اللفظ الحكيم في شعر الغزالي وسليم “وجهة نظر نقدية”

بقلم: د. رمضان الحضري

متابعة: إيمان الحملي

لازالت أزمة الثقافة العربية في وقتنا الحاضر تتمثل في ارتباطها بأيدولوجيات الحكومات العربية، مما يجعلها ثقافة غير متحررة من القيود، فالكاتب يكتب بعينين أولاهما على النظام والعادات والتقاليد والقوانين وثانيهما على الكلمة التي يريد أن يقولها، وفي يد العين الأولى سوط، وفي العين الثانية دموع وأحزان.

وهذا ما جعل التعليم في بلادنا العربية تعليما بلا جدوى، لأنه يرتبط بحاجة الحكومة ولايرتبط بتطوير المجتمع، فلازالت مناهج اللورد كرومر صاحبة السيادة في معظم البلاد العربية التي زال عنها الاحتلال البريطاني منذ سبعة عقود تقريبا، وكأن الزمن توقف عن دورته.

وهذا ما جعل السيادة للثقافة الغربية رغم ما بها من عوار خطير أصاب البشرية جميعها في مقتل، حيث مبادئ القوة الغاشمة والسيطرة العنيفة وانتهاك حقوق الأقليات وقتل الفقراء وتهميش الطبقات الضعفية والفقيرة، والحروب المنتشرة بلا أسباب معلومة.

كل هذا على الرغم أننا كأمة عربية كبيرة في المساحة والسكان والتجارة والاقتصاد والعلوم والفنون والإمكانات لا نجد لنا مكانا يليق بنا على هذا الكوكب بسبب تدهور الثقافة العربية واعتمادها على أيديولوجيات حكومية، فقمة المؤسسات الثقافية الحكومية مصابة إصابات بالغة ولا أمل في الشفاء.

هذه تقدمة لكي أتناول نصين لشاعرين رائعين هما: عصام الغزالي وثروت سليم، في محاولة لإيجاد وجهة نظر نقدية عربية.

والحق أن النقد الأدبي العربي قد بدأ من قمة عالية للغاية لم تأخذ حظها من الدرس الأدبي عبر العصور كلها وحتى اللحظة التي أسجل فيها كلمتي هذه.

 فقد بدأ النقد العربي بالجاحظ العظيم، وحقَّ لي الآن أن أثبته مؤسس النقد الأدبي العربي، وعميد النقد في عصره.

فقد اطلع الجاحظ على الآداب العالمية في عصره واجتهد فيها بشكل غير مسبوق، حتى خرج لنا بفكر غير مطروق، حيث لم يركز الجاحظ على المعاني باعتبارها مطروحة على الطريق وفي هذا تفصيل أن كل إنسان يعرف الموضوع الذي سيتحدث فيه، ولكنه لا يعرف المفردات التي سوف يصطفيها لتبليغ هذا الموضوع، مع العلم أن قارئ كتاب الحيوان للجاحظ سوف يدرك تماما أن الجاحظ يهتم بالمعاني كما يهتم بالكلمات، ولكنه جعل الأفضلية للكلمات.

وجاء النقاد العرب بعد الجاحظ مثل ابن طبطبا وابن سلام الجمحي واختاروا طريقا يختلف عن طريق الجاحظ في السبك والنظم حتى استوت النظرية على يد شيخ البلاغيين العرب عبد القاهر الجرجاني في كتابيه “دلائل الإعجاز” و “أسرار البلاغة”، ويبقى فضل السبق للعلامة الموسوعي الجاحظ الذي لم يترك ورقة في عصره عربية أو أجنبية إلا وقرأها.

وجاء عنوان اللفظ الحكيم بقصد الاختيار المتأني وغير الشاذ والمعالج للموضوع، فلا أقصد اللفظ الدال على الحكمة في النص، ولكن أعني بذلك اللفظ الدال على حكمة الشعر وسوف يتضح ذلك جليا حينما أتناول نصين لشاعرين قديرين هما الشاعر عصام الغزالي والشاعر ثروت سليم.

