تشيرنوبل تعود للذاكرة كاخطر كارثة نووية فى التاريخ
منذُ اكتشافِ الإنسان النار تحولَت الطاقةُ بمختلفِ أشكالها لتكونَ العصبَ الرئيسيَّ المحركَ للحياة على سطحِ الأرض، ولطالما استمرَ بحثُ الإنسانِ عن مصادرَ جديدة لإنتاج هذه الطاقة، حتى اكتشف الطاقة النووية والتي عُدت أكثر أنواعِ الطاقات مردوداً، إلا أنَّ خطأً واحداً في التعاملِ مع تلكَ الطاقةِ كان سبباً لوقوع أكبر كارثةٍ نوويةٍ شهدَتها البشرية. والتي سنتعرف عليها ضمن التقرير التالي….
أدَّت الأخطاءُ البشريةُ لوقوع أكبر كارثةٍ نوويةٍ في التاريخ البشري، ففي صباح 26 ابريل (نيسان) من سنة 1986 تسببَت تجربةٌ قام بها عددٌ من المهندسين السوفيتيين بحدوثِ انفجارٍ في نواة المفاعلِ الرئيسي في محطة (تشيرنوبل) النووية شمال أوكرانيا والتي كانَت وقتَها تحت مظلةِ الاتحادِ السوفيتي.
تقعُ محطةُ (تشيرنوبل) النووية في مستوطنة (بريبيات) على بعدِ 65 كم شمالَ عاصمة أوكرانيا (كييف). بُنيت في أواخر سبعينيات القرنِ الماضي على ضفاف نهر (بريبيات) واحتَوت على أربعةِ مفاعلاتٍ نوويةٍ ينتجُ كل منها ما يعادل 1000 ميغا واط من الطاقة الكهربائية.
بدأَت الكارثةُ في الوحدةِ الرابعة من المحطة في تمامِ الساعة الواحدة وثلاث وعشرون دقيقة بعدَ منتصفِ الليل بتوقيت موسكو، وذلك بقيام عددٍ من المهندسين قليلي الخبرة بتجربةِ فيما إذا كان يمكن لتوربينات المُفاعلات تشغيلُ مضخاتِ المياه على طاقةِ القُصورِ الذاتِّي في حالات الطوارئ. فقامُوا بفصلِ نظام السلامَّة الاحتياطيِّ للمُفاعل ولجهاز تنظيم الطاقةِ الخاصةِ به، مما أدَّى إلى اختلال اتزان المُفاعل وارتفاع درجة حرارته، ومع ذلك استمروا بتجربتهم فكانت النتيجةُ تعطل المحركات التوربينية وفشل نظام التبريد الخاص بالمفاعل.
يتمُ التحكمُ في العملية النووية بإدخالِ أعمدة تحكم “control rods” لتُبطِئ من سرعةِ التفاعل النووي وتُخفض الحرارة داخل المفاعل، ولهذا قامَ العمالُ بإدخال 200 عمودِ تحكمٍ في وقتٍ واحد. إلا أنَّ المشكلةَ الأكبر كانَت بوجودِ عيبٍ بالتصميم في النهايةِ الجرافيتية المستدقة لأعمدةِ التحكم، والتي تسبَّبت بدخول الجرافيت أولاً بدلاً من مبرد امتصاص النيوترونات. وعوضاً عن أن تقوم أعمدةُ التحكم بتبطيء التفاعل قامَّت بتسريعه وتسهيله مسببةً انفجاراً نسفَ الغطاءَ الخرساني للمُفاعل. لم يكنْ الانفجارُ انفجاراً نووياً ولم تكنْ محطاتُ الطاقةِ النووية قادرةً على انتاج مثل هذا التفاعل، ولكنَ الانفجار كان انفجاراً كيميائياً مدفوعاً بارتفاعِ الضغط البخاري واشتعالِ الغازات داخل المفاعل، كل هذا أدَّى إلى تدفق 50 طناً من الموادِ المشعة محمولةً على جزيئاتِ الهواء إلى الغلاف الجوي.
سارعَت فرقُ الإطفاءِ المحلية إلى المُفاعل بعد دقائقٍ من وقوعِ الحادث، وكان أولَها فرقةُ إطفاء (تشيرنوبل) بقيادةِ الملازم (فولودومير برافيك)، والذي لقيَ حتفَه بعد الحادثةِ بحوالي أسبوعين بسببِ التعرضِ الشديد للإشعاع.
لم يكنْ رجالُ الإطفاءِ على علمٍ بمدى خطورةِ الإشعاعات والغازاتِ المنبعثة من المُفاعل، حتى أنهم ظنُوا أنه كان مجردَ حريقٍ كهربائيٍّ عادي. وكانَت الضرورةُ القصوى تقتضي بإطفاء الحريقِ على سطح المُفاعل والمنطقة المحيطة بالوحدة الرابعة، ولهذا فإن العديدَ من رجالِ الإطفاء تعرضُوا لجرعاتٍ عاليةٍ من الإشعاع أثناءَ محاولتِهم السيطرة على الحريق والاستجابة لهذا الحادث المروع.
