محمد عمارة يكتب: نفتالي بينيت واستراتيجية التمدد والانكماش
لقد قتلتُ بصفةٍ شخصيةٍ عددًا كبيرًا من العرب، ولا توجد لديّ أدنى مشكلةٍ في ذلك”، تلك واحدة من مقولات رئيس الوزراء الإسرائيلي الجديد نفتالي بينيت بحق الفلسطينيين، وهي تأتي تعبيراً عن قناعات ترسخت لديه ولدي التيار الديني الصهيوني الذي ينتمي إليه، وأضحت تشكل الوجدان الجمعي لهذا التيار، فالعربي الجيد لديهم هو، دائماً وأبداً، العربي الميت.
يبلغ بينت من العمر تسعة وأربعين عاماً، وهو زعيم اليمين المتشدد في إسرائيل، كما أنه المليونير ورجل الأعمال السابق في مجال التكنولوجيا المتقدمة، لقد أدار عبر شركاته معركة دعائية عالمية لتلميع الكيان الصهيوني وتجميل صورته القبيحة في الإعلام الأجنبي ليبدو القاتل كما لو كان الضحية.
ولك أن تعلم أن بينيت هو أول زعيم حزب يميني ديني يتولى رئاسة الحكومة في تاريخ دولة الكيان الصهيوني، فهي إذن لحظة تاريخية فارقة لدى هذا التيار وقد طال انتظارها.
في العام 2012م تولى بينت رئاسة حزب “البيت اليهودي” اليميني المتشدد، وهو الوريث الشرعي لحزب المفدال الديني، غير أنه في عام 2018م، أعاد بينت تسمية حزب البيت اليهودي باسم “يمينا” أي “إلى اليمين” .
هو رجل براجماتي مصلحي، مثله مثل التيار الديني الصهيوني الذي ينتمي إليه، إذ يعتبر كل علماني حماراً للمسيح بالمفهوم الديني والأداة التي يتحتم إمتطاؤها لتحقيق ما يتغياه دون وعي منها، تماماً كحمار المسيح الوارد ذكره بالعهد القديم والذي سيحمل المسيح اليهودي للقدس عند عودته دون وعي منه، أي من ذلك الحمار، فهو التسخير من دون إدراك.
بل إن علاقته بأستاذه نتنياهو أضحت مرهونة بتلك القناعة، يرى بعض الذين لا يعرفون طبيعة هذا التيار أن تنكُّره لأستاذه هو تحول دراماتيكي لدى بينيت الذي كان أحد المقربين من نتنياهو، فقد ساعده الأخير كثيراً، ولكنها في التحليل الأخير خاصية كامنة في هذا التيار الديني الصهيوني، فهي علاقات مؤقتة ومشروطة تحكمها المصلحة وحتى إشعار آخر، فأين تكون المصلحة ستجد الرجل وتياره بالضرورة، لقد تسبب ذلك النكران للجميل في هجوم أعضاء حزب الليكود على بينيت بدعوى أنه خانهم، كما هاجم نتنياهو نفسه بينيت، قائلاً، أي نتنياهو، إن ” بينيت لا يتورع عن فعل أي شيء من أجل أن يكون رئيساً للوزراء”، وهو في ذلك الصادق وإن كان كذوباً.
والمفارقة أنه على الرغم من انتمائه للتيار الديني إلا أنه، أي بينيت، يقبل بمصافحة النساء، ولا يدين سلوك المثليين، فالمهم لديه هو إنفاذ إستراتيجية الصهيونية الدينية التي تتحرك بقدمين كبيرين هما: العنف والاستيطان، فهما مركز العقيدة لديهم وكل شيء بخلاف ذلك هي أمور على الهامش وليست من المتن في شيء.
لقد قبل بينيت الانضمام لحكومة يجري تصنيفها على أنها يسارية، فالغاية لديه تبرر الوسيلة، وهو ما تحقق له بالفعل، فها هو يتقلد أكبر منصب سياسي في دولة الكيان الصهيوني.
الحقيقة أن هذا التيار عبر ثغرة في النظام السياسي الإسرائيلي استطاع أن يمارس دوراً أكبر بكثير من حجمه، إذ تبقى الكتلة السياسية الأكثر حجماً بحاجة ماسة لتحالف الكتل الأصغر معها من أجل تشكيل الحكومة، فلك أن تعلم أن حزب (يمينا) الذي يتزعمه نفتالي بينيت، يمتلك سبعة مقاعد فقط في الكنيست، لكنه عبر البراجماتية السياسية منزوعة الأخلاق، أو قُل الانتهازية السياسية في حدها الأقصى تمكن من الحصول على المنصب.
