مصطفى جودة يكتب: أشهر الدعايات والشائعات «2-4»
أ.د: مصطفي جودة
رئيس الجامعة البريطانية بالقاهرة – سابقا
في الأسبوع الماضي بينا أن شائعة مقتل النبي عليه الصلاة والسلام يوم أحد كانت أخطر شائعة في تاريخ البشرية، وكانت تحديا رهيبا ودرسا عظيما في كيفية التعامل مع الشائعات والصمود وقت الأزمات، كما أنها ساهمت كثيرا في كشف المنافقين وأن النبي نجا من القتل وبقى الإسلام رغم شر تلك الشائعة التي كان بوسعها تغيير التاريخ الإنسانى.
لابد هنا من ذكر أن هناك قوانين للشائعة وأهمها أنها لا تخلق من عدم وأنه يسبقها دائما عملية تخطيط من المنافقين من الداخل والأعداء المتربصين من الخارج.
ورغم الوحي الذى كان يتنزل من السماء واليقظة التى كان يتبعها النبى عليه السلام ومن معه من الصحابة إلا أن الشائعات الكبرى لم تتوقف. كانت هناك شائعة حادثة الإفك في شهر شعبان من السنة السادسة الهجرية.
كان الهدف منها الإساءة الى سمعة النبى عليه الصلاة والسلام من خلال الطعن في أهل بيته. تعامل عليه الصلاة والسلام معها بحكمة وصبر حتى جاءت التبرئة للسيدة عائشة من السماء: «إن الذين جاءوا بالإفك عصبة منكم لا تحسبوه شرا لكم بل هو خير لكم لكل امرئ منهم ما اكتسب من الإثم» 11 النور.
كانت هناك شائعة أخرى عقب غزوة حنين في العاشر من شوال من العام الثامن الهجرى حيث أشاع المنافقون أن النبى يفضل قريش وأقرباءه في توزيع الغنائم كانت لإثارة غضب الأنصار وزعزعة وحدة الصف الإسلامى.
كانت حكمة النبى للقضاء على تلك الشائعة بأن خطب في الناس وأثنى على الأنصار وأشاد بفضلهم ودورهم في نصرة الإسلام، وهو الأمر الذى أثر في قلوبهم وأعاد الوحدة للصف الإسلامى.
ما تجدر ملاحظته أن الشائعات لم تنته أبدا في العالم الإسلامى في أى وقت حتى جاء القرن الثالث عشر والذى فيه ساد فيه المغول وظهرت شائعة الجيش الذى لا يقهر مما سبب حالة من الرعب في العالم كله لدرجة أن كثيرا من البلاد استسلمت لهم بدون قتال في أوروبا الشرقية وآسيا.
اتبع المغول خطة إستراتيجية تهدف الى نشر أخبار عن وحشيتهم وضراوتهم في المعارك وإبادتهم للمدن بأكملها مثلما حدث في سمرقند وبغداد والشام، وكانوا يتعمدون ترك بعض الناجين من ضحاياهم ليحكوا قصص الرعب التى عاشوها وكانت تلك الحكايات تنتشر كالنار في الهشيم وهو الأمر الذى أثر على الروح المعنوية لمقاومتهم. هذا ما حدث بالضبط قبل تدميرهم بغداد عام 1258، حيث استولى الخوف والذعر على المدينة مما أدى الى استسلام الخليفة العباسى المستعصم بدون مقاومة.
استمروا في إستراتيجيتهم والتى مكنتهم من اجتياح كل مدن الشام بعد سقوط بغداد بيسر وسهولة.
أرادوا بعدها احتلال مصر حيث أرسل هولاكو رسالة رعب للسلطان قطز يطلب فيها منه الاستسلام ويتوعده بالموت والهوان وأرسل إليه رسالة تاريخية يحملها أربعة من رسله مما جاء فيها: «بسم الله إله السماء الواجب حقه الذي ملكنا أرضه وسلطنا على خلقه، الذي يعلم به الملك المظفر الذى هو من جنس المماليك صاحب مصر وأعمالها وسائر أمرائها وجندها وكتابها وعمالها وباديها وحاضرها وأكابرها وأصاغرها إنا جند الله في أرضه خلقنا من سخطه وسلطنا على من حل به غيظه».
وجاء فيها أيضا: «عليكم بالهرب وعلينا بالطلب فأى أرض تؤويكم وأى بلاد تحميكم ولنا الماء والثرى وما لكم من سيوفنا خلاص ولا من أيدينا مناص» وجاء فيها أيضا: «أسرعوا برد الجواب قبل أن تضرم الحرب نارها وتورى شرارها فلا تجدون منا جاها ولا عزا ولا كتابا ولا حرزا وتدهون منا بأعظم داهية وتصبح بلادكم منكم خالية وعلى عروشها خاوية فقد أنصفناكم إذ أرسلنا إليكم ومننا برسلنا عليكم».
عندما وصلت الرسالة الى السلطان قطز، قام باستدعاء كبار المشايخ والعلماء والأمراء وقرأ عليهم الرسالة واستشارهم في الأمر فأبدى كثير منهم المخاوف وتجنبوا إصدار فتوى بالدعوة للجهاد ضد المغول وطالب بعضهم بتلبية ما جاء في رسالة هولاكو تجنبا للدمار الشامل وانتظارا أن يخرج من الأمة من يتصدى في المستقبل لهم ويهزمهم.
غير أن الإمام العز بن عبد السلام استهجن ذلك الأمر واعتبره خيانة للدين والأمة وقال قولته المشهورة: «إذا رأيتموني في المعركة وحياتي رخيصة أمام الله فقاتلوا معى فإن قتلتم أو قتلتم فنحن في سبيل الله» وأفتى بضرورة الجهاد على الجميع حتى لو اقتضى الأمر إنفاق أموال الأمة كلها وطالب الأمراء الأغنياء بالتبرع بأموالهم لدعم الجهاد وأصر أن تباع ممتلكاتهم أولا قبل فرض ضرائب على عامة الشعب. استجاب قطز للنصيحة وقام بقطع رؤوس رسل هولاكو وعلقها على باب زويلة وأرسل رسالة لهولاكو ردا على رسالته ودعا الى تعبئة عامة بين الناس والجيش. التقى الجيش المصري والجيش المغولي في عين جالوت في الثالث من سبتمبر 1260 في معركة من معارك التاريخ الحاسمة وانتصر الجيش المصري وقهر المغول ومعهم شائعة الجيش الذي لا يقهر.
ولو قدر الإله هزيمة مصر يومها وفعل ما فعله التتار في بغداد والشام لضاعت على البشرية استدامة المعرفة.
لو تمكنوا وفعلوا في مدن مصر مثلما فعلوه في بغداد ومدن الشام من تدمير لمكتباتها وآثارها وحضارتها لقطعوا أوصال التاريخ وحرموا الإنسانية من المعرفة.
من هنا فإن العالم كله يدين لمصر بالكثير لما فعلته في تلك الحرب وربما تكون شائعة أن جيش المغول أنه الجيش الذي لا يقهر هي ثاني أخطر شائعة في التاريخ كله بعد شائعة مقتل النبي عليه الصلاة والسلام في غزوة أحد.
gate.ahram
اقرأ للكاتب
مصطفى جودة يكتب: أشهر الدعايات والشائعات «1-4»