مصطفى جودة يكتب: رمضان شهر الانتصارات

أ.د: مصطفي جودة

رئيس الجامعة البريطانية بالقاهرة – سابقا

خاض الجيش المصرى معركتين حاسمتين فى تاريخه الحافل بالانتصارات فى شهر رمضان. كانت معركة عين جالوت هى الأولى فى الخامس والعشرين من رمضان فى سنة 658 الهجرية الموافق 3 سبتمبر 1260 ميلادية. أما الثانية فكانت فى العاشر من رمضان، الموافق السادس من أكتوبر 1973، وهو ما يعنى أن عين جالوت سبقت حرب العاشر من رمضان بقرابة 713 سنة. فى عين جالوت هزمت مصر التتار وأوقفت زحفهم بعد تدميرهم بغداد، التى كانت حينها مهد الحضارة الإسلامية وتراكمها، فصالوا وجالوا خلال ديارها وقطعوا أوصالها وأنهوا استدامة المعرفة الإنسانية من خلال فعلهم ذلك وهو أخطر شىء فعلوه، ولو أنهم نجحوا فى عين جالوت لتمكنوا من قطع أوصال هذه الاستدامة على مدى الزمان كله.

لو أنهم نجحوا فى هزيمة مصر وتحطيم آثارها وثقافتها ومكتباتها مثلما فعلوا فى بغداد لما وجدت الأدلة على استمرارية الحضارة الإنسانية. منذ سنوات اشتركت فى حديث عن الاستدامة مع عالمين على هامش مؤتمر عن الطاقة المتجددة والمستدامة كنت أشارك فيه، فذكرت أن استدامة المعرفة الإنسانية لا تقل فى أهميتها عن استدامة الطاقة وأن العالم كله يدين لمصر بأنها كانت الحافظ لاستدامة المعارف وإنقاذ العالم من خطر التتار الداهم، وبالتالى إنقاذ الحضارة من الضياع وحماية التراث الإنسانى نتيجة هزيمتها للتتار فى عين جالوت وبالتالى فإن العالم كله يدين لمصر بذلك الفضل الكبير.

ضربت لهما مثالا على ذلك وهو أن كثيرا من الكتب العلمية المؤثرة فى تقدم البشرية تم تدميرها بواسطة التتار وأنها ضاعت إلى الأبد، ومثال ذلك كتاب الحساب الذى ألفه الخوارزمى والذى أسس من خلاله علم الحساب الذى تعرفه البشرية والذى نعرف عنه الآن من خلال ترجمته اللاتينية التى عرفت أوروبا الحساب منها، وعرفت مفهوم الصفر منها وهو المفهوم الذى بدونه ما حدثت نهضة الحاسبات التى نعرفها الآن وغيرها من وسائل التقدم التى يكاد ينسى فيها الدور العربى الأساسى. هذا الدين يجب أن تطالب به مصر كل العالم دائما وأن العالم سيظل مدينا لها به للأبد بهزيمة التتار.

عين جالوت لم تكن حربا محلية بكل المقاييس ولكنها كانت حربا عالمية تفوق فى نتائجها كلا من الحربين العالميتين الأولى والثانية والتى كانت ثمرتهما الأساسية إيقاف تقدم النازية العنصرية الألمانية، وذلك لأن الخطر النازى ليس أخطر من الخطر التتارى. أيضا كانت معركة العاشر من رمضان معركة عالمية حاسمة استطاعت مصر من خلالها تحجيم الجيش الإسرائيلى وكسر شوكته والذى أقنع العالم بأنه لن يهزم بعد حرب يونيو 1967. استطاعت مصر الوقوف أمام التدخل الأمريكى السافر وجسر الإمدادات العسكرية والاقتصادية غير المسبوقة فى تاريخ الحروب والتى جعلت من أمريكا طرفا أساسيا فى المواجهة مع مصر. كانت الطائرات العملاقة والسفن الحربية الأمريكية تمد إسرائيل بما لا قبل لجيش الوقوف أمامه ولتضمن كما صرح كيسنجر مرارا أن أمريكا لن تسمح بهزيمة إسرائيل هزيمة إستراتيجية وأنها تريد لها أن تتفاوض دائما من مركز قوة وليس من واقع هزيمة مؤكدة، ورغم ذلك انهزمت إسرائيل.

