مصطفى اللداوي يكتب: المحررون الستةُ قاماتٌ تشمخُ وعدوٌ يقمعُ

يتعرض الأسرى الفلسطينيون الستة، الذين تمكنوا من الفرار من سجن جلبوع “الخزنة”، بعد أن تمكنت قوات الاحتلال الإسرائيلي من إعادة اعتقالهم، إلى أشد أنواع التعذيب الجسدي والنفسي، انتقاماً منهم، وحقداً عليهم، وعقاباً لهم، وتصفية للحسابِ معهم، وتأديباً لهم، ودرساً لغيرهم، وإغاظة لشعبهم، وشماتةً بأهلهم، ومحاولةً دنيئةً لرد الاعتبار لمؤسساتهم الأمنية والعسكرية، التي تلقت صفعةً مؤلمةً وركلةً مخزيةً، بنجاح الأسرى الستة بالفرار من سجنهم المحصن، المصنف أمنياً بأنه الأول بين السجون الإسرائيلية، والأكثر تحصيناً وحمايةً، فعمدوا إلى تعذيبهم بساديةٍ مفرطةٍ، وعنصريةٍ مستنكرةٍ، وبطريقةٍ تعبر عن نفوسهم المريضة، وأخلاقهم الدنيئة، وهزيمتهم الداخلية، ومرارتهم الخفية.

منذ اللحظات الأولى لعملية اعتقال الأسرى الأبطال الستة، التي تمت في أكثر من مكانٍ، وعلى مراحل مختلفة، كان آخرها بعد ثلاثة عشر يوماً من فرارهم، انهال عليهم الجنود الإسرائيليون ورجال الأمن ضرباً عنيفاً وركلاً مبرحاً، وحرصوا على تصوير الأسرى وقت اقتيادهم، وقد بدت آثار الضرب والتعذيب على وجوههم وأجسادهم، في أوضح تعبيرٍ عن إحساسهم بمرارة الهزيمة، وشدة اللطمة، وانكسار الهيبة، واهتزاز الصورة، التي بدو فيها ضعافاً أمام شعبهم، وصغاراً أمام أنفسهم، ومخزيين أمام قيادتهم العسكرية وحكومتهم السياسية.

لو أن العدو الإسرائيلي كان صادقاً فيما يدعي، بأنه صاحب الجيش الأكثر مناقبية في العالم، وصاحب المؤسسة الأمنية الأكثر أخلاقية، لكان لزاماً عليه أن يرفع القبعة احتراماً، ويؤدي التحية تقديراً للرجال الستة الذين مرغوا أنف كيانه الذي يدعي القوة والفوقية، وأجبروه على أن يجرد أضخم حملاته الأمنية والعسكرية، المؤلفة من آلاف الجنود والضباط، المزودين بالطائرات المروحية والطيارات المسيرة، والأقمار الاصطناعية، وآلاف الكاميرات المنصوبة، وأجهزة الكمبيوتر العملاقة التي تتابع الصور وتحلل البيانات وتجمع المعلومات.

إلا أن هذا العدو أبى إلا أن يسفر عن أخلاقه الدنيئة، وفطرته المريضة، ومفاهيمه الفاسدة، وقيمه المنحرفة، وعنصريته المفرطة، فقام بصب جام غضبه على الأسرى الستة تحديداً، وعموم الأسرى بصورةٍ عامةٍ، وأخضعهم لعمليات تحقيقٍ قاسيةٍ، لم تخلُ من التعذيب الجسدي والمعنوي، التي سبقها اعتقالُ عددٍ من ذويهم وأفراد أسرهم، والتهديد بهدم بيوتهم وطردهم من أرضهم إلى قطاع غزة أو إلى غيره، ورغم أن العدو كان يخشى مقتل الأسرى أو بعضهم، إلا أنه بالغ في تعذيبهم بما لا يفضي إلى موتهم، خشية أن تتسبب شهادتهم في اندلاع “موجة عنفٍ” انتفاضةٍ عامةٍ وثورةٍ شاملةٍ، لا يقوى على صدها أو وضع حدٍ لها ومنع انتشارها.

