل والتهجير، لا شيء يعلو على مرض السياسة وفايروسات الارهاب الجديد الذي لا تمانعه احدث كمامات الحياة.

  فمن يحكم هذا العالم المنفلت؟ من يدير العاب المرض والموت والبشاعة والتشويه وتكريس مبدا الانفلات النتشوي وفوضى القيم الهايدجري المتناقض؟

   من يقامر بحق الشعوب في السلم والسلام كورقة لقلب القيم والاطاحة بمركزية الذات كأساس ضامن لموت كل الحقائق بما فيها الانسان نفسه؟

   من يدفع بعيشنا الانساني المشترك إلى اقذر المالات واقبح الاحتمالات ابتداء من تهميش العقل وصولا الى العشوائية وقلب القيم بمنهجيات التأويل المضاعف، وتكبيل الانسان بأشياء لا تجعله قادر على فرز لحظته الحالية.

اقرأ ايضاً | سامي ابراهيم يكتب : جمال الحياة بين جناحي فراشة

  انهماك وتيه وعدمية ونسبية مفرطة ودوامة في دولاب اللامعنى، وبالتالي تحول الجميع الى هامش فاقد لأي قيمة، مكرسة بذلك منطق النفي والصراع ونشر التفاهة والجنس والترويع والقبح وما لا يمكن ذكره؟

  حتما الجاري فوق مسرح الأحداث يدفع إلى الاقتناع بأن من يحكم العالم اليوم هم عبدة الانا اصحاب الرأسمالية المنفلتة والبركماتية العدمية.

     لذلك ينتجوا الفيروسات، ويشعلوا الحروب، ويغرقوا الجميع في الفتن والتفاهة والحرب والفوضى والاستهلاك، ومن ثم في تحويل الفرد إلى خطر بالنسبة للآخرين، فلا مكان يتسع للجميع. تكريس للفردية وتضخيم للانا، لأن كل إنسان برايهم، هو “ذئب لأخيه الإنسان”، كما قال هوبز ومن تلاه.

  عموما الخطط مروعة، تتمثل في تحويل انتباه الرأي العام والشعوب عن المشاكل الهامة والتغييرات التي تقررها النخب السياسية ومطابخ الفكر العالمي، ويتم ذلك عبر وابل متواصل من الاعلام المظلل من خلال تصدير كم كبير من التشتيت والمعلومات التافهة.

لقد عطل فايروس كورونا فكرة الانسان كمكون أخلاقي وقيمة حياتية وغائية وجودية، وأعاد إلى الأذهان ثقافة قديمة منبوذة هي ثقافة الخوف السائل. وتحول الإنسان، بهذا المعنى، إلى شيء من الأشياء.

  وفي ذلك عودة إلى مقولة موت الإنسان وسائر المرجعيات التي أطلقها فوكوياما وتبناها الفكر الغربي في لحظة اعلان نهاية التاريخ وموته، بل ونهاية الايمان والدخول في عصر الشك والجحود.

    الى هذا الحد علينا ان نسال: من المستفيد من نشر فيروسات الموت والحروب؟ سواء كانت هذه الفيروسات معلوماتية او بيولوجية؟ اكيد، من يشعل نار الحرب هو نفسه المستفيد من صفقات السلاح وما ينجم من فوضى وخراب.

     والا لا يعقل ونحن على عتبة القرن الذي وصلت فيه البشرية الى مستويات عالية من التقدم العلمي ان نتقبل فكرة ان هذا الفايروس لا يمكن علاجه او حتى منعه من الانتشار؟!

لا شيء يمنع من استحضار الصراع الليبرالي الكونفوشيوسي، وصفقة القرن الجديدة، وربيع العرب المغتال ومهازل الاضطرابات والفتن ونشر الكوارث وتسويقها، كل ذلك في اتصال مباشر مع شركات السلاح والأدوية والسينما والميديا ووسائل القرن، وصفقات الشركات الامنية.

  فثمة خيط رفيع يصلنا بذاك الطرف الغائب، ويؤكد أن المقامرة بمصير العالم مستمرة، وبدم بارد!.  مسار عالمي مخيف تنتهجه السياسة العالمية المرتبطة بالعنف والارهاب وهدر الكرامة وقتل الحرية.

   فلم يعد بالإمكان الحديث عن نهاية التاريخ بالمعنى الذي ذهب إليه “فوكوياما” في زمن التشتيت الرأسمالي بعد أن بات الغرب قلقا من حجم الانا المتضخم فيها، وبعد أن باتت الصين الحيوية تعرض خدماتها الصحية على أوروبا العجوز.

