فؤاد الصباغ يكتب : نظام الإقتصاد العالمي ذو القطب الواحد…ثورات عميان البصر و البصيرة
علي الرغم من الإحتجاجات الشعبية التي تجتاح أوروبا مؤخرا تحت مسمي أصحاب السترات الصفراء و لربما ستتحول قريبا إلي حمراء أو زرقاء أو برتقالي وذلك تذمرا و سخطا علي الأوضاع الإجتماعية و المعيشية، إلا أنها تعد في مجملها ذات طابع تخريبي و تهريجي و لا نتائج حقيقة تذكر لها تمس من جوهر النظام السياسي العام للإتحاد الأوروبي أو لتغيير النظام الإقتصادي العالمي الحالي.
فهذا البركان الهائج من الطبقات الفقيرة و العمالية التي تطالب بمزيد من الدعم الحكومي و تخفيض الضرائب و المطالبة بالعدالة الإجتماعية يمثل موجات في مجمله حراك تلقائي شعبي ضد سياسة التحرر المالي و التجاري و ضد سياسة الإندماج في العولمة الإقتصادية العالمية. فتلك الثورات لأصحاب السترات الصفراء تعد بمثابة ثورات عميان البصر و البصيرة و قلة معرفة بأسس النظام الإقتصادي العالمي الحالي ذو القطب الواحد الذي تسيطر عليه السياسة الخارجية للولايات المتحدة الأمريكية. فالسياسات الإقتصادية اليوم تدار من خلف الستار و تحت سيطرة كاملة لبرامج و إملاءات و توجيهات مؤسسات البريتن وودز التي تشرف عليها قيادة التسيير الإقتصادي العالمي بصندوق النقد الدولي و بالبنك الدولي اللذان يتحكمان في أبسط الجزئيات منها إعادة تأهيل و إصلاح القطاع الخاص، كبح الزيادة في الأجور و الإنتدبات في الوظيفة العمومية، الدعوة دائما للتفريط في جميع المؤسسات العمومية للخواص و التسريع في الخصخصة و التحرر الكامل و وضع جدول زمني لإسترجاع أقساط القروض السابقة أو رسم سياسة الإستدالة المقيدة بقيود سياسية إقتصادية.
إن نظام سوق رؤوس الأموال هو المهيمن اليوم علي جميع قطاعات الإقتصاد العالمي و خاصة منها المبادلات التجارية العالمية و المضاربة في الأسواق المالية و الإستدالة من المؤسسات المالية العالمية.
إذا هذا النظام الإقتصادي العالمي ذو القطب الواحد يعتبر أساس المنظومة المالية العالمية الحالية التي يديرها القطاع الخاص بتسيير من قبل رجال المال و الأعمال التي تتمتع بنفوذ سياسي و إقتصادي رهيب.
كما أن الإصلاحات الهيكلية و سياسة التحرر و التأهيل الشامل التي إنطلقت منذ الثمانينات في أغلب الدول العربية لم تأتي من فراغ بل كانت لها أجندات إستراتيجية من أجل تفكيك جميع التوجهات المعادية للنظام الليبرالي الرأسمالي العالمي و فرض الأمر الواقع علي تلك الإقتصاديات الوطنية العربية الهشة.
فاليوم لا مجال لأي تغيير في طبيعة تلك الأنظمة الإقتصادية العربية التي تم إحتلالها فكريا و ثقافيا و سياسيا، فعلي سبيل المثال جميع جامعات علوم الإقتصاد بالدول العربية أصبحت تدرس فقط نظريات الإقتصاد الكلي الحر المنفتح علي الفضاء التجاري العالمي و خاصة منها نظريات عالم الإقتصاد كاينز و النظريات الكلاسيكية و النيوليبرالية.
إذ تم وضع مخطط تدريس بعيد الأمد تشرف عليه الإدارة الإقتصادية بصندوق النقد الدولي الليبرالي الرأسمالي تحت مسمي برامج إصلاحات التعليم الإبتدائي، الثانوي و العالي. فالمنظومة التعليمية بالدول العربية تتجه نحو الخصخصة تدريجا و نحو تغيير كامل لمناهج التدريس و البرامج العلمية حتي تواكب الإملاءات الغربية.
كما أصبحت جميع النظريات الإقتصادية المروج لها تؤسس لمبادئ السوق الحرة و التجارة الدولية و السياسة النقدية الليبرالية و غيرها من برامج التأهيل الشامل و التوجه نحو القطاع الخاص و الخصخصة الكاملة و التحرر المالي و التجاري الكلي.
