آفي شلايم والتفكيك الذاتي للمشروع الصهيوني

تقريردكتور: محمد عمارة تقي الدين

تقرير دكتور: محمد عمارة تقي الدين

” لم تكن أرضًا بلا شعب، لشعب بلا أرض” تلك واحدة من المقولات التي تترد عن البروفسير الإسرائيلي البريطاني آفي شلايم، مُكذِّباً الرواية الصهيونية الشهيرة التي رفعت شعار (أرض بلا شعب لشعب بلا أرض)، والتي تضمنت طرحاً زائفاً عمقته الصهيونية وقتها في الوعي العالمي بحجة أنه طالما أنهم شعب بلا أرض (اليهود) فهناك أيضًا أرض بلا شعب (فلسطين) وعلى العالم أن يساعد اليهود لكي يستوطنوا تلك الأرض الخالية!

ومن ثم يؤكد شلايم، أن الحركة الصهيونية لاتعدو كونها حركة استعمارية ذات نزعة عدوانية توسُّعية إحلالية، إذ تقوم على استراتيجية: الخلاص من السكان الأصليين لفلسطين:قتلاً وتهجيراً، وتوطين الصهاينة مكانهم.

  وآفي شلايم هو أحد المؤرخين الإسرائيليين فيما يُعرف بمجموعة (المؤرخين الجدد)، الذين قاموا بإعادة فحص ودراسة تاريخ الحركة الصهيونية ووضع ما قدمته من أطروحات تحت مجهر البحث العلمي الجاد، تلك الأطروحات التي دارت في معظمها حول التاريخ اليهودي ومدى صدق الرواية الصهيونية حوله وكذلك التاريخ الصهيوني وصولاً لاستيلاء الصهاينة على فلسطين وما ارتكبوه من مجازر بحق الفلسطينيين وقتها، ومن ثم اكتشفوا أن الصهيونية زيفت الحقائق بشكل جذري واخترعت تاريخاً مُلفقاً في محاولة لتسويغ أطروحاتها.

   لقد نسف هؤلاء المؤرخون كثيرً من المرويات التاريخية التي تأسس عليها الكيان الصهيوني، ومن ثم قدموا قراءة مغايرة تمامًا لما زعمته الحركة الصهيونية في هذا المضمار.

   وآفي شلايم، والمولود في بغداد لعائلة يهودية عام 1945م، يعيش الآن خارج إسرائيل، وهو بروفوسير في العلاقات الدولية بجامعة أكسوفورد البريطانية، ومن أهم مؤلفاته ” الجدار الحديدي: إسرائيل والعالم العربي”.

اقرأ للكاتب | محمد عمارة يكتب: الإعلام ونظرية المؤامرة

    ويوجه شلايم نقده بصفة مركزية للأساطير التي عمقتها الصهيونية في الوعي اليهودي بل والعالمي للترويج لأطروحاتها الأيديولوجية ذات الصبغة الاستعمارية.

وهو أحد الموقعين على بيان إدانة المذابح ضد الفلسطينيين في غزة في عدوان 2009م، وهو البيان الذي وقعه أكثر من 300 أكاديمي ونشرته الجارديان في يناير 2009م.

ويحدثنا شلام عن كمّ الخداع الذي تعرض له في الصغر بسبب البروباجندا الصهيونية، إذ كان مؤمناً بطهارة السلاح الإسرائيلي، وأن إسرائيل كانت هي الضحية طوال الوقت مقابل زيف الرواية الفلسطينية حول حقيقة ما جرى من جرائم واسعة النطاق، غير أن البحث العلمي الدقيق أكد له كذب كل هذه الادعاءات الصهيونية.

  وبعد اندلاع ثورات ما يسمى بالربيع العربي هاجم آفي شلايم الحكومات الإسرائيلية لأنها تحول دون قيام حكم ديمقراطي في المنطقة على عكس ما كان يروج له بن جوريون بأن إسرائيل جاءت لنشر قيم الديمقراطية في الشرق الأوسط.

