لا .. ليست إنساناً “قصة قصيرة”

 جميلةٌ تِلك مشاعرُ الحُبِّ بين العاشقين .. والأجملُ منها هو إطلاقُ سراحِها ، والتعبيرُ عنها ، فإن ظلت حبيسةُ الضُلوعِ .. كامنةٌ في مرقدِها .. أصبحت هى والعدمُ .. سواءً .

فغالباً .. ما يحتاجُ العاشقُ ، أى عاشقٌ ، رجلٌ كان أو إمراةُ ، أن تُشنِّفُ كلِماتِ الغرامِ أُذُنيهِ، يسمعُها من معشوقهِ .. يتخذُها جناحينِ .. يُحلقُ بهِما مُنتشياً .. مالكاً فضاء الكونِ .. بل الكون كله .. بمُحتواهِ ..

هكذا .. إعتقدَ العشقُ ، وهكذا .. يزدادُ الحُبُّ نماءاً ..

  عندما رآها لأولِ مرةٍ .. خفقَ قلبهُ بشدةٍ .. خالجهُ شعورٌ لم يزُرهُ مُنذُ زمنٍ بعيدٍ .. ذلك الشعور الذى حاول مراراً وتكراراً أن يقتحِمهُ ، أن يهدِم تلك الأسواروالحصون التي عاش سنيناً يبنيها بعد حُبهِ الأخير .. وكانت محاولات .. جميعُها باء بالفشلِ .. فدائِماً ماكان ينجحُ في ألا يسلِمُ قلبهُ لإحداهُن .

  حاول جاهداً أن يسيطرعلى مشاعِرهُ ويتظاهر بالقوةِ كما إعتاد دوماً ، حاول أن يقتل ذلك الشعور في مهدهِ قبل أن يحدُث ما لا يُحمد عُقباهُ ، وكان لديِه في ذلك من الأسبابِ.. الكثير ، فالتجربةِ الأخيرة تركت بداخلهِ جُرحاً .. مازال يعاني من أثارهِ .. فهو عندما يُحِب .. يُحِب صادقاً .. يتفانى في عشقهِ وإخلاصِه .. لا يرى سوى من أحبها في الكون .. بل هي الكون ومحورهِ ، وعلى قدر حُبهِ وعشقهِ .. تكون الألام والمعاناة عند الفراق ..  إذن .. لابُد أن يقاوم .. لا .. لا لن يستسلِم .. هكذا قرر في بادِئ الأمر .. ولكن ..

  رآها ثانيةً ، وثالثةً .. وتعددت اللقاءات بينهما .. ومازال ذلك الشعور يضرِبُ عنيفاً بمطرقتِه على جُدرانِ قلبَهُ ، متحدياً إياه ، مُصراً على إقتحِامه .. على إحتلالهِ .. على إستسلامه .

 آآآه .. إلى أى مدى سيصمُد ،وكيف السبيلُ إلى ذلك ، فكلما رآها وتحدث معها .. زاد تعلقهُ بها .. إذن .. لن يراها بعد الآن ، لن يتحدث إليها ، الهروب من لقاءِها.. هو الحل الوحيد .. فليهرُب بعيداً .. بعيداً .. إلى حيثُ لااااشئ ..

ولكن .. أين يقع ذلك  .. ال ” بعيداً “ ، وفي أى عالم يكون .. ال ” لاشئ ”  ..

يستطيعُ أن يغادر المكان .. أى مكان تتواجدُ فيه .. ولكن كيف السبيلُ إلى مغادرةِ الزمان ؟!

  هكذا أمضى أوقاتاً عصيبه .. صراعاً .. مابين ذاك الزائر الجديد والذي يحمل كل مقومات الإجتياح لقلبهِ بشدةٍ .. وبين خوفهِ من تكرار مافات  .

  في حقيقةِ الأمرِ .. لم تكن مقاومتهُ ، مقاومه حقيقيه بالمعنى المفهوم ، فهو في أعماقهِ كان في حاجةٍ إلى حُبٍ يحتويه حناناً ، يملأ دُنياه ، يعوضهُ عما فاته في سنواتِ عُمرهِ الماضيه ..

