مصطفى جودة يكتب: نيتانياهو «1ــ2»

أ.د: مصطفي جودة

رئيس الجامعة البريطانية بالقاهرة – سابقا.

من التقاليد والسنن السياسية الأمريكية، دعوة شخصيات سياسية عالمية لإلقاء خطاب أمام جلسة مشتركة لمجلسى الشيوخ والنواب الأمريكيين. حدث هذا أكثر من مئة مرة فى التاريخ الأمريكى، وكان الرئيس السادات واحدا من تلك الشخصيات العالمية التى تمت دعوتها لإلقاء خطاب بتاريخ 2 نوفمبر 1975. بالمقارنة ألقى كل من تشرشل ونيتانياهو ثلاثة خطابات أمام هذا الحضور ليكونا الوحيدين اللذين حظيا بهذا الشرف الرفيع من عدد المرات.

 ففى خطاب نيتانياهو الأول أمام الحضور المشترك للمجلسين بتاريخ 10 يوليو 1996، عقب فوزه التاريخى فى الانتخابات الإسرائيلية وهزيمته غير المتوقعة لإسحاق شامير الذى يمثل أحد الأيقونات المؤسسة لدولة إسرائيل مع بن جوريون ومناحم بيجن وجولدا مائير وإسحاق رابين وشيمون بيريز.

كانت هزيمة مدوية وغير متوقعة فى انتخابات عام 1996، ليصبح تاسع رئيس وزراء لإسرائيل وليكون أول رئيس وزراء مولود فى إسرائيل فقد ولد فى تل أبيب فى 21 أكتوبر 1949. ذهب بعد فوزه مباشرة الى الولايات المتحدة لتحتفى به أمريكا كواحد منها وكرمز لتأثير ثقافتها وتعليمها عليه. استقبله الحضور استقبال الأبطال الفاتحين إضافة الى إذاعة الخطاب على الهواء فى المحطات الأمريكية لتنصت إليه كل أمريكا، حكاما ومسئولين ومواطنين ربما لم يسمعوا به من قبل، ولتخضع له أفئدة كل وسائل الإعلام كأنه من المرسلين ولتطلق عليه اسم بيبى (بكسر الباء)، تدليعا لاسمه الأول بنيامين.

أصبح من فرط الإحساس بنفسه ومن فرض مكانته على الجميع ألا يسمح لمذيع أن يتطاول عليه بسؤال صعب أو محرج رغم حدوث ذلك مع كل الشخصيات، سواء كانت أمريكية أو أجنبية. بسببها أصبح وكأنه فرض ألا يتجرأ مذيع أن يقاطعه خلال الحديث، ويبتسم إذا ما قام بتأنيبه على الهواء أمام الملايين، لدرجة لم تعهدها أمريكا مع أحد من قبله ولا من بعده، فهى دائمة الفخر أنها حرة فى كل ما تفعل. لقد اصطنعته أمريكا لنفسها ليكون رمزا لإسرائيل الحديثة.

كان خطابا مهما أرسى فيه رؤياه وسياسته التي اتبعها بعد ذلك عبر سنوات توليه رئاسة الوزارة الإسرائيلية ثلاث مرات تم انتخابه خلالها وخلال مدة زمنية لم يحصل عليها أى رئيس وزراء من السابقين له وهي ستة عشر عاما فى ذلك المنصب.

 ألقى خطابه بوضوح تام ونال أثناء إلقائه وبعده كل الرضا من المجلسين وبقية الإدارة الأمريكية والشعب الأمريكى كله. ظل الأعضاء يصفقون له ويقفون عقب كل مقطع وينصتون له بانبهار وكأن على رءوسهم الطير. قال ضمن ما قال فيه إننى أدرك أن الشرف الرفيع الذى منحتمونى إياه لإلقاء ذلك الخطاب، ليس مجرد تكريم لى ولكنه تكريم للعلاقة الراسخة والخاصة بين بلدينا والتى تسمو فوق السياسة والأحزاب والحكومات والدبلوماسية. إنها علاقة بين شعبين يشاركان التزاما كاملا لروح الديمقراطية وإخلاصا لا نهاية له للحرية. نحن نشارك رؤياكم فى كيفية الحكم وكيف تتقدم الحضارة. كلانا يؤمن بالقيم العليا الأبدية، وكلانا يتبع سننا مقدسة عبر الزمن والتجارب. نحن نكن كل الإعجاب لأمريكا ليس لديناميكيتها وليس لغناها وثرواتها وليس لسلطانها ولكن لقوتها الأخلاقية.

