نانسى فتوح تكتب : أطباء يعانون .. ومرضى يتألمون ..
ست سنوات يقضيها أطباء المستقبل في الاجتهاد والمثابرة أثناء دراستهم في كلية الطب للتطلع إلى مستقبل أفضل لهم وليخدموا أبناء وطنهم بكل ما أوتوا من علم، ليبدأ بعدها رحلة المعاناه العملية الحقيقة في سنة الامتياز التي يتدرب فيها الطبيب بالمستشفى ويحتك فيها بالمرضى.
وتنتهي سنة الامتياز ليدخل في دوامة العمل كطبيب تكليف في وزارة الصحة، وهي أسوأ مرحلة يعيشها الطبيب، فيصطدم بدايةً بعشوائية التوزيع الجغرافي والغير منطقي، فيوزع البعض في المناطق النائية الحدودية بدون حوافز إضافية أو بدلات سكن أو انتقالات حقيقية، ويوزع البعض الآخر في مناطق لا تصلها حتى وسيلة مواصلات آدمية، ليكون مسئؤولاً عن فحص المرضى وتحويل الحالات اللازمة إلى المستشفيات المركزية، أو أن يصرف للمريض الدواء الضعيف المفعول (هذا إن وجد) .
يكون الطبيب على أعتاب طريق التخصص .. فيتم توزيعه علي حسب مجموع درجاته بكلية الطب على المستشفيات ليحصل علي مقعد الاختصاص، ويبدأ تدريبه للاختصاص في أحد فروع الطب، فيسعى للتسجيل بإحدى الجامعات للحصول على الماجستير إلا أنه يجد الجامعات تطلب منه شروطاً قاسية للقبول بها، مع ارتفاع رسوم الدراسات العليا للدكتوراة إلى 30 ألف جنيه سنوياً والماجستير إلى 24 ألف جنيه سنوياً، في نفس الوقت الذي يحصل على راتب لا يتعدي الـ 1200 جنيه شهرياً على أقصى تقدير، ومع ذلك يتلقى الطبيب الحد الأدنى من التدريب وذلك بسبب فقرالمستشفيات التعليمية في الامكانيات والأجهزة وانشغال الاستشاريين وكبار الأطباء في عياداتهم الخاصة ..
وعلى جانب آخر تقع اعتداءات شبه يومية من أهالي المرضى أو البلطجية على المستشفيات وعلى الأطباء والطاقم الطبي، ونجد تراخي الأمن وعدم القيام بعملهم بحماية الأطباء في المستشفيات.
ويصبح الطبيب هو المتلقى الأول للإهانة — بسبب غياب قانون يغلظ عقوبة الاعتداء علي المستشفيات، وبسبب غياب الأمن المتعمد، وبسبب قلة الامكانيات في المستشفيات، مما يستفز المرضى ويحفزهم للاعتداء علي الطاقم الطبي — بدون أن يكون له أدنى ذنب إلا وجوده في هذه المنظومة الفاسدة قصراً وليس طوعاً.
وعلى الرغم أنه من المفترض أن تكون الجهة الداعمة والمدافعة عن حقوق الأطباء هي النقابة العامة للأطباء، ولكنها لا تهتم بمصالح عموم الأطباء، قدر ما تهتم بالمصالح الاقتصادية لكبار المستثمرين المسيطرين على كبرى المستشفيات والمنشآت الخاصة التي تعمل في مجال الصحة من عرق الكادحين من الأطباء.
و نجد أيضاً أن وزارة الصحة بعيدة كل البعد عن الاهتمام بمشاكل ومعاناة تلك الأطباء وبعيدة عن النظر إلى العقبات التي تواجههم، فنجد أن الصحة لا تلقى أي اهتمام من الدولة، فسياسات الدولة التي تشجع خصخصة الصحة وانسحاب دورها من توفير العلاج المجاني لعموم الجماهير لتتحول الصحة إلى سلعة لا يحصل عليها إلا أصحاب القوة الشرائية القوية، أما أصحاب المرض والفقر فلا عزاء لهم إلا خرابات وزارة الصحة.
إلى جانب غياب السرير في العناية المركزة وهو العذر الدائم والمتواصل والمؤلم الذي له انعكاس وصدمة للأغلبية.. إلى جانب ضعف الإمكانيات الفنية وبعض العاملين من أطباء وفريق عمل فني وأجهزة.
ولكني أتساءل .. هل جزاء هؤلاء الأطباء الذين قضوا سنوات عمرهم كادحين في سنواتهم الدراسية وفي عملهم بأنهم يلاقوا الذل والمهانة والاعتداء عليهم وحتى عدم توفر الإمكانيات اللازمة للقيام بعملهم وعلاج هؤلاء المرضى الذين ليس لهم في اليد حيلة سوى إما الإستسلام إلى المرض نظراً لعدم توفر العلاج المجاني لهم، أو الانتظار على كراسي الاستقبال بالساعات منتظرين أدوارهم للدخول إلى الطبيب الذي يفتقر توفر الاجهزة والامكانيات اللازمة لعلاج هؤلاء المرضى؟
هل من متابعة ورقابة وزيارة وتواصل من قبل المسؤولين وعلى رأسهم معالي الوزير المكلف، بأن يقوم بزيارة سرية وسريعة لهذه المستشفيات، ومن الأبواب الخلفية حتى يعرف الكثير عن أحوال تلك المستشفيات؟
حتى التأمين الصحي يعد مطلباً أساسياً، ولكن نجد أن ما تقوم به شركات التأمين الطبية على موظفي القطاعات الخاصة أو الأفراد يتمثل في استقبال دون اهتمام ومعالجة، وقلة من المرضى يتواصل علاجه ومراجعته ، فقليل من هو مستفيد من التأمين علاجياً وطبياً.
إلا أن وسط هذه الصورة القاتمة شديدة السواد يعبر إلينا طيف من الضوء والأمل .. فنجد أن هناك الحلول التي يمكن اتباعها للنهوض بالصحة في مصر، تكمن أولها في تكوين نقابة حقيقية مستقلة يبنيها الأطباء بعرقهم وجهدهم وأحلامهم في أجر عادل وفي ميزانة صحة تليق بأهالينا من المرضى، وفي تأمين حقيقي للمستشفيات وحماية للعاملين بها .. نقابة مستقلة في كل مستشفي وكل إدارة طبية تكون ممثلة قاعدياً بالشكل الحقيقي للديموقراطية، والتنسيق والربط بين هذة النقابات المستقلة لانتزاع حقوق جميع أعضاءها.
وعلينا أن نؤمن أنه رغم طول وصعوبة هذا الطريق، إلا أن عند الوصول إلى نهايته سنجد أنفسنا أمام أطباء تعمل بإتقان وشعب ينعم بصحة جيدة .
فـ تحية إلى كل طبيب يعمل بكل ضمير، يعمل بكل إتقان وإنسانية من أجل رعاية ومعالجة الفقراء والمواطنين الذين لا حول لهم ولا قوة رغم كل الظروف التي يواجهونها من ضعف الإمكانيات المتاحة ,, وتحية إلى كل وزير وإلى كل مسؤول أياً كانت مكانته الذين يعملون بكل طاقتهم في دفع عجلة التنمية والإمكانيات في مجال الصحة ..
فمصر مليئة بالكوادر الحرة التي تستطيع أن تنعم شعبها بالعيشة الهنيئة والصحة الجيدة.