الإغاثة الدولية.. بين التسيس والتحديات

تقرير: صبحه بغوره - الجزائر

تقرير: صبحة بغورة – الجزائر

تعد جهود الإغاثة الدولية من المظاهر الراقية للتضامن الإنساني في أسمى معانيه ، حيث يتجلى الانصهار البشري سواء في مواجهة أخطار الطبيعة أو تجاوزات الإنسان في أروع أشكال التعاون وأرقّ أحاسيس التعاطف والمؤازرة، وفي هذه البوتقة تذوب الفوارق بين الأمم والشعوب أمام خطر يهدد حياتها ،وتتأجل الخلافات بين الدول إلى حين رفع التحديات التي باتت تؤرق بقائها و تهدد وجودها ، ولذلك اكتسبت الإغاثة الدولية قيمتها الأدبية والأخلاقية من ذاتها الطيبة ومن أهدافها الخيرة ، وكانت بالتالي محل اهتمام دولي متزايد  ومتنامي ارتبط موضوعيا بحجم وطبيعة الأخطار الناتجة عن وقوع الكوارث الطبيعية والمصائب الإنسانية وآثارها المدمرة، فكان أن أصبح وجود هيئات دولية تعنى بضمان توفير جميع الإمكانيات لتجسيد التضافر الدولي الإنساني، وبتنظيم استعمال هذه الامكانيات بالحجم المناسب والكافي وفي الوقت المناسب أمرا ضروريا، ومن هذا المنطلق جاء تأسيس الوكالة الدولية للإغاثة عام 1949.

بالنظر إلى مجالات وقوع الأخطار العديدة والحالات الحرجة المختلفة التي تستدعي توفير وتوجيه جهود هذه الوكالة يمكننا أن نميز بين عدة حالات نستعرضها فيما يلي:

ــ الإغاثة الدولية بالمساعدات الإنسانية لضحايا الكوارث الطبيعية كالزلازل  والأعاصير والفيضانات والجفاف ، وهي كلها وقائع لا دخل لإرادة الإنسان فيها، ويصعب التوقع الدقيق بحدوثها، ونتيجة لذلك يرتفع عدد الضحايا بسبب الطابع الفجائي لها، وعليها تتميز جهود الإغاثة الدولية بأنها ذات طابع شمولي من جهة الدول المانحة للمساعدات، كما أنها لا تفرق بين الأجناس والشعوب المتلقية لهذه المساعدات، وتتميز أيضا بالطابع الفوري، أي أنها هبّة عالمية تلقائية بمجرد إعلان سلطات الدولة أن منطقة ما ” منكوبة” وهو عمل مدعوم بوفق دولي وغطاء شرعي على أرضية الواجب الإنساني، فهو عمل مرفوع عنه الحرج أو الضغط أو التوجيه السياسي.

ــ الكوارث الإنسانية الناتجة عن الخلافات السياسية كالحروب والصراعات الدموية والمجاعات وما يتبعها من عمليات نزوح فوضوية وقوافل الهجرة غير الشرعية، وهي أحداث لإرادة الإنسان دور كبير فيها، ويمكن تلمس مؤشرات وقوعها بل وترقب حدوثها بحكم أنه نتائج ستبد منطقية لأوضاع مأسوية تنذر مسبقا بوقوع الخطر، لذلك فهناك فسحة من الوقت لتقدير النتائج المتوقعة وسبل مواجهتها واحتواء آثارها ، وتحمل الكوارث الإنسانية انتهاكات صارخة لحقوق الإنسان فهي في حد ذاتها تحمل تهديدا جادا ومباشرا للحق في الحياة ، في حين أن الكوارث الطبيعية لا تحمل أي معنى من معاني اختراق أو انتهاك لحوق الإنسان، أمّا المساعدات الدولية في حالات الكوارث الإنسانية فينظر إليها من عدة زوايا ، وكل طرف سيعطي حكمه عليها من الزاوية التي ينظر منها إليها .

