حين استباح الحبرُ الأرض “بلفور وحكاية شعبٍ أبدي”

محمود جودت محمود قبها
تقرير: محمود جودت محمود قبها

في الثاني من نوفمبر 1917م، حين أصدرت بريطانيا ما يُعرف بوعد بلفور، بدأت صفحة جديدة مظلمة في تاريخ فلسطين والمنطقة العربية بأكملها، في ذلك اليوم؛ وقع وزير الخارجية البريطاني آرثر بلفور رسالةً قصيرة إلى اللورد روتشيلد، أحد زعماء الجالية اليهودية في بريطانيا، تعهدت فيها الحكومة البريطانية بدعم “إقامة وطن قومي لليهود في فلسطين”، لم تكن هذه الكلمات مجرد بيان عابر؛ بل كانت نقطة انطلاق لمشروع استعماري منظم، هدفه تمزيق النسيج التاريخي والجغرافي لفلسطين وتحويلها إلى مركز لصراع طويل الأمد، خطّطت له قوى الاستعمار الأوروبي وتعاونت على تحقيقه، دون مراعاة لحقوق الفلسطينيين الأصلية في أرضهم وحقهم الطبيعي في تقرير مصيرهم، ففي لحظة تاريخية مشؤومة، أصدرت دولة استعمارية قرارًا بتسليم أرض لا تملكها إلى مجموعة سكانية لا تستحقها، لتظل كلمات وعد بلفور عالقة في الذاكرة الفلسطينية كرمز للظلم الذي جسده هذا الوعد منذ اللحظة الأولى.

وما يفاقم من المأساة أن هذا الوعد لم يأتِ كرد فعل على مطالبات شعبية أو سياسية من الفلسطينيين، بل جاء بضغط من الحركة الصهيونية، التي رأت في الاستعمار البريطاني شريكًا لتحقيق طموحاتها التوسعية، وتجاهلت بريطانيا تمامًا واقع الشعب الفلسطيني وهويته المتجذرة في أرضه، وكأن فلسطين كانت أرضًا فارغة أو بلا شعب، وشرعت بتوفير الغطاء السياسي والمالي والعسكري لدعم الهجرة اليهودية وتمكين هذا المشروع الاستيطاني من ترسيخ أقدامه، ومع مرور الوقت، تحول وعد بلفور إلى سياسة ممنهجة للهيمنة على فلسطين، وباتت كل خطوة تتخذها القوى الاستعمارية بمثابة طعنة جديدة في الجسد الفلسطيني، بدءًا من عمليات مصادرة الأراضي وتفريغ القرى، وصولًا إلى دعم إنشاء المؤسسات الصهيونية التي أسست لقواعد الاحتلال، فالوعد لم يكن كما يُقال، مجرد تصريح دبلوماسي؛ بل كان دعوة للسيطرة وشهادة ميلاد للمشروع الصهيوني الذي سيتطور لاحقًا ليصبح نواةً لقيام دولة الاحتلال الإسرائيلي، ويُسهم في تشريد الشعب الفلسطيني وزرع بذور نزاع لا تزال تبعاته مستمرة حتى يومنا هذا.

ومع مرور أكثر من قرن على هذا الوعد، يتجلى الإصرار الفلسطيني في مقاومة هذه المظالم وإبقاء الذاكرة الوطنية حية، رغم محاولات الاحتلال طمس الهوية الفلسطينية ومحاربة كل مظاهر الصمود، فمنذ النكبة عام 1948م، شهد الفلسطينيون أصعب فترات التشرد والتهجير، وعاشوا في مخيمات اللجوء والشتات، إلا أن هذا الواقع المرير لم ينل من عزيمتهم؛ بل زادهم إصرارًا على التمسك بحق العودة واستعادة أراضيهم، إن إرث وعد بلفور بالنسبة للفلسطينيين ليس مجرد تذكير بالتاريخ الاستعماري، بل هو شرارة دائمة توقد نار النضال وتدفع الأجيال المتعاقبة إلى رفض الذل والتمسك بحقوقها المشروعة، لقد تجسدت مأساة هذا الوعد في كل فلسطيني يولد في المخيمات، وفي كل فلسطيني يقاوم داخل وطنه وفي الشتات، وفي ذاكرة جماعية تربت على مقارعة الاستعمار ومواجهة محاولات التهجير، حيث أصبح هذا الوعد رمزًا لثورة شعب بأكمله ضد مخططات التصفية وتغيير الهوية.

وفي الوقت الذي تتجدد فيه ذكرى وعد بلفور، يتحتم على الفلسطينيين أن يحوّلوا هذه الذكرى من مجرد وقفة لنبش الألم إلى قوة محركة نحو المستقبل، والبحث عن سبل جديدة لتحقيق الحرية والعدالة، لقد أصبح من الضروري أن يكون استحضار هذا الوعد فرصة لإعادة صياغة رؤية وطنية شاملة تعزز من وحدة الشعب الفلسطيني وتحدد أهدافه بشكل واضح وصارم، وتواجه محاولات الاستسلام أو القبول بأمر واقع مفروض من الخارج، إن السنوات الطويلة من الكفاح، والتجارب التي مرّ بها الفلسطينيون، تفرض ضرورة تبني نهج جديد يستند إلى استراتيجيات حديثة، تتجاوز الشعارات، وتعتمد على التحرك الفعّال ضمن المنابر الدولية، وتوحيد الصف الوطني للتصدي للسياسات الإسرائيلية، وبهذا؛ يمكن أن تتحول ذكرى وعد بلفور إلى نقطة انطلاق لمشروع وطني يؤمن بقوة الإرادة الفلسطينية، ويرسخ روح التحدي بدلًا من البكاء على الأطلال.

إن وعد بلفور هو دعوة دائمة للتفكير في كيفية كسر قيود الاستعمار الحديث، وتحقيق أهداف الاستقلال الكامل، يتطلب ذلك توظيف التكنولوجيا الحديثة والإعلام، واستثمار القوة الناعمة لبناء تضامن دولي أكبر مع القضية الفلسطينية، وتحفيز الأجيال الجديدة في العالم على فهم عمق هذه المأساة، في الوقت ذاته، يجب أن يظل العمل الوطني الداخلي في المقدمة، من خلال تعزيز التعليم الثقافي، وحفظ الرواية الفلسطينية التاريخية، ومواجهة محاولات التهويد على المستويات كافة، فذكرى وعد بلفور ليست مجرد محطة عابرة في التاريخ؛ إنها ذكرى مرتبطة بالنضال من أجل البقاء، وسجل كفاح يعكس كرامة شعب لم ولن يتنازل عن حقه في وطنه، ليبقى وعد بلفور شاهدًا على ظلم تاريخي لن ينتهي إلا حين تعود الحقوق لأصحابها، ويتحقق الحلم الفلسطيني بالحرية والاستقلال.

باحث في درجة الدكتوراه في العلوم السياسية

اقرأ ايضاً

تضامن دول العالم مع فلسطين في ضوء حرب غزة

شكرا للتعليق على الموضوع