بينيت مثله مثل حزبه يدّعي أن أرض فلسطين هي ملك لإسرائيل وحدها، وهو يؤيد بناء المستوطنات، إذ يرى أن المستوطنات ستخلق واقعاً يستحيل تغييره، من أجل ذلك تصدى لكل محاولات تجميد بناء مستوطنات جديدة، بل وكان قد شغل في السابق منصب رئيس مجلس الاستيطان في الأراضي المحتلة، بل وكان قد أعرب عن رفضه تنفيذ الجنود الإسرائيليين أوامر الحكومة في حال طلبت منهم إخلاء مستوطنات، وهو يعتمد في ذلك على وجود عدد كبير من المتدينين الصهاينة داخل الجيش.
إذ يتبنى الحزب الذي يتزعمه بينت ذات مبدأ حزب المفدال القديم ” أرض إسرائيل لشعب إسرائيل حسب توراة إسرائيل”، لذا يدعو لاستمرار الاستيطان ويرفض أي محاولة للتنازل عن المستوطنات، كما يرفض محاكمة ضباط الجيش الصهيوني وجنوده على الجرائم التي ارتُكبت ضد الفلسطينيين.
ويدعو إلى ردود الفعل العسكرية دائماً لا السياسية في التعامل مع المقاومة الفلسطينية.
لقد كشفت صحيفة معاريف الصهيونية، أن نفتالي بينت هو المسئول الأول عن مجزرة قانا الأولي(مجزرة مقر اليونيفيل التابع للأمم المتحدة) عام 1996م، فقد كان وقتها يخدم في الجيش قائدًا لإحدى الوحدات القتالية، وقد تورط في ارتكاب تلك المجزرة والتي راح ضحيتها أكثر من مائة فرد لبناني أغلبهم من الأطفال والنساء، وجاء في التقرير الخاص بالمجزرة أن بينت تصرف من تلقاء نفسه مخالفًا أوامر قادته.
وفي عام 2013، صرّح بأنه “يجب قتل المحتجزين الفلسطينيين وليس إطلاق سراحهم”، كما ادعى أن الضفة الغربية ليست تحت الاحتلال لأنه “لم تكن هناك دولة فلسطينية هنا”، ومن ثم فهو من أشد المعارضين لقيام دولة فلسطينية، وفي عام 2017م زعم بينيت أن “أحداً من الشعب اليهودي لا يمتلك الحق بالتنازل عن جزء من أرض إسرائيل، ومن ثم يستحيل إقامة دولة فلسطينية، فالأرض كلها ملك لإسرائيل”.
ومن ثم يدعو نفتالي بينيت لضم الضفة الغربية إلى الكيان الصهيوني مؤكدًا أن ” المفاوضات السياسية مع الفلسطينيين حول إنشاء دولة فلسطينية على حدود عام 67 م هو أمر من قبيل المستحيل، إذ أن من شأنه أن يضع دولة إسرائيل في خطر محدق، إذ ستخلق أكثر من غزة أضف إلى ذلك جذبها لملايين اللاجئين الفلسطينيين في أنحاء العالم، وهو ما سيقود لكارثة ديموجرافية تشكل خطرًا على مستقبل الدولة اليهودية”، ومن الناحية الاقتصادية يؤكد نفتالي بينيت أن قيام الدولة الفلسطينية يعنى انهيار الاقتصاد الإسرائيلي، ويضيف: ” لن نسمح بطرح موضوع الانسحاب من أي جزء في الضفة الغربية، العالم يحتقر الدولة التي تفرط في أرضها… الحديث عن دولة فلسطينية هو خطأ تاريخي والقدس الموحدة هي عاصمة دولة إسرائيل ولن تخضع للمفاوضات”، ومن ثم يؤكد نفتالي بينت أن حل الدولتين هو في غير صالح إسرائيل وبالتالي يتوجب رفضه، كما يدفع نحو إصدار القانون الأساس الذي من شأنه أن يعتبر إسرائيل دولة يهودية، وهو بالتالي ضد منح حقوق المواطنة للأقليات داخل الكيان الصهيوني بل وتبني سياسة من شأنها ردع أنشتطهم، فهم وفق قناعاته يشكلون طابورًا خامسًا لصالح الفلسطينيين داخل الكيان الصهيوني.