قامت سلطات السجون الإسرائيلية بتفريق الأسرى الستة عن بعضهم البعض، ونقلتهم إلى سجون ومعتقلاتٍ أخرى، وقررت وضعهم في زنازين العزل الانفرادي، بعد أن جردتهم من كل الأدوات الشخصية، فلم تبق معهم غير ثيابهم التي يلبسونها، وفراشهم الذي ينامون عليه، بينما قامت بتثبيت كل شيءٍ آخر قد يحتاجون إليه أو يضطرون لاستخدامه، ومنعت أي احتكاكٍ أو تواصلٍ بينهم وبين إخوانهم المعتقلين، وحرمتهم من “الفورة” والخروج إلى الساحة للمشي، وحرمتهم من زيارة المعتقلين الآخرين في غرفهم، ولم تسمح لأحدٍ من المعتقلين بزيارتهم، وقد كان هذا حقاً مشروعاً ومكتسباً نضالياً قديماً.

لا يبدو أن سلطات الاحتلال الإسرائيلي ستسمح على المدى القريب لذوي الأسرى الستة بزيارتهم، وإن سمحت فإنها ستجعل من زيارتهم قطعة من جهنم، ورحلة إلى الجحيم لا تطاق، بالنظر إلى حجم الصعوبات والمعوقات والشروط التي يجب أن يجتازها أو يمر بها الأهل للحصول على حقهم في زيارة أبنائهم، وهو ما يعانيه ذوو الأسرى بصورة عامةٍ، خلال رحلة زيارتهم القصيرة لأبنائهم الأسرى، وقد بدأت سلطات السجون في الإعداد للشروط الجديدة التعجيزية المعقدة، التي ستفرضها على ذويهم، وقد باشرت في سحب امتيازاتهم التي حققوها بنضالهم، وحرمانهم من حقوقهم الطبيعية والمشروعة.

لن يكون مفاجئاً لنا إقدام سلطات السجون الإسرائيلية، على تقييد أيدي الأسرى الستة بقيودٍ ثقيلة، وتكبيل أقدامهم بسلاسل طويلة، ووضعهم في زنازين خاصةٍ، مفتوحة ومكشوفة بقضبان معدنية، بعيدةٍ عن أقسام الأسرى والمعتقلين، وإخضاعهم للمراقبة والمتابعة والتصوير، بما ينتهك حقوقهم الشخصية، ويعتدي على حرماتهم، ويفقدهم القدرة على القيام بحاجاتهم الخاصة، وغير ذلك من الإجراءات التي قد يتفتق عنها ذهن الحراس والسجانين،  وعقلية الضباط والأمنيين.

يبدو أن الأيام القادمة ستكون صعبة وعسيرة على أبطالنا الأسرى الستة، وقد يتعرضون لما لا نعلم أو ندرك، وقد يصار إلى تعريضهم لما يمكن أن يضر صحتهم العامة، ويعرضهم لأمراضٍ خطيرةٍ، تمس أجسادهم وسلامة عقولهم، فما أحدثوه في الكيان الصهيوني صعبٌ أن ينسى، ومن المستحيل أن يمر دون عقابٍ، ولكن الإسرائيليين لن يملكوا الجرأة لمواجهة الشعب الفلسطيني وأسراه ومعتقليه بخطواتٍ علنيةٍ مكشوفةٍ، أو إجراءاتٍ سافرةٍ مباشرةٍ، وإنما قد يلجأون إلى طرقٍ عديدةٍ ووسائل مختلفة، كتسميم الطعام أو تلويث الهواء، أو تعريضهم لأنواع من الأشعة التي لا تترك أثراً ولكنها تهتك النفوس وتفتك بالأجساد.

أمام هذه الإجراءات الإسرائيلية المقصودة، والنوايا الخبيثة المُبَيَّتةِ، ينبغي علينا أن نكون منتبهين وحذرين، ويقظين ومستعدين، لمواجهة العدو والتصدي لسياساته، وإفشال مخططاته وتحدي إرادته، والعمل بكل السبل الممكنة أولاً لتسليط الضوء على معاناتهم وظروفهم، والمطالبة بتحسين شروط اعتقالهم، ومنع الاعتداء عليهم والانتقام منهم، والعمل على إتمام صفقة تبادل الأسرى القادمة، بعد ضمان إدراج أسماء الأبطال الستة فيها، وفي المقدمة منها، واشتراط عدم إنجازها أو الموافقة عليها، إلا أن يكونوا في مقدمة المحررين، أو أن يسبقوهم ثمناً لمعلوماتٍ أو بياناً لحسن الثقة وجدية الالتزام.

د. مصطفى يوسف اللداوي بيروت

اقرأ للكاتب

مصطفى اللداوي يكتب: الغفرانُ اليهوديُ يحققُه الصدقُ ويثبتُه الفعلُ

شكرا للتعليق على الموضوع