البشير التفنوتي يكتب : عندما يموت السلام

اهتزت الأرض وصعقت الكائنات وتوقفت الحياة وتوارت الشمس في حمرة الشفق حاملة في صمتها حلم الإنسان وارتداد القيم في هذا الزمن الرديء الأحمق المأفون… وقد تربّع الشيطان على عرشه بين الأبالسة ومريديه وتابعيه في كبرياء وغطرسة مقهقها يحتسي الخمرة المعتّقة في كؤوس ذهبية، يترشّفها على سيطرة الشرّ وهزيمة الخير وغربة الحق في دنيا ما عادت تحتكم للعقل في توازنه وانضباطه الحكيم، ولا للمنطق في معادلاته القيّمة لفرض تعادلية كريمة تحفظ الوجود البشري وما فيه ومن فيه، فيعيش الكل في كنف السلام عبر تعايش آمن مطمئن، يتطوّر في ديمومة البقاء المثمر المبارك في حياة سعيدة تمنح العالم الشقيّ الحبّ والأمن والوئام…

وفي أتون جحيم الحقد، وزوبعة المطامع وتلاطم أمواج الشهوات الرخيصة الجامحة في محيط مادي ماتت فيه القيم وجفّت في أعماقه العواطف النبيلة ـ فبدا مخيفا مزعجا ـ وغدا الكون رهيبا مرعبا يسكنه الغيلان والبوم والشيطان والغول والغربان فإذا هو لعنة تحرق مكوّنات الحياة الولود في خصبها وخصوبتها وجمالها وفتنتها وفتونها وسحرها، وإبداعاتها فنّها وعلمها فإذا مات السلام انهار كل شيء وذبل كل شيء ثم اختفى، فإذا الكون خرابا يبابا غير أننا يا بنيّ نبقى في عالم الذكريات، نجترّ الماضي بأفراحه وأتراحه والحاضر بآماله وطموحاته نسعى لإرادة الفعل متشوّقين للمستقبل الآتي في صراع مستميت للبناء والنشيد… لكن حزب الشيطان يدمّر ويخرّب، يفسد ويقوّض… وأخشى ما أخشاه أن ينطوي فجأة عالمنا هذا نتيجة ذلك الوضع المتردي في ظاهرة السباق المقيت المشين نحو التسلّح المجاني المجنون، وانتشار الأوبئة والأمراض والفقر والبؤس، وطغاة العالم ومترفوه فسّاقه وأبالسة الشرّ في سباق مذهل موبوء لمزيد صنع أسلحة الدمار الشامل بطريقة أو بأخرى من أجل امتلاك القوة المطلقة للقتل والتدمير والتخريب… وهم بذلك لو يعلمون يخرّبون بيوتهم بأيديهم وأيدي مؤيديهم!!

أفهل يدركون ما يفعلون؟؟!!… أم هي نشوة النفوذ والحكم والزعامة، وبريق السيادة وعطش السلطان؟! فيا ليت طغاة العالم يعون الدرس ويعودون الى الجادة ويعلمون أن الكون ما خُلق إلا للتعايش السلمي للمحبة والفرحة والسلام. فيسعون لخيره فيحققون الثروة وسعادة الحياة بالحق والأمن والسلام… فتسود المحبة ويعمّ الرخاء والرفاه لهم وللإنسانية قاطبة فلا نسمع أبواق النفير ولا نرى شبح الحرب مهددا مزمجرا. فيا ليت طغاة العالم يثوبون الى رشدهم فيجعلون كوكبنا جنّة يطيب فيها العيش لا أسياد ولا عبيد… كل يعمل للسلام، لأننا نعلم علم اليقين أن بقاء الكون وازدهاره بالسلام.. فإذا مات، مات الوجود بمن فيه وما فيه، وما انتشار تلك الأسلحة الفتّاكة وتكالب الدول الصناعية لنهب الشعوب النامية والدوس على وجودها وامتلاك أراضيها واغتصاب حقوقها وسيادتها وطمس هويتها، او إضعافها بشتى الطرق للانقضاض عليها… فكل هذه السلوكات والتجاوزات تقضّ مضجع السلام وتهدّد الوجود البشري بالفناء.. ورغم الأصوات المنادية بإلحاح والمؤتمرات الداعية الى الأخوّة والتسامح والتعاون ليسود السلام… ورغم كل ذلك نرى طغاة العالم غير مكترثين ساخرين يسعون جاهدين ليلا نهارا لتحقيق أطماعهم على حساب الشعوب مشرقا ومغربا كلفهم ذلك ما كلفهم.. ودار لقمان على حالها كما يقولون..

وهكذا يتربّع طغاة العالم بقوة الحديد والنار والترغيب والترهيب، والتنذير والتبشير… وبذلك يتحكّمون في العالم ومصائر الشعوب وسياسة الأنظمة شرقا وغربا والويل لمن يرفع رأسه، وتبقى الآلهة في عروشها تقدّم لها القرابين في تذلّل وخنوع لترضى… ومن هذا المنطق الغريب الظالم الفاسد يُمسي الكون في خطر ماحق. أفهل آن لطغاة العالم أن يدركوا أن عملهم هذا قد يدمّر الكون ويقضي على السلام وينسفه نسفا لأن الظلم وإن طال فمرتعه وخيم… فالشعوب المظلومة والمستضعفة قد تتحمّل الظلم والمهانة والعبودية حتى ليخيّل الى الطغاة أنها ماتت وبغتة تنبعث كالطوفان، كالإعصار، كالزلزال ولابدّ للمكبوت من فيضان.

وفي تلك الساعة تجرف الأوثان ونحطّم الآلهة وتلقي بهم جميعا في أودية النسيان وفي مزبلة التاريخ… والتاريخ يعيد نفسه، فأين فرعون وهامان.. وهولاكو وفاروق وغيرهم؟؟.. ذهبوا كامس الدابر واستعادت الشعوب المقهورة حريتها وسيادتها لتحيا كريمة تجاهد من أجل اللحاق بركب الحضارة والتقدم والرقي وما عثراتها ونكساتها الا تجارب لدعم وجودها في عالم لا مكان فيه للضعفاء والمتخلفين والمتواكلين.

أفهل يدرك طغاة العالم تلك الدروس والعبر أم ران على قلوبهم فهم لا يفقهون؟؟!! أم هي الأقدار تدفع بالكائنات الى حيث تريد، وتصنع مصيرها كيف شاءت وأنى شاءت؟؟ وتموت الأسئلة في الصدور صامتة صمت القبور.

تونس – الشروق

شكرا للتعليق على الموضوع