   لِذا .. إنتهت مقاومتهُ .. للاشئ .. خارتْ قواهُ .. تهدمت الحصونُ والأسوارُ .. إسْتسْلمَ .. سلْم مفاتيح مدينتهِ للحاكم الجديد راضياً .. راغباً .. متشوقاً .. حالماً .. أطلق لقلبهِ العنان ليعشقِ كما يشاءُ .. أحبها بصدقٍ .. ذابَ عِشقاً في هواها .. بات أسيرها .. لم يضع وقتاً ..صارحها بحبهِ .. صارحتهُ .. بإنها تقاسمهُ مشاعرهُ .. تواعدا .. تعاهدا .. إتفقا على ألا يفترقا أبداً ..

   أخيراً .. جادت عليهِ السماء بما إنتظرهُ كثيراً ، وعاش عُمرهِ كله لأجلهِ .. نظرت إليهِ السماءُ بعينِ العطفِ .. وأرسلت لهُ .. هديتِها .. هكذا إعتقد ، أو .. هكذا .. خُيّل له .

  بدأت قِصتهُ تلك منذُ أربعة سنوات .. تذكرها الآن .. عِندما أمسَك بقلمهِ ، كعادتهِ ، في أن يلْجأ لتسجيل ما يختلجُ بصدرهِ ، وما يجول بخاطرهِ … رضاً كان أو غضباً ، سعيداً كان أو تعيساً .. ولكن هذه المرة .. بدا متردداً ..

    لماذا يتذكر الآن ما جاهد كثيراً كىّ ينساه ؟ ..لماذا أمسك بقلمِه ليخُط ْكلماتٍ، كان يعلمُ تماماً إنها لن تُقدِّم أو تُؤخِّر ولاطائِل منها سوى إستعادة ذكرى مضتْ ، ذكرى .. لايتمنى أن تتكرر أو يحياها مرة أخرى .. هل مازالت تلك الأيام حيَّه بداخلِه دون أن يدري ؟ وكل محاولاتِه الماضيه لوأدِها قد باءت بالفشل ؟ هل مازال .. يُحِبُها ، ولكِنهُ يكابر؟! ..أم إنه يحاول إفراغ كأس تلك الذكرى من الثُمالةِ الباقيةِ ؟

 لم يشغلْ بالُهُ كثيراً بالسببِ .. إعتدل في جلستهِ وقرر أن يبدأ جولتهُ الأخيرة مع تلك الذكرى .. وهو يعلمُ إن كلماتِه هذه لن تصِلها ، وأن وصلتْها فلن تقرأها ، وإن قرأتها فلن تعيها أو تفهمُها … وإن حدث كل ذلك .. فلن تُقدر ماتحمِلُه من معاني ..

  عاد بذاكرتهِ ثانيةً لتِلْك الأيام ، تذكر محاولاته لإستفزاز مشاعرها .. كىّ يسمعُ منها مايُرضي غرورهُ كعاشقٍ .. كانت تلتزمُ الصمتْ أغلب الأحيان ، يُلفِت نظرها ، يعاتِبهُا بلطفٍ .. حارَ في أمرِها .. ألم تُقر له بحُبِها .. أين مايزيدُ الحُبِ بهاءاً ؟ أين حرارة مشاعِرها ؟! .. أغابَ عنها إن الحُبَّ كما الزرعة .. ينمو ويزدهِرُ كلما سُقيَّ ؟! .. في البدءِ إعتقد إنه حياء الأُنثى العاشقةُ .. ذلك الحياءُ والخجلُ اللذين تزدانُ بهِما أيةّ إمرأةُ .. ولكن زاد الأمرُ عن حدهِ المألوف ، وذهبت محاولاته أدراج الرياح ، وأصبحت مشكله تؤرقه ، و… أصابهُ المللُ .

   ولم تلبثْ أن تهاوت الأقنِعةُ .. سقطتْ ورقةُ التُوتِ .. غادرُها قِناعُ الملائكية .. إكْتشفَ خيانتها .. كَذِبها .. خداعها .. في البدايةِ أبى عقلهُ أن يصدِّق .. أوهم نفسهُ بغيرِ الواقِعِ .. لا .. لا .. أملاكاً يكْذِبُ؟! لا .. مستحيل .. ولكن .. تَتالتْ المواقفُ.. ومعها الأكاذِيبُ .. !!

