في ذكرى مذبحة الحرم الإبراهيمي
تقرير دكتور: محمد عمارة تقي الدين
” الخطأ الأكبر الذي ارتكبه الجيش الإسرائيلي أنه لم يهدم المسجد الأقصى عام 67م، ونحن مُهمتنا أن نُصحِّح هذا الخطأ” ، تلك مقولة الحاخام الصهيوني المتطرف مائير كاهانا، مؤسس منظمة كاخ الإرهابية، والأب الروحي للإرهابي باروخ جولدشتاين الذي ارتكب مذبحة الحرم الإبراهيمي في 25 فبراير من العام 1994م.
تلك المذبحة التي ارتكبها بالأصالة عن نفسه وبالنيابة عن جموع المستوطنين الصهاينة، الذين بذهبون في العنف إلى حده الأقصي، تأسيساً على قناعات دينية متجذرة لديهم.
إذ أطلق جولدشتاين النار على المُصلِّين في المسجد الإبراهيمي أثناء أدائهم صلاة الفجر، وقد استشهد في تلك المذبحة تسعة وعشرون فلسطيني وأصيب حوالي مئة وخمسين آخرين فانقض عليه المُصلّون وقتلوه، وعند تشييع جثث الشهداء استشهد عدد آخر عندما أطلقت قوات الاحتلال الرصاص عليهم، فبلغ مجموع الشهداء خمسين شهيداً.
لقد صرَّح إمام الحرم الإبراهيمي الشيخ عادل إدريس، الذي كان يؤم المصلين وقت المذبحة، أن سجوده عندما سمع أصوات الرصاص قد قلل من عدد الشهداء والجرحى، فكان يمكن أن يتزايد العدد بشكل كبير في حالة استمرار الوقوف، إذ أن المجرم جولدشتاين كان يخطط لقتل الجميع.
لقد تسببت تلك المجزرة وقتها في موجات واسعة من الاحتجاجات بكافة ربوع العالم الإسلامي، فمع بشاعتها جرى ارتكابها في شهر رمضان بل وأثناء الصلاة.
كما أن الحرم الإبراهيمي يكتسب قداسة خاصة لدى المسلمين، فهو أحد أهم الأماكن المقدسة لديهم، إذ يُعتقد أنه مدفون في تلك البقعة كل من النبي إبراهيم وإسحق ويعقوب وغيرهم من الأنبياء.
لقد وظف الكيان الصهيوني تلك المذبحة نحو مزيد من السيطرة على المدينة، ليخلق واقعاً جديداً على الأرض في إطار سياسة التهويد السرطانية التي يتبعها هذا الكيان الغاصب.
وقد ندد الزعيم الفلسطيني ياسر عرفات بشدة بتلك المذبحة مؤكداً، من واقع إدراكة لحقيقة الكيان الصهيوني، وقوف الجيش الصهيوني خلفها، إذ قال :” مجزرة الحرم الإبراهيمي ليست نتيجة لمبادرة شخصية للفاعل بل هي بمشاركة الجيش الإسرائيلي”.
والحقيقة المركزية هنا أن باروخ جولدشتاين ليس نشازاً عن التوجه العام داخل الكيان الصهيوني ولا يُغرِّد خارج السرب، بل هو نمط متكرر ومتواتر بشدة، فهناك مليون جولد شتاين داخل هذا الكيان الغاصب غير أنهم يتحيَّنون لحظة الانقضاض المواتية.
جولدشتاين وكما سبق القول هو ابن التيار الديني الصهيوني المتطرف، مثله مثل كثير من المستوطنين الصهاينة، فمثله الأعلى هو الحاخام الإرهابي مائير كاهانا مؤسس رابطة الدفاع اليهودية(كاخ) تلك المنظمة التي كانت، وكما يورده غازي السعدي، قد تورطت في كثير من العمليات الإجرامية ضد الفلسطينيين، إذ تؤمن بالعنف باعتباره الوسيلة الوحيدة والمُثلى لتحقيق أهدافها.
وشعار الحركة هو عبارة عن يد تمسك بالتوراة، ويد أخرى تمسك بالسيف، ومكتوب تحته كلمة”كاخ”، أي أنه هكذا وبهذا الطريق وحده(التوراة والسيف)، أي بالعنف المتأسس على قناعات دينية توراتية ستتحقق الأطماع في إقامة دولة إسرائيل الكبرى، والتي تمتد لديهم من النيل إلى الفرات، إذًا فشعار الحركة يعبر بشكل كبير عن أيديولوجيتها ومخزون العنف الكامن داخلها.
