الصورة بين الشعر والفن التشكيلي

تقرير بقلم الدكتور: رمضان الحضري

النقد _ في مفهومي الخاص _ هو أن يورط الناقد نفسه في موضوع معرفي لم يكن مثارا سابقا ويحاول طرح الأسئلة والأجوبة للمتلقي فإن قدّم جديدا فليشكر الذي علمه، وإذا لم يقدم جديدا فلربما كانت كلماته تذكرةً لمن نسي، أو توطئة لتجديد قادم.

وحينما يكتب الناقد كلماته يتحرى نداوة المفردات وصحة المعلومات وموضوعية المناقشات والبعد عن أحكام الذات، فإذا خرج ليلقي درسه على جماعة تحرى لون ثيابه ونظافتها وهيئته ومناسبة ذلك لمن سيجلس معهم ، نعم شأنه شأن كل الناس حينما يذهبون لمناسبة يحاولون اختيار اللون المناسب من الملابس ، ويفكرون في الكلمات المناسبة عند اللقاء ، سواء كان اللقاء سعيدا أو شقيا .

فكل الناس تعيش بين اللون والكلمة ، فاللون والكلمة هما جسر التواصل الممدود بين الناس جميعا .

واللون بصري والكلمة بصري وسمعي، وربما تحول الأمر ليكون أكثر إبداعاً فقد روي عن أحد أباطرة الصين أنه قال للرسام في قصره:

أريدك أن تمسح النهر الذي رسمته في غرفة نومي لأنني لا أستطيع النوم من صوت خرير الماء، فروعة الفنان أنه جعل الصورة لها صوت يسمعه من ينصت له.

والصورة في لغتنا العربية تعني الخلق والإبداع وإعادة تشكيل الواقع، ولم ينتبه الكثيرون أن من أسماء الله الحسنى إسم “المصور”، والذي ورد في آخر سورة الحشر:

}}هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ لَهُ الأَسْمَاء الْحُسْنَى يُسَبِّحُ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ{{

فالمصور ورد صريحاً في الآية الكريمة، فهو إسم توقيفي والدليل أن الله قال بعده له الأسماء الحسنى وكأن التسبيح بعد جمال الهيئة والمنظر والصورة واجب أو ارتباط بينهما، وهذا ما يجعل الناس في البلاد العربية تقول: سبحان المصور حينما يتحدثون عن بستان جميل أو فتاة جميلة أو منظر طبيعي جميل، فالصورة مرتبطة بالجمال.

والصورة في الفن التشكيلي مجموعة من الخطوط في مساحة معينة يقصد بها الفنان إعادة تشكيل الواقع كما يحب وربما تجاوز الأمر فقصد إلى تحدي هذا الواقع، ليخرج لنا صورة مبتكرة ليست موجودة في الواقع ولكنها مقبولة لدى المشاهد، وهذا ما تستخدمه العلوم الحديثة في الطب والبحث الجنائي والهندسة وعلوم أخرى كثيرة، فالصورة في الحياة مهمة للغاية، وهذا رد على أولئك الذين يرون أن الفنون لا تخدم المجتمعات، فالفنون هي الحصان السابق لحصان العلم في جر عجلة المجتمع، خاصة حينما تكون فنوناً حقيقية تشكل شخصية الإنسان في المجتمع بشكل تطويري دون تقليد أو رجعية.

بينما الصورة في الشعر هي صورة ذهنية تتركب في الذهن ويحللها العقل والفكر، وليس لها إطار محدد، ولذا فإن حظها من الوضوح يرد إلى الشاعر الذي يرسم هذه الصورة ، ولله در بشار بن برد حينما قال :

كأن مثار النقع فوق رؤوسنا

وأسيافنا ليل تهاوى كواكبه

فذلك المبصر بشار ينقل لنا صورة معركة حربية، الحركة فيها كثيرة من الكر والفر حتى أثارت غبار الأرض فأظلمت في وضح النهار وكأنها ليل، والسيوف مسنونة ولامعة وحركة السيوف كأنها نجوم تتساقط في هذا الليل الشرس في ظلامه ومعاركه.

وقد اخترت نموذجين في هذا الجزء لشاعرين مختلفين في المكان، أحدهما في الشاعر السعودي / أحمد آل مجثل والثاني الشاعر المصري الدكتور/ أسامة أبو طالب، ونموذجين للجزء الثاني من الشعر لأتحدث عن الصورة الشعرية فيهما أحدهما الشاعر المصري / عبدالعزيز جويدة والآخر الشاعر العراقي / عباس شكر ، وليكن الجزء الثالث للصورة في الفن التشكيلي ، وأقدم نموذجين في الفن التشكيلي أحدهما الفنان التشكيلي المصري / حسين نوح والآخر الفنان التشكيلي السعودي / فهد بن ناصر الربيق .

