مصطفى التوني يكتب: يارب دبرها من عندك

 بينما أقف في الصف لأداء صلاة الفجر يقف بجواري رجل من أحبابنا المسنين فهم دائما من يتقدمون الصفوف في صلاة الفجر بعد أن نسي الشباب أن العزة والحصانة والتوفيق وعناية الله تحفظ أصحاب هذه الصلاة، لكن شغلتهم جوالاتهم ومواقعهم وابتغوا فيها التوفيق فحاد أكثرهم عن الطريق وضل أكثرهم سبيل التوفيق. 

ما أجمل هؤلاء الناس من كبار السن، أحب مجالستهم والتقرب منهم والتودد لهم لما أشعر به من سكينة في حضرتهم وما تحمله حواراتهم من خبرة وحكمة، ونحن في السجود أطلق هذا الرجل دعوة ُصوبت إلى قلبي كأنها رصاصة كادت أن تنتزعه من مكانه من صدقها خرجت بنبرة صوت يملأها الشجون وتحيط بها الهموم لدرجة تشعرك كم الذل والانكسار لله والتسليم بأن الأمر كله لله واليقين أنه لا أحد يمكن أن يدبر لك أمرك إلا الله “يارب دبرها من عندك” كثيراً ما نسمعها ونرددها ولكن لأول مرة أسمعها وأشعر بصدق معانيها وصدق قائلها. راودني فضول غير عادي في التحدث مع هذا الرجل أريد أن أجلس معه أسمع منه ما سر هذه الدعوة؟ وكيف خرجت بهذه المصداقية التي هزت أركان فؤادي ؟ ولم لم أشعر عمقها وقوتها رغم أني أقولها دائماً؟  أحسست وكأنها رسالة لي أنا شخصيا.

انتظرت حتى انتهت الصلاة، وقام هو إلى الصف المؤخر حيث يجلس أقرانه على الكراسي لختم الصلاة وما أن انصرف المصلون وما بقي منهم إلا من يحرص على الجلوس حتى تطلع الشمس وكان هو منهم، ذهبت إليه وألقيت عليه السلام وسألته كيف حالك ياحج قال بخير ياولدي، قلت لقد سمعتك في سجودك تقول دعاء هزني لما شعرت به من صدقك ويقينك فهل لديك من الهم ما يجعلك تنادي ربك بهذا الإحساس الذي يصل إلى القلوب؟

قال: “يا ولدي ومن منا ليس لديه هموم؟ ومين مرتاح في الدنيا دي ؟ ما هو ربك خلق الراحة وأسكنها الجنة علشان كدة أنا سلمت أمري كله له وحده هو الذي يدبر لي أمري وبقولها دائماً في صلاتي وأنا في الرخاء وأنا في الشدة خلاص يأبني كبرنا و أيقنا على مدى السنين إن  اللي عايزه هو بس اللي بيكون ، يمكن كنا بنزعل شوية لما اللي بيكون ده مبيجيش على هوانا لكن الأيام بتثبت لنا أنه هو الأصلح وإن ربك مبيجبش حاجة وحشة ” قلت ياحج وكيف يصل مثلي لهذا اليقين ؟

قال “الرضا يابني طول ما أنت هترضى بكل اللي يجيبه ربك هترتاح وهتوكله أمرك وأنت راضٍ مطمئن أنه لن يُحسن لك التدبير أحد غيره سبحانه وتعالى” قلت ربنا يكرمك ياحج”.

وفي نفسي أقول يمكن دعاءك ده رسالة لي ولكل من يسأل الله أن يدبر له أمره أن يسأل بيقين أن الأمر كله لله وانه لن ينال العبد منا إلا ما كتبه الله له وأن يصاحب هذا اليقين رضا بقضاء الله وقدره.

الشاهد من سرد مثل هذه المواقف ليس إلا أنه رسالة يمكن أن تغير مسار إنسان قرأها أو سمعها لأن من رحمته سبحانه وتعالى أن يبعث برسائل تذكر العبد منا بالعودة إليه.

فحينما تتحدث مع أحد في أمر ويجيب عن تساؤل يدور في ذهنك فهذه رسالة، عندما تسمع آية قرآنية أو موعظة ويقع أثرها في قلبك فتغير مجرى حياتك فهي أيضا رسالة، ومن أمثلة هذه الرسائل وأثرها على العبد ما روي عن الفضيل بن عياض في كيفية توبته “كان الفضيل بن عياض شاطراً يقطع الطريق، وكان سبب توبته أنه عشق جارية فبينما هو يرتقي الجدران إليها سمع رجلاً يتلو {ألم يأن للذين آمنوا أن تخشع قلوبهم لذكر الله وما نزل من الحق} ، فقال: يا رب قد آن، فرجع.

فأواه الليل إلى خربة، فإذا فيها رفقة فقال بعضهم: نرتحل، وقال قوم: حتى نصبح فإن فضيلاً على الطريق يقطع علينا، فتاب الفضيل وأمّنهم، وجاور بالحرم حتى مات.

إن المتأمل لأثر هذه الرسائل وكيف أنها يمكن أن تغير مسار إنسان إلى الأفضل لن يترك كلمه يسمعها أو يقرأها أو موقف يحدث له أو أمامه دون أن يستخرج منه الرسالة والعبرة لعل كلمة أو موقف يغير واقعاً ظن صاحبه أنه مرير.

 فيأرب دبرها من عندك .

اقرأ للكاتب

مصطفى التوني يكتب: الحدود متزعلش ولا إيه ؟

شكرا للتعليق على الموضوع