لقد صرّح بينيت أن الصراع بين إسرائيل والفلسطينيين هو صراع غير قابل للحل، إذ قال: “محاولة إقامة دولة فلسطينية في بلادنا انتهت بلا رجعة… لن يكون هناك دولة فلسطينية داخل أرض إسرائيل، دولة فلسطين ستكون كارثة لأكثر من مائتي سنة، أريد أن يفهم العالم أن دولة فلسطينية تعني إلغاء دولة إسرائيل…إن أرض إسرائيل هي أرض شعب إسرائيل وفقط، يجب أن نقول لأنفسنا، ولكل العالم إن هذه أرضنا منذ ثلاثة آلاف عام، لم تكن هنا دولة فلسطينية أبداً، ولم نكن نحن مُحتلين، نحن السكان الأصليين هنا”، فها هو الرجل يردد ذات الوقاحات الصهيونية التي تم الترويج لها مع بداية المشروع الصهيوني.
كان بينت قد أسس حركة (إسرائيل لي (My Israel) التي ترفض أي عملية سلمية من شأنها منح الفلسطينيين دولة مستقلة، وتبذل هذه الحركة جهودًا كبيرة على شبكة المعلومات الدولية لتقديم رؤيتها للصهيونية والصراع العربي الإسرائيلي باعتبارها الحقيقة المطلقة ومن أجل ذلك أقامت ما يشبه التحالف مع المسئولين عن موسوعة ويكيبيديا الدولية بل ونظمت لهم مؤتمرًا ترويجياً في إسرائيل.
والرجل مثله مثل سائر زعامات التيار الديني الصهيوني لا يترك فرصة إلا ويعلن عن توجهاته العنصرية والتي من خلالها يكتسب المزيد من الأتباع في بيئة لا تنمو وتزدهر بها إلا أطروحات العنف والتطرف، في حين أن الأطروحات المعتدلة يكون مصيرها دائمًا الذبول والتلاشي في محيط هادر من الكراهية.
في مارس من العام 2015م اقتحم نفتالي المسجد الإبراهيمي تحت حراسة أمنية مكثفة مما أثار ردود فعل واسعة، وتنتشر عبر الانترنيت صورة لنفتالي بينت وهو يحمل سلاحًا، وهي الصورة التي علق عليها البعض بأنها دعوة للإسرائيليين لحمل السلاح.
وفيما يتعلق بالملف الإيراني يدعو بينت للانتقال من الدفاع والتصدي لأي هجوم إيراني محتمل من سوريا إلى الهجوم مباشرة على القوات الإيرانية هناك، بل وهدد بتحويل سوريا إلى “فيتنام” ضد القوات الإيرانية، في حال أصرت إيران على وجودها العسكري في سوريا، ومن ثم يقول بينت مخاطباً الإيرانيين:”عليكم أن تعلموا أن سوريا ستتحول إلى فيتنامكم، ستغرقون في دمائكم هناك حتى الموت”.
لقد نجح نفتالي بينت في دفع نتنياهو وأعضاء الليكود بشكل أكبر باتجاه اليمين والتشدد، إذ تمثل الأحزاب الدينية الإسرائيلية واحدة من أهم محددات صنع القرار السياسي الإسرائيلي وبخاصة الأحزاب الدينية المحمولة على الرؤى والأطروحات الصهيونية، إذ تتفق جميعها على مبدأ عام، وهو الولاء للكيان الصهيوني عبر إلباسه حلة دينية مزركشة بالأيديولوجية الصهيونية التي لحمتها الاستيطان وسداها العنف.
ومن ثم فهي تجتمع على رؤية واحدة للصراع العربي الصهيوني وهي التمسك التام بكامل “أرض إسرائيل “بمفهومها التوراتي، وبالتالي الدعوة للتخلص من العرب الموجودين بها وإحلال يهود محلهم.
وهي رؤية استعمارية إحلالية يتلاشى معها أي أمل في تحقيق تسوية سلمية للصراع العربي الصهيوني، خاصة إذا ما علمنا أن تلك الأحزاب الدينية الصهيونية يتزايد نزوعها نحو التشدد وتبني المواقف الأكثر تطرفاً بمرور الوقت وذلك في ظل موقف عربي ودولي مُتراجع.
ولا تخلو الأخبار عن قيادات هذا التيار الديني الصهيوني الذي يتزعمه بينت من بعض الفضائح الجنسية، فها هو أحد النواب في الكنيست عن الحزب وهو ينون مجال (Yinon Magal) والذي كان عضوًا في الكنيست العشرين، إلا أنه استقال بعد تفجُّر فضيحة جنسية له في 2015م، إذ اتهمنه ثلاثة من النساء كن يعملن معه في موقع ” وللا ” الإخباري بالتحرش الجنسي بهن.