ويفصح برنامج الحركة عن مجمل فكرها إذ يرتكز على ثلاثة قناعات أساسية لديهم، وهي: حدود إسرائيل غير قابلة للمساومة بل يجب أن تكون من النيل إلى الفرات، ضرورة الإسراع بالخلاص من العرب من أرض إسرائيل التورتية( طرداً أو إبادة) وإحلال اليهود محلهم، القدس كاملة هي لليهود وحدهم ومن ثم يتحتم تدمير كل ما هو إسلامي بها.
وبين يدي الآن أحد مؤلفات مائير كاهانا، هو كتاب”شوكة في عيونكم”، والذي دعا فيه إلى ضرورة الترحيل العاجل والسريع للعرب من (أرض إسرائيل) لأنهم في نظره “قنبلة موقوتة” وسوف تنفجر في وجه الدولة اليهودية في أية لحظة.
كذلك فهو يؤكد على أن طرد العرب هو عمل مقدس وواجب ديني، فيقول:”إن فكرة إبعاد العرب من إسرائيل هي قناعة يهودية تتأسس على تعاليم التوراة.. إن طرد كل عربي هو واجب ديني”، ويقول أيضا:”بدلًا من أن نخشى ردود فعل الغرباء إذا فعلنا ذلك، يجب أن نرتعد خوفًا من غضب الله إذا لم نفعل ذلك ونطرد العرب”، وهي أفكار عنصرية موغلة في عنصريتها ولا تحتاج لشرح أو تعليق.
وعلى هذا الأساس، وانطلاقًا من تلك الرؤية يرى كاهانا أن دولة إسرائيل ليست مجرد كيان سياسي أو دولة مدنية بالمعنى المعروف، بل هي كيان ديني مقدس تحقق بمشيئة الرب وحده، لذلك لا توجد قوة في هذا العالم- وكما يدعى – تستطيع تدميرها أو منعها من التوسع و التمدد وصولاً لإسرائيل الكبرى، فالتاريخ في رأيه يسير وفقًا لخطة مرسومة ومحددة سلفًا ستتحقق في نهايتها تلك الدولة بحدودها التوراتية، إذ أن هذا التاريخ يندفع في اتجاه النبوءات التوراتية وحدها وسائر البشر تعيش على هامش أحداثه.
والجدير بالذكر أن هناك الكثير من الشخصيات القيادية داخل الكيان الصهيوني ممن كانوا في السابق أعضاء بتلك المنظمة الإرهابية، فقد أكد يوسي ديان أن أفجدور ليبرمان زعيم حزب إسرائيل بيتنا اليميني المتطرف، كان عضوًا في منظمة كاخ.
وكما قلنا في السابق، فقد لقي باروخ جولدشتاين تمجيداً كبيراً بعد ارتكابه تلك المذبحة، فها هو الحاخام إسحاق جينسبرج وهو الرجل ذائع الصيت بفضل أطروحاته العنصرية والمعادية للآخر بإطلاقه وللفلسطينيين على وجه الخصوص، وقد شارك في تأليف كتاب”الرجل المُقدَّس″, والذي صدر في عام 1995م تمجيدًا وتخليدًا لباروخ جولدشتاين, فقد كتب الحاخام جينسبرج أحد فصول هذا الكتاب, والذي يصف فيه مذبحة الحرم الإبراهيمي باعتبارها عملًا مقدسًا, وأن باروخ هو، وعلى حد قول الحاخام:”رجل صالح التزم بتعاليم دينه”.
وها هو الحاخام الأكبر الأسبق لإسرائيل شلومو جورين والذي طالب الجنود الصهاينة خلال حرب 67 ألا يرحموا رجالًا ونساءً وأطفالًا، فعليهم أن يقتلوا الجميع، نجده بعد مذبحة الحرم الإبراهيمي، وفي اليوم التالي للمذبحة وقد ألقى موعظة على أتباعه قال فيها، وهو في حالة ابتهاج، :”في المرة القادمة يتحتم الحصول على تصريح قبل القيام بالمذبحة”، وهو حديث يفضح الرؤية العنصرية التي يعتنقها هؤلاء المتطرفون الصهاينة تجاه الفلسطينيين، والغريب في الأمر أن الجمهور قد أُعجب بموعظة جورين وطالب أن تكون المذابح بيد الجيش الصهيوني وليس الأفراد.