أما نظريات الإقتصاد الماركسي و الإقتصاد العام الذي يرتكز بالأساس علي مبادئ الإشتراكية و الشيوعية تم حذفه من برامج التعليم بتعلة تلبية حاجيات سوق العمل و الإستجابة لرغبات القطاع الخاص.
فهنا أضحت الحركات الشيوعية و الإشتراكية مقبورة و لا تمثل أي دور فعال علي الصعيد العالمي بحيث جف أقلام حبرها و قل عرف صوتها.
أما تلك الثورات تحت مسمي الربيع العربي أسقطت جميع أقنعة الحكومات العربية المتأمركة و التي تنطوي تحت الأنظمة الليبرالية و اليمين الرأسمالي منذ سنوات طويلة.
بالتالي يمثل الإحتلال الإقتصادي لمعظم الدول العربية من قبل المؤسسات المالية العالمية قصد فرض سياسات التحرر الإقتصادي و التجاري و تعزيز الشراكة مع حلفائها الدائمين كالإتحاد الأوروبي و الولايات المتحدة الأمريكية في مجمله نذير خطر علي الأوضاع الإجتماعية الفقيرة التي تطالب دائما بالعدالة الإجتماعية.
إلا أنه في المقابل فرضت علي المنظومة الإقتصادية العربية إستراتيجيات تنموية ليبرالية و قيود مجحفة مثل القروض و سياسات الإصلاحات الهيكلية للقطاع الخاص لا يمكن الإنحراف عنها مهما كان البديل الحاكم.
فالسياسة الإقتصادية العالمية الحالية تشرف عليها كليا سياسات الولايات المتحدة الأمريكية و لعل أبرز دليل علي ذلك سيطرة صندوق النقد الدولي الليبرالي علي جميع الإقتصاديات العربية.
أما الديمقراطيات المُروج لها في الدول العربية فهي في جوهرها دكتاتوريات تسيرها فقط سياسات اليمين بحيث بعد إسقاط الأنظمة السابقة الموالية للنظام الإقتصادي الأمريكي كان البديل سياسات اليمين للأخوان المسلمين أو بالأحري الأخوان الأمريكان.
في المقابل أي طوفان شعبي مستقبلي تحت أي مسمي من المسميات سترات صفراء أو خضراء سيتم مواجهته بقبضة من حديد من قبل الإدارة الأمريكية التي تلعب دائما علي أوراق سياسات اليمين الإقتصادية الرأسمالية و لا مجال اليوم في عالم معولم يعتمد علي التحرر الإقتصادي الكامل لإنتصار الجبهات الشعبية الشيوعية أو غيرها من الحركات الإشتراكية لأن البديل سيكون حكم العسكر الموالي دائما لأمريكا و أوروبا.
إن النظام الإقتصادي الليبرالي الرأسمالي يعتبر ركيزة جميع الأنظمة العربية الحاكمة التي في مجملها متأمركة بأقصي درجاتها نحو سياسة اليمين الراضخ تحت بيت الطاعة الأوروبية و الأمريكية و التي تربطهم مصالح مبادلات تجارية بعدة الأمد و إستثمارات مالية ضخمة و سياسات إستشرافية و إستراتيجية لا يمكن الإنحراف عنها.
أما بخصوص النظام الإقتصادي الإشتراكي و الشيوعي الماركسي فهو مقبور و لا يمكن الرهان عليه لأنه فالس فكريا و ماديا و لا يتماشي مع واقع العولمة الإقتصادية الحالية و لو كان تحت تسيير و نفوذ جبهات شعبية أو إتحادات شغل. إذ هذه الجهات السياسية بالدول العربية غير مؤهلة إيديولوجيا للحكم لأن تلك الأنظمة الإقتصادية هي مندمجة بشكل كامل و شامل في النظام الإقتصادي العالمي ذو القطب الواحد.
كما أن سياسة الإدارة الأمريكية و أعضاء مجلس الشيوخ الأمريكي من ديمقراطيين و جمهوريين فهم دائما في تنسيق متبادل مع أصدقائهم المقربين في تلك الدول المحتلة ثقافيا، فكريا و إقتصادية. فلا توجد حاليا أي دولة من بين جميع الدول العربية من المشرق إلي المغرب دولة منحرفة عن المسار الإقتصادي الليبرالي الرأسمالي الموجه أوروبيا و أمريكيا. بالإضافة إلي ذلك تسعي جميع الدول الإستعمارية بفرض وصايتها الإستعمارية الإقتصادية و السياسية علي مستعمراتها السابقة في جميع الدول العربية و تبقي تلك الثورات الشعبية مجرد ثورات عميان البصر البصيرة.
فؤاد الصباغ : باحث اقتصادي دولي و كاتب تونسي