ولنبدأ بتقديم نص الشاعر عصام الغزالي المعنون بـ (دار أحبابي) الذي يقول فيه :

(زار الشاعر منزل محبوبته والتقى بها وبأهلها فكانت هذه القصيدة)

   يَا دَارَ أَحبَابِي عَلَيْكِ سَلَامُ

فَاضَتْ لَدَيْكِ بِعِــزَّهَا الْأَيَّامُ

   أَلْقَى لَدَيْكِ مِنَ الْمَلَائِكِ بَهْجَةً

وَيَحُفُّنِي التِّرحَابُ وَالْإِكْرامُ

   يَا رَوْضَةَ الْقَلْبِ الْمَشُوقِ تَحِيَّةً

كَمْ شَقْشَقَتْ فِي قَلْبِيَ الْأَحلَامُ

   وَالْيَوْمَ جِئْتُكِ أَبْتَغِي الْأَمَلَ الَّذِي

يَحيِي فُؤَادِي نُورُهُ الْبَسَّامُ

   يَا دَارَ أَحبَابِي سَلِمْتِ لِعَاشِقٍ

لَمْ تَدرِ سِرَّ غَرَامِهِ الْأَفْهَامُ

   مَا الْعَاشِقُونَ بِبَالِغِينَ مَحَبَّتِي

مَهْمَا ارتَقَوْا  فِي حُبِّهِمُ أَوْ هَامُوا

   الْحُبُّ فِي قَلْبِي حَيَاةٌ أَيْنَعَتْ

وَالنَّفْسُ يُنْعِشُهَا هَوًى وَغَرَامُ

   فَلْتَسْأَلُوا شِعرِي وَوَحيَ قَصِيدَةٍ

عَجِبَتْ لَهَا الْأَوْرَاقُ وَالْأَقْلَامُ

   كَمْ عَاشِقٍ فِي مِثْلِ عِشْقِي أَنْشَدَتْ

بِغَرَامِهِ الْأَفْلَاكُ وَالْأَجْرَامُ

  هَلْ مِن مُحِبِّ شَفَّ مِثْلِي قَلْبُهُ

فَتَوَقَّفَتْ عَنْ سَيْرِهَا الْأَعوَامُ

هَلْ مِن مُحِبِّ قَد تَسَامَتْ رُوحُهُ

فَسَرَتْ بِهَا فِي الْجَنَّةِ الْأَنْسَامُ

  هَلْ مِن مُحِبِّ غَنَّتِ الدُّنْيَا لَهُ

فَاسْتَرسَلَتْ فِي كَوْنِهِ الْأَنْغَامُ

  هَلْ مِن مُحِبِّ ذَابَ مِثْلِي فِي الْهَوَى

يَصحُو عَلَى نَبَضَاتِهِ  وَيَنَامُ

  أَنَا عَاشِقٌ وَهَوَاكِ يَا مَحبُوبَتِي

لِي فِيهِ تَروِيحٌ بِهِ وَقِيَامُ

  وَهَوَاكِ يَا سِرَّ الْهَوَى لِي جَنَّةٌ

وَسَعَادَةٌ وَمَوَدَّةٌ وَمُدَامُ

  فَلَكَمْ نَعِمْتُ بِهِ وَقَلْبِي طَائِرٌ

يَلْهُو وَيُغْدَقُ حَوْلَهُ الْإِنْعَامُ

  وَلَكَمْ هَفَتْ شَفَتَاكِ لِي فِي بَسْمَةٍ

وَردِيَّةٍ بَرِئَتْ بِهَا الْأَسْقَامُ

  وَلَكَمْ رَنَتْ عَيْنَاكِ لِي فِي فَرحَةٍ

وَأَنَا أَرُدُّ ..  وَلِلْعُيُونِ كَلَامُ

  إِنِّي أُحِبُّكِ يَا حَبِيبَةَ حَاضِرِي

وَغَدِي وَأَمْسِي.. وَالْوِصَالُ يُرَامُ

  فَالْعُمْرُ بَيْنَ يَدَيْكِ عُمْرٌ خَالِدٌ

وَالْحُبُّ عِنْدَكِ وَفْرَةٌ وَدَوَامُ

  لِي فِي وِصَالِكِ قِبْلَةٌ أَسْعَى لَهَا