 نحن كيهود وإسرائيليين نشعر بالفخر لأن تلك القوة الأخلاقية مستمدة من الكتاب المقدس ومستمدة أيضا من هدى الأخلاق التى منحها اليهود للعالم. أنتم الشعب الأمريكى الذى منح الدعم للدولة اليهودية فى نشأتها الأولى وأنتم الذين وقفوا الى جانبنا فى كل مرة كنا نتعرض فيها لقوى الطغيان والاستبداد.

من أجل هذا أقول شكرا أيها الشعب الأمريكى. كل فرد فى إسرائيل يريد السلام، وأنا أعتقد أنه لا يوجد شعب فى العالم كله متعطش للسلام وداع للسلام وراغب فى التضحية من أجل السلام مثل الشعب الإسرائيلى.

غير أنى لا بد أن أوضح أننا نريد سلاما دائما، وأننا نريد سلاما يحقق الأمن للجميع. نحن لا ننسى الكثير من رجالنا ونسائنا وأطفالنا الذين فقدوا أرواحهم نتيجة الهجمات الإرهابية خلال السنوات الثلاث الأخيرة والذين يفوق عددهم عدد من فقد خلال العقود السابقة. من أجل ذلك لا بد من أن نحارب جميعا الإرهاب بكل مانملك من قوى وحتى نتخلص منه ونجتثه من على وجه الأرض.السلام الذى نصبو إليه مبنى على ثلاثة أعمدة هى الأمن والتبادلية والديمقراطية وحقوق الإنسان.

 ركز كثيرا على تكرار ما سماه العمود الثانى للسلام الذى يعرضه وهى كلمة (Reciprocity)والتى ظل يرددها كثيرا بعدها لما لاقته من استحسان وإعجاب أثناء الخطاب وتصفيق شديد ووقوف من النواب عند سماعها وكأنهم يسمعونها لأول مرة.هذه الكلمة تترجم الى التبادلية باللغة العربية أو ردة الفعل. عرفها فى خطابه بأنها تعنى أن كل سطر فى كل اتفاقية لا بد أن يتحول الى عصب لها وأن الاتفاقية لا بد أن تكون ملزمة للطرفين وأنها هى الصمغ الدى يحفظ الاتفاقية. من فرط إحساسه بتأثيرها على أعضاء المجلسين المنبهرين ظل يستخدمها فى كل مقابلة إعلامية تليفزيونية أو إذاعية أو صحفية.

عندما استخدمها بضع مرات فى اجتماع للأمم المتحدة شارحا موقف إسرائيل وقائلا إنها أعطت ولم تستبق شيئا وأنها فى انتظار الريسبروسيتى العربية. انبرى له حينها أسد خارجية مصر السيد عمرو موسى ولقنه درسا موجعا قائلا: إن العرب أعطوا واستجابوا كثيرا وأن كل الضغوط مورست عليهم لدرجة أنه لم يعد بمقدورهم تحمل المزيد، وأنه يتعين على إسرائيل أن تبادلهم برد فعل مناسب، وأنهم هم الذين ينتظرون ردة الفعل الإسرائيلية. كان درسا قاسيا لنيتانياهو على الهواء أدى الى تقليله استخدام الكلمة بعدها.

gate.ahram

اقرأ للكاتب

مصطفى جودة يكتب: إلهامات جوائز نوبل 2023

شكرا للتعليق على الموضوع