   في أكتوبر من العام 2015م، كان رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو قد هاجم الحاج أمين الحسيني مفتي القدس الأسبق زاعمًا أنه من حرّض الزعيم النازى هتلر على إبادة اليهود، إذ قال نتنياهو: ” لقد أخبر هتلر الحسيني أنه يريد طرد كل اليهود من القارة الأوروبية، فأجابه الأخير: سينتقلون إلى فلسطين بل أحرقوهم “، وقد هاجمه يهود كثيرون مؤكدين أن كلامه لا يقوم على أي سند تاريخي، فالوثائق التاريخية تدحض ذلك الادعاء، كما أن المحرقة قد بدأت قبل هذا اللقاء بكثير.

  هنا تدخل آفي شلايم مدافعًا عن الحاج أمين الحسيني حيث قال: ” لم يكن الحسيني لديه أدنى تعاطف مع أيديولوجية ألمانيا النازية، وإنما جاء تحالفه معهم أثناء الحرب كتصرف براجماتي ولصالح شعبه، فالصهاينة كانوا العدو وألمانيا كانت عدوًا لليهود ، وهناك مقولة تذكر أن عدو عدوي هو صديقي”. 

   يؤكد شلايم أن ما ارتكبه الصهاينة بحق الفلسطينيين هو تطهير عرقي بكل المقاييس كما أن أكثر من 700 ألف فلسطيني وهو ما يعادل نصف السكان العرب أصبحوا لاجئين بسبب تلك الممارسات الإجرامية.

    لقد تم ذلك ضمن ما يعرف بالخطة (داليت) تلك الخطة الإجرامية التي وضعتها العصابات الصهيونية في فلسطين إبان أحداث عام 1948م، والتي بموجبها تم طرد الفلسطينيين من أرضهم عبر إعمال التدمير والقتل وارتكاب المذابح بحق هؤلاء الفلسطينيين لدفعهم للفرار من القرى تاركين منازلهم وأرضهم خلفهم ليتأسس واقع جديد يكون اليهود فيه هم واضعي أيديهم على الأرض ومن ثم يأتي المجتمع الدولي المنحاز دائمًا لإسرائيل ليعترف بهذا الواقع.

  كما أدان شلايم الهجوم الصهيوني المتكرر على غزة واعتبره هجوماً بربرياً، ورأى أن شارون كان يمثل النمط الإجرامي ذو النزعة الاستعمارية الاستيطانية الكامن في الفكر الصهيوني، فهو جنرال إسرائيل الدموي، وأن فلسطين كانت بمثابة (تعويض) إذ قدمتها أوروبا لليهود تكفيراً عن جريمة الهولوكوست.

يرى شلايم أن إسرائيل هي آخر كيان استعماري على وجه الأرض، بل وتحولت إلى دولة مارقة ومُهدِدة للسلم العالمي تحكمها عصابة مجرمة من فاقدي الإنسانية ومنزوعي الضمير.

اقرأ للكاتب | محمد عمارة يكتب: نفتالي بينيت واستراتيجية التمدد والانكماش

  كما أكد أن انتفاضة الشعب الفلسطيني عام 1987 هي حرب استقلال فلسطينية حقيقية للحصول على حق الشعب في  تقرير مصيره، ومن ثم إقامة دولة فلسطينية مستقلة، كما أن المقاومة الفلسطينية المتصاعدة جعلت إسرائيل تؤمن بأن القوة العسكرية لن تحسم الأمر، وأن الجيش يمكنه أن يهزم جيشًا، ولكنه لا يستطيع بأية حال أن يقهر شعبًا يطالب بحقه في إقرار مصيره.

  يذهب شلايم إلى أن إسرائيل تسير في الاتجاه الخاطئ وأنه يوماً ما سيدرك الإسرائيليون أن أمن دولتهم لن يتحقق عبر اللجوء للقوة المفرطة والممارسات المتوحشة بل بالسلام العادل، مؤكداً أن سياسات إسرائيل العدوانية هي ما منعت وأحبطت أي فرصة لتحقيق سلام حقيقي مع جيرانها العرب.