وَتَلَذُّ فِي شَرعِ الْهَوَى الْأَحكَامُ

  لِي فِي وِصَالِكِ رَشْفَةٌ أُسْقَى بِهَا

فَيَفِرُّ مِنْ لَيْلَائِيَ الْإِظْلَامُ

  وَأُحِسُّ أَنِّي الشَّمْسُ فِي إِصْبَاحِهَا

وَأُحِسُّ أَنِّي الْبَدرُ وَهْوَ تَمَامُ

وَأُحِسُّ أَنِّي النَّجْمُ فِي عَلْيَائِهِ

وَأُحِسُّ أَنِّي طَائِرٌ رَنَّامُ

  وَأُحِسُّ أَنِّي وَالْوُجُودَ قَصِيدَةٌ

عُلْوِيَّةٌ ..  لِحُرُوفِهَا خُدَّامُ

وَأَصِيرُ مَعنًى لِلْغَرَامِ مُجَرَّدًا

مَا فِيهِ أَشْكَالٌ وَلَا أَجْسَامُ

  لِي فِي غَرَامِكِ سَبْحَةٌ صُوفِيَّةٌ

وَأَنَا بِهَا فِي الْعَالَمِينَ إِمَامُ

  إِنِّي أُحِبُّكِ وَالْوُجُودُ يَزُفُّنِي

وَمَوَاكِبٌ حَوْلِي تَسِيرُ عِظَامُ

  وَنَسِيرُ فِي فَلَكِ الْخُلُودِ وَنَرتَقِي

وَمِنَ الْمَلَائِكِ حَوْلَنَا أَقْوَامُ

  أَنَا عَاشِقٌ لِي فِي غَرَامِكِ نَشْوَةٌ

وَمِنَ التَّوَاصُلِ مَبْدَأٌ  وَخِتَام

القصيدة متوسطة الطول في تبلغ حوالي ثلاثين بيتا عموديا خليليا  من بحر الكامل ، وتبدو حكمة الكلمة منذ أول بيت في النص ، فعصام الغزالي شاعر قدير بن شاعر عظيم ، فوالده الشاعر المصري الكبير / الربيع الغزالي ، الذي كان يتميز بشعره الديني والفلسفي والعاطفي ، ولكنه لظروف عائلية شديدة المحافظة على اللغة والدين أطلقوا عليه لقب الشاعر الإسلامي ، خاصة وأنه كان كعظماء عصره لا ينطق كلمة سوى باللغة الفصحى شأنه شأن عميد الأدب العربي ورؤساء الجامعات المصرية ومديري إدارات المعارف وعمداء كليات اللغة العربية ودار العلوم ، ومن النوادر أن الشاعر المصري الرائد / الربيع الغزالي لم يكن يجيد النطق

بالعامية المصرية لأنه تربى على الفصحى، ولم يعرف العامية إلا بعد أن تجاوز سنه الأربعين عاما.

فعصام الغزالي شاعر مصري قدير ابن شاعر مصري عظيم وهذا ما جعل الشعر يسيل على لسانه رقة وحكمة، وروعة وجمالا، فليس في نصه ضرورة قافية أو روي، ولا تقديم وتأخير لكي يصل لمعنى يسير، بل يجري شعره من بين فكيه كما يجري ماء النهر بين شطيه، لا يعكر صفوه ضعف في اللغة، ولا يعيق جريانه تقعر في اللفظ، بل تحكي القصيدة حكايته في مسامرة شعرية تعلي من الوجدان، وتثير شجون الذكرى، ولا تهبط عن خصوبة الخلق القويم أبدا.

