مصطفى جودة يكتب: أشهر الدعايات والشائعات «3 ــ 4»
أ.د: مصطفي جودة
رئيس الجامعة البريطانية بالقاهرة – سابقا
كانت الدعايات والشائعات البريطانية ضد مصر هى الأقسى والأخطر، وكلفت مصر سبعين عاما من الاحتلال البريطانى البغيض الذى استنفد ثرواتها نهبا وسرقة وقضى على إنجازات أسرة محمد على بالكامل من تعليم وصناعة وجيش من أقوى جيوش المنطقة وبحرية عالمية.
لم تكن حجة الخلافات بين الخديو والعرابيين كافية لتبرير العدوان البريطانى على مصر،
بالداخل البريطانى وعالميا فكان لابد من بث فتنة أخرى تنجم عنها فوضى عارمة تتبعها شائعات مضللة. كانت خطة محكمة تهدف الى إشعال فتيل بين سكان الاسكندرية المصريين وبين الأجانب قاطنى المدينة والذى يقدر عددهم حينها بعشرات الألوف مما يعطى بريطانيا الحق فى التدخل لحمايتهم وحفظ النظام والقانون على حد قولها، حتى ولو نتجت عن ذلك مذبحة كبيرة للطرفين. كانت العملية مرتبة ومخططا لها لتبدو طبيعية، كان الهدف من ورائها إحداث فوضى ثم تصير الفوضى شائعة كبيرة. الذى حدث أن رجلا مالطيا من سكان الإسكندرية الأجانب استأجر عربجيا (كانت تلك الوظيفة مثل الأوبر فى زمننا هذا)،
وكان ذلك الرجل من أتباع الحكومة البريطانية. استخدم الحمار طيلة اليوم ثم أعطى العربجى قرشا واحدا أجرا له، وعندما رفض صاحب الحمار وألح على المالطى، قام المالطى بطعنه بسكين فقتله، وتجمهر الناس من الأجانب والمصريين. كان الأجانب مسلحين ولا سلاح مع المصريين حيث كان القانون يمنع تسليحهم، وراح الأجانب يطلقون النار من الجمهور ومن نوافذ المنازل بالمنطقة ويهجمون على من وجدوه من المصريين، فقتل وجرح من جرح. وقتل يومها نحو 300 مواطن.
يقول الرافعى: «صفوة القول أن السياسة البريطانية هى المسئولة عن مذبحة الإسكندرية، وهى التى استغلتها وهولت فيها وجسمتها لتتذرع بها الى التدخل المسلح فى شئون البلاد». يشخص لنا الإمام محمد عبده الفوضى التى صنعتها بريطانيا فى الحادى عشر من يونيو 1882، أى قبل شهر واحد من ضرب الإسكندرية، فى كتابه تاريخ الأستاذ بقوله: «إن الحكومة الإنجليزية على عادتها فى اختلاق العلل قلبت وجوه المسائل واستدبرت طالع الحق، واستقبلت وجه مطمعها، واتخذت مجرد التغيير فى بعض نظامات الحكومة الخديوية سببا للمناوأة واندفعت لتسيير مراكبها الى مياه الإسكندرية تهديدا لحكومة الخديو وعدوانا عليه، ثم نفخ بعض رجالها فى أنوف بعض ضعفة العقول من الأجانب المقيمين بالثغر حتى أوقدوا فتنة هلك فيها المساكين، وأقامت منها حكومة إنجلترا حجة فى العدوان على الأراضى المصرية. ولو أن بصيرا نظر الى أحوال القطر المصرى بعين صحيحة من مرض الغرض لعلم أن بداءة الخلل فى ذلك القطر من يوم ورود المراكب الإنجليزية لثغر الإسكندرية».