   يعترف شلايم أن لليهود تاريخ طويل من الألم والمعاناة عبر العصور، لكن الذي حدث في العام 1948م أنهم قاموا بدور الجلاد الذي تصرف بوحشية مفرطة ضد الفلسطينيين الأبرياء، فقد تبدل موقعهم من الضحية إلى المجرم.

   من هنا سجل شلايم إعجابه الشديد بمقولة إدوارد سعيد بأن:” الفلسطينيين هم ضحايا الضحايا”.

   أعلن شلايم تأييده للمبادرة العربية التي تنص على اعتراف عربي شامل بإسرائيل مقابل انسحابها من الأراضي العربية المحتلة في 1967، والسماح بإقامة دولة فلسطينية كاملة السيادة عاصمتها القدس.

   رفض آفي شلايم الانحياز البريطاني المطلق لإسرائيل وبرره بأنه بسبب دعم المحافظين البريطانيين للصهاينة، بل وطالب بمحاكمة السياسي الصهيوني بيني غانتس كمجرم حرب، فهو المسئول الأول عن العدوان على غزة عام 2014، وهو ما أدى إلى استشهاد أكثر من ألفين ومئتين وخمسين فلسطينياً، من بينهم أكثر من خمسمائة وخمسين طفلاً.

   كما وجه رسالة إلى الرئيس الأمريكي جو بايدن يطالبه فيها بضرورة تقييد الدعم الأميركي لإسرائيل لإجبارها على الانخراط في عملية سلام حقيقية، إذ أن الانحياز الأمريكي التام لإسرائيل، هو أحد أسباب فشل عملية السلام، فإسرائيل لا يمكنها الاستمرار في سياستها من دون وجود دولة عظمى تساندها بشكل مُطلق.

  يرى شلايم أن سياسة التهجير(الترانسفير) والإحلال(طرد الفلسطينيين وإحلال صهاينة مكانهم) التي يتبعها الكيان الصهيوني بشكل ممنهج ليست جديدة بل هي سياسة كامنة في الفكر الصهيوني منذ تيودور هرتسل، وها هو حاييم وايزمان، وقد اقترح فكرة ترحيل الفلسطينيين أكثر من مرة على الجانب البريطاني، وكان ديفيد بن جوريون، يرى أن فكرة الترحيل هي الطريقة المثلى لإنهاء الصراع، كذلك جولدا مئير التي كانت تري أنه من أجل إقامة دولة يهودية يتحتم الخلاص من الفلسطينيين ولا خيار آخر بل كانت تردد قولتها الكاذبة”لا وجود للشعب الفلسطيني”، كما بررت المجازر بحق الفلسطينيين بقولها :”العرب كانوا يجبرون الإسرائيليين على قتلهم”. 

   أشاد آفي شلايم باتفاقية أوسلو لكنه حمَّل الكيان الصهيوني مسؤولية فشلها بسبب سياسية التوسع التي تتبعها إسرائيل عبر قضم المزيد من الأراضي ومن ثم بناء مستوطنات جديدة عليها لخلق واقع على الأرض يصعب تغييره، ومن ثم فإسرائيل تعمد إلى قتل حل الدولتين عبر هذه الفعلة الشنعاء.

  وفي التحليل الأخير، فتلك هي أطروحات البروفسير آفي شلايم التي من شأنها دحض الرواية الصهيونية المكذوبة للصراع العربي الصهيوني، في مقابل تأكيد الرواية الفلسطينية التي تتطلب منا نحن العرب تعميقها في الوعي العام العالمي عبر عمل فكري وإعلامي شامل ومضاد للبروباجندا الصهيونية الكاذبة، فقد قصَّرنا في هذا الحقل كثيراً، إذ تبقى القضية الفلسطينية هي أعدل قضية في يد أفشل محامٍ بحسب قول آفي شلايم نفسه.

اقرأ ايضاً

الإعلام الديني: جدل الواقع والمثال

شكرا للتعليق على الموضوع