والنص يستحق دراسة مطولة، لكنني ممن ينظرون حول النص ولا يحفر تحت الجذور، فالحفر تحت الجذور يحتاج طول نفس ، وقد سبقني الناقد والشاعر الكبير: عباس الصهبي حينما تناول الأعمال الكاملة للشاعر: عصام الغزالي ، فكان له فضل السبق حيث فتح لي أبوابا متعددة لأدلف من أيها شئت ، لكنني رأيت أن أدخل من أضيق الأبواب ، وهو باب النظر في النص من الخارج .

أما شاعرنا القدير: ثروت سليم فله نص يتحدث فيه عن علاقة الهندسة الزراعية بدار العلوم، والذي يقول فيه :

بي دَرْعميٌ كيفَ صَارَ مُهندِسَا

وأحَالَ أحلامَ القصيدةِ نَرجِسَا

لُغتي كتابُ اللهِ .. جَلَّ جلَالُهُ

نورٌ وبَاتَ النورُ حَرْفاً مؤنِسَا

والشِعرُ رِزْقُ اللهِ فاضَ بشَاعِرٍ

شوقاً فأهدَى الحُبَّ صُبْحَاً أو مِسَا

ورَقٌ من الرَيحَانِ.. شَهْدُ صَبَابَةٍ

عزَفٌ.. أحَالَ الحَرْفَ قَزَّاً سُندُسَا

وأحَالَ وَجْهَ الصُبْحِ بَسْمَةَ عَاشِقٍ

وأحَالَ من قلبِ الحَبيبةِ نَوْرَسَا

كم سَافَرَ الشِعرُ الجَميلُ على يدي

طيراً على تِلكَ الشواطئِ قد رَسَا

أنا دَرْعَمِيُ القلبِ .. روحُ قَصيدَةٍ

بَيْتٌ مِن الشِعْرِ النَبِيِ تَأسَّسَا

طَيرٌ مِن العُشَّاقِ غَرَّدَ في دَمي

عِطْرٌ مِن الصُبْحِ الجَديدِ تَنَفَّسَا

أنَا دَرْعَمِيٌ .. مَا كَتَبْتُ قصيدَةً

إلا إذا كانَ القَريضُ مُقَدَّسَا

وهناك علاقة وثيقة بين الزراعة والفنون ، فالزراعة تغذي الجسد والفنون تغذي الروح ، وكأن حكمة اللفظ عند ثروت سليم تقول لقارئ قصيدته إن اللفظ الحكيم هو ذلك اللفظ الذي يتوسط تماما بين غذاء الروح وغذاء الجسد ، فكلاهما يحتاج لغذاء صحيح ،فلو ترك الجسد طعامه من اللحوم والبقول والخضروات ثم تناول طعاما مخالفا من الفحم أو الأخشاب أو غيرها فسوف يتلف الجسد لأنه يخالف قوانين الحياة كما أرادها الله ، وكذا من عرف قصيدة الشعر بدون أن يتعرف على الغذاء المناسب من اللغة الدرعية _ إن صح التعبير _  فهو مخالف لقوانين الغذاء الروحي .

ويمتلك ثروت سليم جزالة اللفظ وفصاحته في تراكيب مستحدثة دون تقليد أو حاجة لتقعيد جديد ، بل تنهمر الكلمات من ملكوت  رأسه فيشدو كما شاء ومتى شاء وفيما شاء .

يستحق الشاعران دراسات مطولة تليق بما قدما للشعر العربي ، لكن المساحة المتاحة لي ضيقة ، وحسبي أنني أشرت للقارئ على علممين رائدين يعيشان بين ظهرانينا ، فهذا جهد المقلين  نجتهد وعلى الله السداد.

اقرأ ايضاً

الصورة بين الشعر والفن التشكيلي

شكرا للتعليق على الموضوع