يرى بينت أن القدس بكاملها هي للصهاينة وفقط، لذا فقد كان من أشد المُرحِّبين بقرار الرئيس الأمريكي دونالد ترامب الاعتراف بالقدس عاصمة لإسرائيل، مستشهدًا وبكل وقاحة على أحقية القدس لإسرائيل بأنها لم تُذكر في القرآن مطلقاً، يقول بينيت: “في نهاية المطاف، القدس هي عاصمة إسرائيل، هل تعرفون كم مرة ذكرت في القرآن الكريم؟ صفر”.
والرجل بسبب مواقفه المتشددة تلك يحظى شعبية كبيرة داخل الكيان الصهيوني، ففي أغسطس 2017م وفي استطلاع للرأي داخل المجتمع الإسرائيلي أكد كثيرون أنه الخليفة المُحتمل لرئيس الوزراء بنيامين نتنياهو، حال الإطاحة به من منصبه، وهو ما حدث بالفعل.
وفي التحليل الأخير، فالتيار الديني الذي يتزعمه بينت لا يجب أن ننتظر منه غير مزيد من العنف لو لم يتم ممارسة ضغوط حقيقية عليه، إذ وبمرور الوقت، وفي ظل بيئة مواتية، سنجده يتجه نحو التشدد وينزع نحو تبني أطروحات أكثر راديكالية وعنفًا.
والغاية لدية وكما سبق القول تبرر الوسيلة مهما بلغت درجة خستها وبشاعتها، فهو كائن ما بعد حداثي تجري في عروقه دماء صهيونية، فقد جمع الأرذلين، فلا قيم ولا وعود أو عهود يمكن الاحتفاظ بها، فكل شيء قابل للبيع ويخضع للمساومة.
لقد استوعب بينت الدرس جيداً، ذلك الدرس القائل: مزيد من التشدد يقود بالضرورة إلى مزيد من الأتباع ومن ثم الصعود في سلم السلطة، ومن ثم طعن في الظهر وذبح من الوريد أستاذه نتنياهو الذي كان قد تنكّر هو الآخر لمن كانوا قبله، فهي معركة القدور الفخارية التي يحطم بعضها بعضا، لكننا بوعينا الزائف اعتقدناها صُنعت من فُلاذ.
لقد امتطى بينت ظهر نتياهو وصولاً للمنصب الرفيع، ولما لا فنتنياهو هو حمار المسيح، وتياره المنتمي إليه شأنه شأن سائر التيارات الدينية الصهيونية في إسرائيل تنظر للعلمانيين باعتبارهم ” حمار المسيح ” الذي سيمتطيه المُخلِّص عند عودته لفلسطين، وعليه يتحتم استغلالهم قدر الإمكان حتى يتحقق حلم الاستيطان كاملاً ومن ثم عودة المخلص، في تلك اللحظة، لحظة العودة، سيصدر قرار الفصل النهائي لهؤلاء العلمانيين والتخلص التام منهم، فقد انتهي دورهم.
ومع ذلك كله ورغم ما يتشح به المشهد من سوداوية ممتزجة ببقع من الدماء، أكثرها دماء الفلسطينيين الزكية، فالأمل لا يزال قائماً.
فطبقاً لاستراتيجية (التمدد والانكماش) التي كثيراً ما حدّثنا عنها العلامة الراحل الدكتور إبراهيم البحراوي رائد الدراسات الإسرائيلية والتي طرحناها في أكثر من دراسة، ليس لدى بينت(مثله مثل التيار المُنتمي إليه) مواقف مبدئية ثابتة، بل ستتغير بتغير كل من الموقف الداخلي والعربي والدولي، أي أنه في حال مارست تلك الأطراف ضغطاً حقيقياً على الكيان الصهيوني تُشعِره بتهديد وجودي ستنكمش أطماع هذا التيار وصولاً للقبول بدولة فلسطينية، وفي حالة تراخي تلك المواقف أو انحيازها لإسرائيل ستتمدد أطماعه لتلتهم المنطقة كلها، تلك هي خاصية التمدد والانكماش التي علينا أن ندرك آلية عملها جيداً ومن ثم التحرك وفق مقتضياتها.
دكتور محمد عمارة تقي الدين
(كاتب وأكاديمي مصري متخصص في الاجتماع السياسي والصراع العربي الصهيوني)
اقرأ ايضاً
ناصر اللحام يكتب: الشيخ جراح .. هنا المفاوضات الحقيقية