  لقد فرض فيروس كورونا اصولا أخرى لنهايات التاريخ، ومنح لمرض الفكر الهيجلي بل والنتشوي الكثير من التبرير خاصة ما يتعلق منه بكتابة التاريخ البشري واعادة تدوير الانسان بنكهة الفراغ والعبث والفوضى والعدمية ورسمنة سلوكاته وفقا لغرائز حيوانية فرويدية مريضة.

    فاشية دولية جديدة تمثل نوعا من إمبريالية بلا عنوان محدد، إمبراطورية معولمة مفتونة بغريزة القتل والتوحش على نسقية ميكيافلية مبرمجة.

   لذلك علينا جميعا ان نرفض حكم الاقامة الجبرية للعقل والحرية في ظل حجر جائحة النفاق العالمي المعقلن وفوضى كورونا.

     فحين يصبح الصمت على الباطل ثقافة ويتحول لكيان متوحش يجثم على الأنفاس، سيصبح حينها البحث عن العدالة في ضمير العالم (المكمم) أصعب من التنقيب عن قطرة كرامة في الخارطة الانسانية.

  الا ان هذا الموقف وما قبله ايقظنا من سبات الانا والكبرياء بعطسة نتلوا فيها “الحمد لله” مهما خانتنا فصول الحياة.   وما يلفت الانتباه ان رذاذ الحب يزداد صلابة وممانعة امام ” كمامات” الكره .

 يرتدي ” قفازات” الامل وهو يلامس الحياة، ويدعونا الى ان نغسل قلوبنا من جراثيم الحقد، وعقولنا من التعصب كي تتعافى الإنسانية.

  وداعا لحلم الحداثة وما بعدها، واهلا بالحلم الأمريكي وخيالات الليبرالية التي تظهر وبكل سفور أسس عدم المساواة وآثام مجتمع المستوطنات الأوروبية، التي قضت على حضارة سكان القارة الأصليين، ودمرت ثقافتهم ولغاتهم وطرق معيشتهم، واختطفت أبناء أفريقيا واخذتهم عبيدا أرقاء .

   والعالم الذي يدعي التمدن يحاول وبكل وحشية حصر السلطة بيد القلة اللامنتمين من الأثرياء، والتي جعلت من أجهزة الاعلام ومؤسسات الدعاية والفن محركات تابعة همها استهداف المواطن المستهلك لتلك النزعات اللاإنسانية، والعمل على خلق مواطن غير واعي لحقوقه وأحقيته في العيش.

  مسار عالمي مخيف تنتهجه السياسة العالمية المرتبطة بالعنف والارهاب وهدر الكرامة وقتل الحرية.

  لهذا نتمنى أن نسهم في توجيه الأنظار إلى حيل السياسة السائلة والناعمة وهي تزج الشعوب كالقطيع في ازمات لا تحد واخرها كورونا.

وبلغتي التي منحني اياها الخالق فطريا ارفض الاقامة الجبرية في حجر جائحة النفاق العالمي وكورونا. هي ذات الموقف الايديولوجي الذي تعيشه البشرية منذ قرون وهي مقيدة ومكبلة بسلاسل العبودية لتلك المرجعيات الراسمالية التي تتلون احيانا بالوان دينية واخرى انسانية.   نعم، زمن كورونا ايقظ جموعا هائلة من سباتها واعتيادها على السلطة التقليدية والاقامة الجبرية خلف اسوار العبودية الفكرية والايدلوجية.

إذن، أن لنا ننظر في مشاكل الحرية ، وأن نعود باهتمام وانتباه جديان إلى اهمية ان تحيا البشرية.

   وها هي الارض تفرش عنائها على منصة الزمن تتقصى خطى الضمائر، وتحمل الإنسان فينا أمانة. فارضنا لم تعد صلبة كما كانت، اصبحت مع حلول ما بعد الحداثة بمنتهى السيولة.

لكن، كيف يمكن لبياض قلب الحقيقة أن تقدم نفسها للعالم دون إخضاع لعملية تشويه قسرية في صالات تشريح النص واستئصال المعنى بأيدي أمهر لاعبي التفكيك العالمي المعاصر بهدف تقويض نماذج الحضور التي تستند إليها الحضارات الانسانية بما يسمح بظهور بدائل حضارية وازاحة النص الاخلاقي للانخراط في عوالم العدم المتخيلة والهوامش المربكة .