إنها الحرب التى فجرت أزمة الطاقة وأظهرت الاعتماد الغربى والعالمى للطاقة وأنه بين عشية وضحاها توقفت الآلة الغربية التى تعتمد على البترول وأصبح الغربيون يقفون فى طوابير لساعات ليمولوا سياراتهم وسط مشادات وخناقات حولتهم فجأة الى مسالك العالم الثالث كما كانوا يتعالون عليه من قبل. كان الانتصار المصرى انتصارا للعرب وتحقيقا لثرائهم الذى تحقق بعدها ونتيجتها، وبالتالى فإن العرب يدينون لمصر بالكثير فلولاها لظل العرب يبيعون بترولهم بدولارات معدودات ولولاها ما تحققت الطفرات الاقتصادية والتقدمية التى حققتها الدول المنتجة للبترول.

كلتا الحربين وقعت فى رمضان وهو الأمر المفسر للروح المعنوية العالية وبذل النفس والمال ابتغاء مرضاة الله وهى الأمور التى تكون فى قمتها فى رمضان، وهى الأمور التى تعين على تحقيق النصر والصمود أمام العدو. كان التتار قوة قاهرة مجرد ذكرهم يثير الرعب وكانت انتصاراتهم على أذربيجان وسوريا وبغداد وغيرها من الدول مدويا وكاسحا. تحملت مصر فى الحربين تكاليفهما الاقتصادية التى تفوق مواردها التى خصصتها بالكامل للحرب. قبل عين جالوت كانت بغداد المركز العالمى للحضارة والثقافة ولكنها فى نفس الوقت كانت مترفة جاهزة للانقضاض عليها. يصف ابن الأثير الحالة النفسية للمسلمين حينها بقوله فى الجزء العاشر من كتابه «الكامل فى التاريخ»، واصفا حال أهل أذربيجان التى اجتاحها التتار قبل اجتياحهم بغداد: «حينما ملك التتر مدينة مراغة من أذريبجان سمعت من أهلها أن رجلا من التتر دخل دربا فيه مائة رجل، فما زال يقتلهم واحدا واحدا حتى أفناهم، ولم يمد أحد يده إليه، ووضعت الذلة على الناس فلا يدفعون عن نفوسهم قليلا ولا كثيرا، نعوذ بالله من الخذلان الذى وصل أن يأمر التترى المسلم: ضع رأسك على الأرض ولا تبرح، فوضع رأسه على الأرض ومضى التترى فأحضر سيفا وقتله به». بالنسبة لحرب العاشر من رمضان، ربما تكون كلمات توفيق الحكيم فى مقال له بالأهرام بعنوان عبرنا الهزيمة عقب نشوب الحرب، أفضل تشخيص لتلك الحرب ودورها التاريخى والنفسى: عبرنا الهزيمة بعبورنا إلى سيناء ومهما تكن نتيجة المعارك فإن الأهم الوثبة ففيها المعنى أن مصر هى دائما مصر تحسبها الدنيا قد نامت ولكن روحها لا تنام، وإذا هجعت قليلا فإن لها هبة ولها زمجرة ثم قيام. وأضاف: لقد كان جو الهزيمة جو سجن واختناق والآن نحن نتنفس هواء الحرية والانطلاق وهذا هو المعنى الحقيقى للانتصار.

gate.ahram

اقرأ للكاتب

مصطفى جودة يكتب: بايدن والأمريكيون العرب

شكرا للتعليق على الموضوع