ولنبدأ بأول النماذج لشاعر الجزيرة / أحمد آل مجثل الغامدي بعنوان (اشتعال غيمة ) والذي يقول فيه :

11

أتَبيتُ

في خجل زهورٌ

والقلب يحسبها نياما

وتطوف

قافيتي كأني

ما زلت أهديها الكلاما

وأهزُّ

نخلتها فتجني

بجميع أحرفها غراما

ما زلتُ

أحملها بقلبي

لكنها اشتعلت ضراما

وتصوغ

حبّات اللآلئ

وتَجِنّ أن تبقى فِطاما

حتى

إذا انصهرت غيوماً

قد أمطرت غيثي دواما

وتنفّست

فرَحي فصارت

روضاً يعانقني سلاما

هذا النص الذي اختار له الشاعر أرضا إيقاعية من مجزوء الكامل ، وقد يصيب التذييل عروض مجزوء الكامل كما يصيب المتدارك

والبسيط لتصبح متفاعلن متفاعلان ، ولست معنيا هنا بالإيقاع وجمالياته وإن كنت لا أستطيع أن أخفي أهمية الإيقاع في حركة الصورة الشعرية صوتيا ، لكني سوف أحاول أن أضع مفردات الصورة الشعرية الذهنية أمام الفنان التشكيلي لنتعرف كيف يمكن لهذه الصورة الشعرية أن تكون أن تتحول من صورة لفظية مقروءة ومسموعة إلى صورة مرئية مخطوطة وملونة ، فالشاعر قدّم مفردات الصورة واضحة جلية تبدأ ( بالزهور الخجلى والتي أسكتها الخجل حتى ظن القلب أن هذه الزهور نائمة منذ زمن طويل ، بينما الشاعر يهز نخلة الشعر لكي تسقط حرفا غراميا سريع الاشتعال ، وهذه الحروف الغرامية تنتج حبات اللؤلؤ المدهشة التي ستبقى على زمن الفطام ، وهو أقل الأزمنة بالنسبة للإنسان ، كما تشتمل الصورة على غيوم تنصهر لتسيل مطراً مستمرا يجعل الشاعر يتنفس الفرح بدلا من الهواء ، ويجد أن الروض يعانقه ) .

فالفنان التشكيلي يمكنه أن يرسم زهورا جميلة ، لكنه من الصعب أن يرسم صورة لزهور خجلى ، ومن السهل للفنان أن يرسم قلبا محبا ، لكن من الصعب أن يرسم قلبا مفكرا ويظن ويحسب ويرى ، وكذا يمكن للفنان أن يرسم نخلات مثمرات رطبا ، ولكنه لا يمكنه أن يرسم نخلات مثمرات حروفا غرامية ، هل هناك حروف غرامية وأخرى غير غرامية ؟! ، وهكذا فالصورة في قصيدة اشتعال غيمة هي صورة شعرية لا تقبل أن تصبح صورة تشكيلية مرسومة ومحددة بمساحة وملونة بألوان ومنتجة ذات المعاني التي قدمتها القصيدة ، ومقدمة لنفس الدلالات التي قدمها النص .

فعلى الرغم من غرابة الصورة الشعرية بالنسبة للصورة التشكيلية ، إلا أن الصورة الشعرية في نص أحمد آل مجثل قابلة لكي تكون واقعا ، حيث إن الصورة تحمل أبعادا نفسية وسلوكية داخلها ، وهذه الأبعاد النفسية في الفن التشكيلي تكون نتيجة لقراءة الصورة ، ولا تكون موجودة داخل الصورة ، ولا يعني هذا تفضيل الصورة الشعرية الذهنية على الصورة الفنية التشكيلية بأي شكل من الأشكال ، فالحكم دوما يأتي من خلال الوصول للهدف من خلال الإجادة أو الموهبة والعبقرية ، وليس خلال تفضيل فن على فن آخر ، أو منتج على منتج آخر .

كما أن الصورة في النص شملت بعدا دراميا من خلال المتناقضات

التي تحمل بعدا نفسيا ، فإن الطباق والمقابلة لا ينتجان دراما إلا إذا تحملا بعدا نفسيا ، وهذا ما يتضح في بعض مفردات الصورة ، فالتناقض بين الخجل والنوم ، والمطر والنار ، وبين المقدمات والنتائج يجعل الصورة تشكل تكوينا دراميا رقيقا وحريريا للغاية .

أما النص الثاني الذي أقدمه نموذجا للصورة الشعرية فهو للشاعر والكاتب الدكتور / أسامة أبوطالب بعنوان (عشاء الشاعر الأخير ) ، والتي يهديها لروح صديقه شاعر العرب الكبير / صلاح عبدالصبور ، ويعلن الشاعر أنها كتبها بعد وفاة صلاح عبدالصبور بساعتين ، والتي يقول فيها :

10

هذا اليوم المشئوم ُ

هو اليوم الرابع عشرْ

من أيام السنة المشئومة ِ

تطلع فيه الشمس بجمرتها اليومية حبلى بالمعتاد وباللآمعتاد تقول

يا قاهرة ُإليك طعامَ اليوم ِ ,

غذاءَك من خبز الضجة ِ,

حصة َعرباتك من لحم المارة ِ

مشربها من دم ّ المقتولين

هواءك محترقا في رئة النفط ِ

فاروي ظمأ الأرصفة بخمر العرق المالح ؛

نزّي ثرثرة الليل وعومي في حمم الأسفلت ِ

، افترسي وجبتك المعتادة من أحلام الفقر .