  أوصلنا منطق الفوضى الامريكية إلى مرحلة المابعديات التي عكست جليا أسوأ المراحل التي مرت بها البشرية وهي تجوب الفضاء الخارجي عبر الكبسولة الكونية العجيبة وهي تبحث عن جزيرة الأمل الرافضة لشتى أشكال وصور الفوضى والضياع! فيا لعزاءنا هذا من عزاء!

  وفي المقابل هناك دلائل تعمل على إرساء ضغط المثاقفة بين حداثتين تعملان على تزييف الواقع وتمويه معالم الصدق والبساطة في قيمه الإنسانية..

ما نحن بثقافتنا الحداثوية وما بعدها الا خفافيش طائشة تحلم في كهوف العصر.  حياتنا التشكيلية العابرة من الرمال المتحركة شكلتها نسمة العصرنة ونثرتها هبة ريح العولمة تتبعثر في صور حضارة اللاجدوى حتى قبل ان تتشكل كما ينبغي.

  بقيت كلمة في داخلي لم تعد مفهومة اهمسها همسا لكي لا يسمع السادة، الى متى نعيش في جو لم يعد يتنفس منه الا المرض “وكمامات” المنع، لم يعد يستنشق منه الا الخوف، فلم يبق من الحياة الا المشافي المعطلة ورائحة الموت.

نعيش قمة الانحطاط في قرن الماورائيات، تم عزلنا عن الواقع فلم نعد نشعر باننا على قيد الحياة.

  ولذلك نجد المناخ النفسي لمجتمع المابعديات مناخا متصلب يسوده الشعور بالقلق والخوف وعدم اليقين.

  عزلنا عن كافة ابعادنا الوجودية، بما فيها بعدنا الاخروي. وهكذا نتيجة الشعور باليأس خضعت حياتنا للمصادفة وانتفا لدينا الشعور بالمسؤولية وضمان العيش. حياة بمنتهى السيولة..

  كل هذا ادى الى انهيار المستقبل ذلك البعد الانساني المهم واصبحنا نحكم الاحتمال والظن. وهذا المستقبل قد يأتي وقد لا يأتي ولذلك لا يبقى لترقبه اي قيمة او دافع فنبدأ بالانهماك في الحاضر وبذلك يتحجر عندنا الماضي ويتضخم وينغلق على ذاته ويصبح حاضرا دائما. وهو بهذا يشبه الميت الذي تصير ماهيته عين ماضيه.

  فانحدرت علاقة الانسان بأخيه الانسان الى مستوى الشيئية فحل الظلم بدل العدل والكره بدل الحب والكذب بدل الصدق، وبذلك تتهاوى الانسانية الى احط المستويات وادناها.

بركماتية نفعية، تحقق ذاتها بوسائل الغاية والتبرير.

  من الفوضى والتوحش وادارة الجنون الى ما بعد المنطق التفكيكي، منطق السلب والنفي للنظام العالمي الجديد. من دموع ضحايا القتل والتهجير والتشريد تغتسل الحرية لتصلي صلاة الغائب على ارضنا التي تموت مكممة بصمت .

  من افلام الاكشن والمافيات ادمن اطفالنا لعبة القتل والقتال دون شجاعة. من قلوب اقسى من الحجر تشتكي الامهات ظلم البشر. الى متى؟ ايسرنا مشهد الانتظار في مسرح التشريد واللجوء والتهجير والتجويع والتحزيب العنصري والقومي والطائفي. ايسرنا مشهد الفرجة في مسرح التكميم وكورونا.

  إن فوضى الاضطراب العالمي الجديد وجنونه ما هو الا تعبير عن غطرسة جنس الحيوان الناطق الذي بات غارقا بداء العظمة بنشوة الانتصار.

  اما نحن فخيبة املنا توشك ان تتمرد حتى على ذواتنا ومن ثم على التعاليم الدينية والاحكام العرفية والتقاليد السلوكية والمعرفية.

  فنحن امام أهوال وفظائع فاجعة لن تصبر ارادات واقدار البشرية على تحملها. فالانا والانت باتت مقززة منفرة، فالذات تجلد نفسها والاخر لم يعد يسعه كوكب الارض فتجبر وتكبر حتى على اصله الكريم. لم يعد يثق بالانا.

  وكلانا نؤمن ولا نعمل، ندعي ولا نفعل، وبين النظر والتطبيق مقابر جماعية وخسوف الى ما دون الحيوانية.