لم يجرِ إخلاءُ مدينة (بريبيات) القريبة على الفور، ولم يدرِ أحدٌ من السكان بأمرِ الحادث الذي وقعَ حتى بَدأ الناسُ يمرضُون ووردَت حالاتٌ من ألمِ الرأس وطعمٍ حديدي في الفم بالإضافةِ للسعال والإعياءِ الشديدين، ويعود السببُ في تأخرِ عملية الإخلاء إلى عدم وصول أوامر من القيادة السوفيتية في موسكو أو أيِّ معلومات حولَ الكارثةِ التي وقعَت في المُفاعلِ الذي كان تحتَ إدارتِها.
حاولَت السلطاتُ السوفيتية التغطيةَ على الكارثة في البداية، ولكن محطة مراقبة الإشعاع السويدية والتي تقعُ على بعدِ أكثر من 800 ميل شمالاً أشارَت لزيادة كميةِ الإشعاع بنسبةِ 40% عن النسب الطبيعية، ممَّا أجبرَ وكالةَ الأنباء السوفيتية في اليوم التالي على إعلان وقوع الكارثة في محطة (تشيرنوبل).
وفي تمامِ الساعة الحاديةَ عشر من صباحِ يوم 27 من نيسان، وصلَت الحافلاتُ إلى مدينة (بريبيات) للبدءِ بإخلاء المدينة، وقد طُلِبَ من السكان إحضار حاجياتِهم الضرورية فقط. ويمكنُنا لليومِ رؤيةُ الأغراضِ التي تركَها السكانُ في المدينةِ بعدَ إخلائها.
تسبَّبت كارثةُ تشيرنوبل بإصابة 237 شخصاً بجرعاتٍ عاليةٍ من الإشعاع، منهم 32 شخصاً تُوفوا خلالَ الأشهر الثلاثة الأولى من الحادثة ومعظمهم من العمال ورجال الإطفاء الذين حاولُوا إخمادَ الحريق.
تعتبرُ كميةُ الإشعاعاتِ التي نشرَتها تشيرنوبل في الجو أكبرَ بعددٍ من المرات من الكميةِ التي نشرَتاها قنبلتا هيروشيما و ناغازاكي الذريتين، وتسبَّبت بتلوثِ عددٍ من الغابات والأنهار بموادٍ مشعةٍ كان لها تأثيرٌ كارثيٌّ على الحيوانات والنباتات في تلكَ المنطقة.
يقدرُ عددُ الوفياتِ بهذه الكارثة بحوالي 5000 حالة من مواطني الاتحاد السوفيتي، معظمهم لقوا حتفَهم بسببِ السرطانات والأمراض المتعلقةِ بالإشعاع، وتشيرُ التقاريرُ أن الملايين عانوا من تردي الحالة الصحية بسبب كارثة تشيرنوبل.
وانتقالاً للبعدِ السياسيِّ فقد وصفَ قائدُ الاتحادِ السوفيتي الأسبق (ميخائيل غورباتشوف) حادثةَ تشيرنوبل في مقابلةٍ صحفيةٍ لاحقاً بأنها كانت حسب اعتقاده السببَ الحقيقيَّ لانهيار الاتحاد السوفيتي، وأنها كانت نقطةَ التحولِ التي فتحَت المجال أمامَ كميةٍ أكبر من حريةِ التعبير ضمنَ الاتحاد السوفيتي.
وقد شكلَت حادثةُ تشيرنوبل تغيراً حقيقياً في العلاقةِ بين الحكومة السوفيتية ومواطنيها، بفقدان العديدِ من المواطنين الثقةَ في الحكومةِ السوفيتية، بسببِ الخطورة الحقيقية التي شكلَتها كارثةٌ نوويةٌ بهذا الحجم، حتى أن حكايات المذابحِ التي ارتكبها ستالين عادَت لتطفوا على السطح، وبالفعل فقد انهارَ الاتحادُ السوفيتي بعد كارثةِ تشيرنوبل بخمسِ سنوات أي سنة 1991. ويجدرُ بالذكرِ أن محطةَ تشيرنوبل أُغلقَت رسمياً سنةَ 2000 بعد إغلاقِ آخر مفاعلٍ فيها.
لا تزال مدينةُ بريبيات المجاورةُ لمحطةِ تشيرنوبل النووية مدينة أشباحٍ ومازالَ شبحُ هذه الكارثة العظيمة يخيمُ على الجزءِ الشمالي من أوكرانيا مُذكراً الأوكرانيين والعالم بمدى خطورةِ الطاقة النووية في حالِ لم يحسنْ التعامل معها.