سارت حتى اتخذت مجلسها المعتادَ ؛

ومن بين أصابعها ألقت حصة هذا اليوم من الضحكات, وقالت :

أعلو فوق سماءك يا قاهرة ُ

وأدلق آنية النار الصيفية وأكبل أفراس الريح ْ

أدخل في شريان النهر فيغلي حتى ترتعشي أنت ِ من الحمى

يتفصد جسدك عرقا

تتسلخ أعضاؤك

وتلين الأطراف من الرجفة نامي

ترتد إليك بكارتك

طهارتك الأولى وترقين فلا يخطر فوق أديمك غير اللص

وغير العاشق والشرطي ّ

ومن يجتمعون على دم ّ الشاعر!

قالوا: ” مدّوا المائدة الليلية َفهو يحب السمر

ويأتنس بثرثرة الليل الناعم

ومنادمة الخلان

واروا عن عينيه التابوت الذهبي، وجروه

بخيط الجدل الساحر

ثم اتخذوا سمت الندمان وقولوا أطربنا

أنت طروب تشجيك الألحان

أطربنا

فانساب الصوت الطيب قال:

أغني لمدينتنا

وبلغتي أدعو من يعشقها أن يطرب ويغني

وينادم يا ليل

أحبك

أيقظ أهلي لأراقصهم.

قالوا: – علمنا

قال أعلّمكم أن العاشق لا يكره أبدا

أن القلب إذا أسكره الحب تمايل ْ

وإذا عذّبه الصدّ بكى

لكن أبدا لا يكره

أن المعشوقة لو تجفو

فعلى العاشق أن يدنوَ

وإذا ملّت فليتقرب أكثر.

أن العشق دوام الصحبة

أرض العاشق بستان

فيه الزهرة، والشوك، وفيه الثمر الناضج والفاكهة الفجة

أبدا لا نتخير من نعشقهم

بل تخرج من ضلع العاشق معشوقتهُ

في أرض المعشوقة تخضر جذور العاشق.

قالوا: – باركنا نحن حواريوك إليك أتينا من غربتنا

ألقتنا سنوات النأي على شطك.

قال: – يصيح الديك، وقبل صياح الديك تضيقون بأغنيتي

يسلمني الكره الكامن في الأفئدة إلى السياف.

قالوا: – أطعمنا

قال: – دمائي تروي النار المخبوءة

لحمي بين أظافركم.

إني أكشف صدري

من يطعنني، تحمل صورته الصحف السيارة ِ

يصبح ثرثرة الحانات ويركب عربات الشهرة ِ

لكن أبدا لن يسرق من بين ضلوعي سر النغم ِ

ولن يخطف من بين عيوني ألق العاشق ِ

أو يسلبني أحلام الشعراء.

قالوا: – نحرق أشعارك في طقس الكره ِ

لماذا ننعق نحن وأنت تغني!؟

قال: – لأن الأرض تعلمني أن البذرة تضحك للمحراث إذا عانقها .

أن الثمرة َ

تسقط في حجر الطفل إذا اشتاقت أن يطعم منها.

أن ورود الشفة العطشى للماء يروّي ظمأ الماء

, يا وطني أهواك ولو عذبني عشقك.

مبتدأ الرحلة أنت نهايتها

أسكن في صدرك.

باركني حيث أموت وثبتني سطرا في أغنيتك.

واصنع خاتمتي أنت لترثيني لا أرثيك.

تمّت أغنية الشاعر

فاندق الخنجر في الظهر وقرّت ما بين الكتفين الطعنه

نظر إليهم

قالوا: قتلتك الكلمات تساءل من يحملها بعدي؟

يا أهل مدينتنا انفجروا

أو موتوا رعب أكبر من هذا

سوف يجيئ

سكتوا وانتظروا حتى جاء الرعب

فما انفجروا أو ماتوا

لكن الشاعر مات

مات

فهل تحيي الموتى كلمات؟

***********

والصورة الشعرية في نص أسامة أبو طالب متسعة للغاية في المساحة، وكثيرة للغاية في ألوان الحزن والخوف ، وخشنة الملس مما يجعلها صورة لامعة جدا ، وما يجعلني محتاجا لتفنيد مفردات الصورة بكاملها ، وهذا سيكون إذا أراد الله جل في علاه في المقالة القادمة .

اقرأ ايضا

رمضان الحضري يكتب : شاعرات من مصر

شكرا للتعليق على الموضوع