  فالإنسان ذئب لأخيه الانسان، يمارس العداء بكل حرية وسفور، رحيم بالأنواع والاجناس الاخرى، رجيم بجنسه. فحقوق الحيوان مصانة وكذا حقوق الاموال والاوثان.

  اما الانسان فلا حق له حتى في الكلام. ان تكلم في الدين كان ارهابيا، وان تكلم في السياسة كان معارضا ومتمرد، وان تكلم في القيم والاخلاق اصبح فاسق، وان تحدث عن الإنسانية كفر ومصيره نار لا تبقي ولا تذر.

  كل هذا مقدمة عن تاريخ الصراع البشري الذي سطر بالدماء. وكان تاريخ العالم تاريخ قمع وقهر وتسلط. كما ان مستقبلنا الغائب اللاجئ الى الغرب مرجعيتنا فيه جحافل النازية وخليفتها الفاشية، نتقمص على اسواره بشاعة الشوفينية ووضاعة الليبرالية الصهيو أمريكية.

  ونحن في وسط هذا التيار العنيف نتنفس الالم من بشاعة الكوارث التي سببتها اسطورة الحداثة واللاعقلانية المدمرة. فمن الصعب ان نعقل في عالم مجنون.

  هذا بالإضافة الى ان ظلمات التوحش الارهابي الذي يجوس خلال العالم كالكابوس يتربص بنا في كل مجالات الحياة.

    لقد اختلت كل الموازين واهتزت الانظمة فلم يعد بوسعنا مراجعة الواقع ولا حتى معرفته حداثة سائلة لا تقبل التشكيل.

  كل ذلك حصل في حضارة العصر والجنون الوحشي المستعر. ونحن امام المسرح العالمي المخيف نشاهد على خشبته الاحداث المرعبة من امراض وتشتيت وتفكيك وفوضى وتطرف وقتل وعنف وارهاب. جماعات وعصابات منظمة وممولة لإثارة الفتن والمشاكل، شركات احتكارية عابرة للقارات، شعوب مهددة بالإبادة والتهجير والتقسيم والمجاعة.

اما التقنية والتكنولوجيا والبايلوجيا المعاصرة والتي افلتت من كل السلطات بدأت تستهدف جينات الانسان، تستهدف حياة الانسان. وعلوم الذرة والاشعة والطاقة ستوجه مدافعها الى الارض ليتم تقسيمها وابادتها ومن ثم مسح رسالة الانسان عليها.

  لقد ادركنا الغرور بالعقل الحداثوي حين وجدناه يبدع في عالم المادة والذرة والطاقة وياتي بما يشبه الخوارق، فتوهمنا ان العقل الذي إكتشف وسائل المواصلات والإتصالات وحطم اجزاء الذرة يستطيع كذلك وضع قواعد للسلوك البشري في الاعتقاد والتعامل والاخلاق ومنجزات العلم المعاصر. لا لم يحصل هذا. ففي النهاية وجدنا العقل يباع في سوق الحضارة التي افنى عمره في بناءها وتطويعها. يباع العقل في سوق النخاسة الراسمالية الليبرالية المعاصرة.

اعيانا التعب ونحن نرقب ما بعد البعد، ايام عيشنا المؤجل، وارضنا لا تحتمل كل هذا التكميم.

صراع مرير عنوانه “موتو بصمت”، والا فسروا لنا تفشي الفقر والمجاعة والظلم بعبثية لا يمكن تحملها. بهذا سيتحول الاخر الى صناعة ارهابية بامتياز سيتحول الى ما دون الوحشية او بعدها وفقا لانساقكم المعرفية.

  فلم تجلب لنا حضارة المابعديات سوى الحروب والامراض والفتن والدمار والحقد والكراهية وانحطاط الذوق والقيم والاخلاق وصناعة الفوضى والارهاب لترسم على تراب الارض صورة الخراب. ايعقل ان تحصل هذه الأفعال البشعة والعالم صامت مكمم؟

  فلنصنع لأنفسنا وسط هذا الجدب السياسي واحة نظيرة نستظل بها كلما احرقتنا شهب السياسة العالمية الظالمة، لنصنع لأنفسنا ممانعة ضد كل هذه الفيروسات ولنقبل بوعي وارادة على الحياة، فما اضنى البشرية ليس بقليل..

اقرأ للكاتب

التعليم العالي فـي زمن كورونا

شكرا للتعليق على الموضوع