فجهود الإغاثة الدولية في الواقع اتجهت في الآونة الأخيرة إلى لاجئين توجهوا إلى دول أخرى هربا من ويلات الحروب والصراعات الدموية والانقلابات المسلحة ومثل هذه القضايا تبقى معلقة بدون حل حاسم  لفترات طويلة يدوم بعضها عشرات السنين، مما يثقل كاهل المنظمات الدولية التي أسست نشاطها على مواجهة أوضاع ظرفية  لا تحدث كل ساعة، وهذا يعطيها فسحة ثمينة من الوقت لاسترجاع قواها البشرية واستعادة قدراتها وتنميتها لتكون اكثر مقدرة على مواجهة حالات أخرى في العالم ، أما قضايا اللاجئين فهي مرتبطة بمشاكل سياسة يطول الجدل فيها حيث لا يبدو في الأفق القريب أمل في حلها ، وقد يكون من اللاجئين معارضون سياسيون، وحينها ستبدو المساعدات الإنسانية المقدمة لهم من أي دولة وكأنها دعم موجهه لصالحهم ضد سلطات بلادهم ، وهو موقف يسبب حرجا بل وقد يخلق شعورا عدائيا ، وهو موقف يمثل عامل قيد شديد على جهود الإغاثة الدولية التي تختلف عن العمل الخيري الموجه أساسا لمحو آثار التخلف من مظاهر الفقر والمرض والأمية والجهل وطبيعته لسمية ومحببة لكونه يساهم مباشرة في جهود التنمية ويسّرع وتيرتها، لكن الإغاثة الدولية تتجه إلى مواجهة آثار مخاطر تهدد حياة الشعوب بدون تمييز أو تفريق ،، أما قضية اللاجئين فهي محفوفة بالكثير من الحساسية ، ولعل من أبرز مظاهر هذه الحساسية هو ما تتعرض له بعض الفرق الإعلامية من صحفيي وسائل الإعلام  ومراسلي الوكالات  لأعمال عنف وحوادث قتل أثناء تأدية مهامهم الإعلامية كتغطية النزاعات المسلحة أو متابعة مجريات الاضطرابات السياسية، وحتى أن سلمنا بأن بعضهم قد وقع عن طريق الخطأ فإم معظم الضحايا من الإعلاميين تلوا اغتيالا من طرف الجهة الي يضرها أن تكشف التغطية الإعلامية حقيقة الأوضاع في منطقة النزاع بما قد يفضح بالدليل طبيعة الممارسات غير الإنسانية، أو الطابع العدواني لأحد الأطراف ، أما فرق التغطية الإعلامية لآثار الكوارث الطبيعية فنادرا ما حملت الأخبار تعرض أحدهم لمحاولة قتل لأن طبيعة عملهن إظهار حقائق الوضع من كل جوانبه في الميدان لاستثارة تعاطف الرأي العام واستنهاض الهمم والحث على الإسراع في تقديم المساعدات ، وبالتال يوضع الضمير العالمي أمام مسؤولياته .

يحدث أن يتسع النطاق الجغرافي لتداعيات الآثار المأسوية للكوارث الطبيعية أو الإنسانية  في بلد أو منطقة ما ، ويمتد إلى دول الجوار، فكثير ما تعرضت المناطق الحدودية لاضطرابات أمنية نتيجة هجرة  سكان هذه المناطق بصورة مفاجئة أو بشكل كبير ضحايا الكوارث ، أو فرارهم للنجاة بحياتهم من التطرف المسلح العنيف وهو ما سيضع دول الجوار أمام موقف طارئ يتطلب منها تعبئة إمكانيات بشرية ومادية إضافية لمواجهة مقتضيات وضع لم تكن طرفا فيه، ولم تكن مستعدة للتعامل معه بصفة فعّالة وبطريقة عاجلة ، وعلى كل حال فلكوارث الطبيعية يمكن أن تكون عاملا لإذابة الجليد في العلاقات بين الدولة المنكوبة وإحدى جاراتها ، ولكن في حالة الحروب مثلا سيكون الأمر مختلفا ، فعدم التوافق السياسي أو الخلاف المذهبي سيقف ذلك حائلا دون إظهار إحدى الدول أطراف الخلاف أي من مظهر من مظاهر التعاطف مع الدولة المنكوبة فيما أصابها ناهيك عن تقديم الدعم المادي أو المالي لها ، وقد عرفت بعض عمليات الإغاثة الدولية  في الكثير من الحالات مواقف حرجة جعلتها أمام جملة من الصعوبات الحقيقية المنطوية على مخاطر جادة تحمل تهديدا مباشرا لحياة أفراد قوافل الإغاثة خصوصا في المناطق المعلن عنها مناطق حرب أو منطقة تلوث إشعاعي أو وبائي ,,ولعل أصدق مثال على هذا هو ما تعرضت له قوافل المساعدات الدولية التي كانت موجهة لأهالي قطاع غزة أثناء الاعتداءات الاسرائيلية حيث استحال مرور هذه القوافل عبر البحر أو المعابر الحدودية البرية.