     يااااإلهي .. هاهى .. هديتُك يا سماء .. تخون .. تتهادى خداعاً .. تتمايلُ كذبا .. تتخِذُ من الكذبِ شهيقاً .. تخرِجُهُ زفيراً .. يا الله .. أيْ عقلٌ يستَّوعِبُ هذا .. أكان مخدوعاً طوالَ تلك السنوات ؟! .. كيف إستباحتُ خِداعهُ ؟ لماذا أوهمتُهُ بالعشقِ وهي عن العشقِ .. بعيدة ..؟؟؟ أين ضميرُها ؟؟؟

 لا .. ليستْ إنساناً .. فالإنسان .. يتميَّزُ عن باقي الكائنات .. “بالمشاعِر” و “الضمير” .. أما هيَّ .. فقد غابتْ عنها الأولى ..ّ والثاني .. لم يولدُ أصلاً معها ..

  فأضحت ” كائنأً ” .. يتنفسُ .. حيٌ .. موجودٌ .. ولكن لاينتمي إلى .. القبيلة الإنسانية .. ” كائن ” .. من الصعبِ توصيفهُ او .. تصنيفهُ .

كيف ..؟ لِما .. ؟ مُنذ متى .. ؟ علاماتُ إستفهامِ .. أعياهُ البحثُ عن إجاباتٍ لها ..

أكانت سنواتُ عمرهُ .. ماضيةُ ….. تسوقهُ لِهوًى غاب عنهُ الضمير ؟

أكانت تصاريفُ قدرهُ.. قاضيةُ ….. بأن يمضي قدُماً إلى هذا المصير ؟

إنسحب في هدوءٍ .. آثر الصمتُ .. لم يلوم أو يُعاتب .. إبتعدَ .. تاركاً إياها .. لإياها .. محتضناً ماتلقاهُ من طعناتٍ .. يئن ألمُهُ .. ألماً ..

  عرف أخيراً .. أين يقع ذلك ال ” بعيداً “ ، وفي أى عالم يكون .. ال ” لاشئ “ ..

  لم يُخالِجهُ شُعورٌ بالندمِ على حُبٍّ أضاع فيه سنواتٍ .. لا .. ذلك الحُبُّ جعلهُ يكتشِفُ بأنهُ مازال يملٍكُ قلباً ينبضُ .. ومشاعِر تفيضُ .. وضميرٌ .. بمثابةِ ” البوصلة ” لهُما …

مضتْ أيامٌ .. شهورٌ .. نَسْى أو .. تناسَى .. تجاوز هولُ صدمتهِ .. تحدثهُ نفسهُ بالتسامُحِ .. بالغفرانِ .. إنه من  صفاءِ وسُموّ السريرةِ .. ومن شيمِ السماءِ ..

لا .. لا .. كفى يا .. ” أنا ” .. سئمتُ خضوعِك لحُبٍ .. إنتحرتُ مشاعرَهُ .. وأُغتيلَ فيه الضميرُ .. فلتذْهبْ نزغاتُك إلى الجحيمِ .. ولتغفِرُ السماءُ لمن تشاءُ .. وقتما تشاءُ .. كيفما تشاء .. أمّا هوَّ .. فكيف يغفِرُ .. كيف ؟؟!!!!

ألْقى بقلمهِ أمامهِ .. مزق ورقَهُ .. رجع إلى الخلفِ .. عاقداً زراعيه خلف رأسهِ .. نظر ملياًّ إلى .. لاشئ

” أبداً .. لن يكتُب شيئاً .. لن يُخلِّدها في كتاباتهِ .. فهيّ لا تستحقُ أن ينزِف قلمهُ مداداً .. مسجلاً عنها .. حرفاً “

” قصه قصيره ”  لـــــ .. محمدعلي النقلي

محمد على النقلى

 اقرأ للكاتب

محمد النقلى يكتب : اصطباحة ” مصر التي … “

شكرا للتعليق على الموضوع