بعد حدوث هذه المؤامرة، استخدمت بريطانيا ذلك الحادث فى إطلاق شائعة عن وجود فوضى واضطرابات مشرعنة بذلك التدخل فى مصر بدعوى حماية المصالح البريطانية وقناة السويس وحماية الأجانب. وأضافت فى زعمها أن مصر تعانى حالة فوضى واضطرابات واسعة النطاق وأن الحكومة المصرية عاجزة عن حفظ السلام، وصورت الحركة العرابية بقيادة أحمد عرابى بأنها تهدد الاستقرار الداخلى وأنها مصدر خطر. وتم استخدام هذا الادعاء كذريعة أخلاقية للتدخل العسكرى، حيث قدمت بريطانيا نفسها كقوة تسعى لحماية الأبرياء.
استخدمت الحكومة البريطانية تلك الشائعة لإقناع البرلمان البريطانى والرأى العام بضرورة التدخل لحماية المصالح الإستراتيجية. حقيقة الأمر أن الدافع الرئيسى لبريطانيا كان السيطرة على مصر كجزء من مشروعها الإمبراطورى وضمان التحكم فى قناة السويس لتحقيق مصالحها الاستراتيجية.
عكفت بعدها الحكومة البريطانية على استخدام الصحافة البريطانية والأوروبية لنشر الشائعة بطريقة مبالغ فيها حول الفوضى والاضطرابات فى مصر، كما أنها مارست ضغوطا على القوى الأوروبية الأخرى خصوصا فرنسا لإقناعها بضرورة التدخل وهو الأمر المهم الذى أعطى بعض الشرعية لبريطانيا لتحتل مصر.
فى 11 يوليو بدأت القوات البريطانية قصف مدينة الإسكندرية مدعية أنها تتدخل لوقف الفوضى. كان قصف الإسكندرية عنيفا ولم ترحم منه المناطق الأثرية والمنازل.
وقد ساعد فرار عرابى ومن معه فى المزيد من التدمير.
كان الاسطول البريطانى هو الأقوى فى العالم وكل أسلحته نتاج الثورة الصناعية الثانية. ظلت القوات البريطانية تمشط الإسكندرية لأيام فى انتظار وصول مزيد من القوات الخاصة والتى استخدمت لسحق الحركة العرابية والقبض على كثير من قادتها ومحاكمتهم.
صدر حكم بإعدام عرابى وتم تخفيفه الى نفيه الى جزيرة سيلان ( سيريلانكا حاليا).
لم تتوقف الشائعات البريطانية بعد الاحتلال خصوصا فى عهد كرومر، منها شائعة عدم قدرة المصريين على الحكم الذاتى وعدم قدرتهم على إدارة شئون بلادهم، وشائعة ضعف التعليم المصرى وعدم حاجة مصر للتعليم التكنولوجى، وشائعة أن بريطانيا تعمل على تنفيذ إصلاحات اقتصادية واجتماعية تهدف الى تحسين حياة المصريين، مثل تحسين نظام الرى وتطوير البنية التحتية، وشائعة الفتنة الطائفية بين عنصرى الأمة.
استخدمت بريطانيا كثيرا من الأدوات لنشر الشائعات منها الاعتماد على صحف تديرها جهات موالية لها مثل جريدة المقطم التى كانت تنشر شائعات لتضليل الرأى العام ونشر روايات تخدم أهداف الإحتلال.
كما كان المسئولون البريطانيون مثل اللورد كرومر، يستخدمون تقارير رسمية وأحاديث عامة لنشر شائعات بين الشعب والنخبة المثقفة.
لم يقف المصريون مكتوفى الأيدى أمام فيضان الشائعات تلك فكانت ثورة 1919، نموذجا ناجحا لتجاوز الشائعات الطائفية حيث شارك المصريون، مسلمين وأقباطا فى مقاومة الاحتلال البريطانى وكان شعار الثورة: «الدين لله والوطن للجميع»، كان هذا ردا حاسما على شائعات إثارة الفتنة، كما لعبت شخصيات قبطية مثل مكرم عبيد دورا بارزا فى تعزيز الوحدة الوطنية وتأكيد أن الاستقلال هدف مشترك.
gate.ahram
اقرأ للكاتب
مصطفى جودة يكتب: أشهر الدعايات والشائعات «2-4»