وفي التحليل الأخير، فتلك هي مذبحة الحرم الإبراهيمي التي تكشف لنا عن حقيقة مركزية مفادها، أن الكيان الصهيوني هو كيان مُعبّأ بحمولة عالية من الإرهابيين حد الإنفجار، إلا من فئات قليلة مثل بعض أبناء التيار الحقوقي وحركة ناطوري كارتا الدينية المعادية للصهيونية والمؤيدة للحق العربي والتي دائما ما تشارك الفلسطينيين في إحياء ذكرى تلك المذبحة.
لك أن تعلم أن الإرهابي باروخ جولدشتين يجرى اعتباره بطلاً داخل الكيان الصهيوني، وتحديداً بين التيار الديني المتطرف، بل اعتبروه قديساً مباركاً، وأقاموا له مزاراً، ويحتفلون بذكرى وفاته كل عام.
لقد ارتكب جولدشتاين جريمته في هذا اليوم تحديداً لأنه يوافق عيد المساخر( البوريم) اليهودي، ومن ثم يتساءل الكاتب الإسرائيلي المُعتدل إسرائيل شاحاك: هل هي الصدفة وحدها أن يقوم باروخ جولدشتاين بارتكاب تلك المجزرة البشعة في عيد المساخر اليهودي؟
الحقيقة أن كل شيء يبدو مُرتباً ومُعداً بشكل مُسبق، فهذا العيد يرمز لديهم لانتصار اليهود على ما يزعمون أنه مخطط هامان، كبير الوزراء في الامبراطورية الفارسية القديمة، الذي كان يخطط لإبادة اليهود، فهو لديهم رمز للانتصار على الأغيار، والأغيار لديهم تعني غير اليهود وهم الذين يجرى اعتبارهم أعداء لليهود يتربصون بهم لإبادتهم ومن ثم يجب البدء في الخلاص منهم أولاً، والعرب لديهم هم أكثر الأغيار شراً، إنهم، وفقاً لقناعاتهم، أحفاد العماليق الذين دعت التوراة لإبادتهم.
ذلك الفكر في حقيقة الأمر هو نمط متكرر في العقلية الصهيونية وتحديداً الدينية منها، إنه العداء الأزلي والمزمن نحو الجميع، والحياة في يقينهم ما هي إلا قاتل ومقتول، فإن لم أكن أنا القاتل فأنا لا محالة مقتول ولا بديل آخر.
فبالعنف والقتل وحده، بحسب قناعتهم، يمكن إفراغ الأرض من أهلها ومن ثم إقامة مملكتهم التي يزعمون، تلك الرؤية التي يشاركهم بها اليمين العلماني الصهيوني، فها هو مناحيم بيجن يقول: ” لولا (مذبحة) دير ياسين وأخواتها لما قامت إسرائيل”. فارتكاب تلك المجازر على نطاق واسع هو ما قاد إلى فرار المدنيين من أرضهم ومن ثم توطين الصهاينة مكانهم، هكذا ووفق تلك الإستراتيجية الدموية تأسس هذا الكيان الصهيوني.
وأخيراً علينا أن نُجذِّر في الوجدان الصهيوني رسالة مفادها أن تلك الجرائم وأخواتها هي جرائم لا ولن تسقط بالتقادم، وذلك عبر العمل الدؤوب لأجل إحيائها بالكلمة والصورة في الوعي العالمي ليتفهم العالم حقيقة ما جرى ومازال يجري من أجل تعرية الوجه القبيح لهذا الكيان الصهيوني الغاصب ككائن دراكولي نهِم وكوحش تم تعميده بالدماء.
أهم مراجع الدراسة:
مائيير كاهـانا: شوكة في عيونكم، حيان نيوف: الأحزاب الدينية في إسرائيل العلمانية، إسرائيل شاحاك وميزفينسكي, الأصولية اليهودية في إسرائيل، عبد الوهاب المسيري: موسوعة اليهود واليهودية، هويدا عبد الحميد, الصهيونية الدينية, النشأة والاتجاهات الفكرية، غازي السعدي: الأحزاب والحكم في إسرائيل.
اقرأ ايضاً
آفي شلايم والتفكيك الذاتي للمشروع الصهيوني