12

يحدث أن تتطلب الظروف تضافر جهود الإغاثة الدولية في طابعها مع الطابع العسكري في عمليات الإغاثة والحماية بنشر قوات أمنية وعسكرية في المناطق المنكوبة لفرض الأمن النظام ولمكافحة اللصوصية ومحاربة عمليات النهب والسلب، ولتأمين استقبال المساعدات الدولية الغذائية والعلاجية وضمان توزيعها على الضحايا، وهذا الشكل العسكري للإغاثة منظور إليه بعين الريبة من بعض الدول التي يمكن أن يبلغ توجيه الاتهام بالتدخل غير المحمود بالقوة تحت غطاء إنساني واعتباره احتلالا عسكريا.

لا تحمل مؤشرات مستقبل البشرية صورة وردية لما سيكون عليه وضع البيئة والمناخ وحياة الإنسان ، إذ تبرز تحديات جديدة تتطلب مضاعفة إمكانيات جهود الإغاثة وتطوير وسائلها ، وهذه التحديات تفرضها أزمة الاحتباس الحراري وتغير المناخ التي أضرت كثيرا بتوازن البيئة وحياة الإنسان، فالتحذيرات العالمية من خطر الانبعاثات المتزايدة من عوادم الغازات التي أدت إلى ارتفاع منسوب مياه البحر بمقدار 3.1 ملم سنويا منذ عام  1993 ونتراجع البحر القطبي بنسبة 2.7 كل عشر سنوات منذ عام 1978 وذوبان جليد جبال الألب كلها تؤكد أن هذه الظواهر قد انعكست في صورة قوى طبيعية مدمرة مثل الأعاصير الشديدة وحرائق الغابات وتقلب الظروف المناخية كالحرارة المرتفعة والجفاف في فصل الشتاء في وقت تحاصر الثلوج  بشكل غير متوقع بلدان أخري، كلها عوامل تشكل تحديا كبيرا للنشاط الزراعي ، وقد كان من تبعات التقلبات المناخية حدوث سيول وفيضانات طوفانيه وانجراف التربة أو انتشار التصحر وجفاف الأراضي الزراعية وشح المياه التي أنهكت الناس في العديد من الدول وأحدثت أوضاعا كارثية للبيئة وحياة مأسوية للإنسان ، ومعها تضاعفت جهود الإغاثة الدولية، هذا بالإضافة إلى اتساع بؤر التوتر السياسي والنزاعات المسلحة في العديد من دول العالم خلفت دمارا وانتشارا الفقر والمجاعة وزيادة تفشي مظاهر البؤس في حياة النازحين من مناطق الخطر.

لقد عكست صورة التضامن الدولي لنحو 101 دولة مع كارثة زلزال تركيا وسوريا مقدار ما وحّدت هذه الكارثة بين الدول والشعوب انطلاقا من الالتزام الأدبي والأخلاقي ، فما أقل من ألا تكون دولة ما سببا في زيادة تعاسة من أصابتها الكارثة، ويحدث أن تكون رب ضارة نافعة حيث تخلق مشاعر التضامن الإنساني البحت وجدان عميق بين الدولة المنكوبة  وإحدى خصومها من دول الجوار مثلا وهو ما لمسناه حاليا من إبداء اليونان رغبتها في طي صفحة الخلافات مع تركيا، لذلك يصعب حقا القول أن ثمة احتمالات لتسيس جهود الإغاثة  الدولية بمعنى الامتناع صراحة عن تقديمها لمنطقة ما تم إعلانها منكوبة ، كما لا يمكن تصور إمكانية تحجيم المساعدات الإنسانية لضحايا منطقة ما مقابل الإفراط في الكرم تجاه مواطني منطقة أخرى تعيش الظروف نفسها، كما قد تكون لطبيعة الظروف الأمنية في المنطقة المنكوبة دور في تعطيل أو تأخير وصول المساعدات كما هو واقع بالمناطق السورية التي لا تقع تحت سيطرة الحكومة، ولا شك أن طبيعة الممارسات السلبية لبعض الدول تكون في كثير من الحالات سببا مباشرا في حدوث الكوارث مثل إحجام الدول الصناعية الكبرى عن التجاوب مع مطالب تقليل الانبعاثات الغازية الضارة بالبيئة والمناخ، ومعظم هذه الممارسات كان يمكن تجنبها ووقاية الشعوب من آثارها الكارثية، والانصراف نحو فتح المجال أمام توجيه الجهود للتنمية والتقدم والازدهار وتسخيرها في محو مظاهر التخلف.

اقرأ ايضاً

الثقافـة الأمازيغية بيـن صفاء الماضي وتحدي الحاضر

شكرا للتعليق على الموضوع