شوقي العيسة يكتب : من الماضي ( 2 )
بعدما كتبت في الاسبوع الماضي حول بعض ذكريات الطفولة في مخيم الدهيشة ، (جننني) الاصدقاء لاكتب اكثر حول تلك المرحلة ، سأجرب …..
عندما ولدت عام 62 في تلك الغرفة الصغيرة التي بنتها وكالة الغوث لاسرتي في المخيم، وكان احد الاربعة جدران المكونة للغرفة مشتركا مع غرفة اخرى لاسرة مجاورة ، كان اثنان من رجال العائلة احدهما اخ امي في سجن الجفر في صحراء الاردن، يقضيان ثماني سنوات كمعتقلين سياسيين ، وقد دخلت السجن لاول مرة كزائر عندما كان عمري ثلاث سنوات ، حيث اصطحبتني امي معها لزيارة اخيها ، وقيل لي ان ذلك حصل عام 65 قبل الافراج عنهم بفترة قصيرة . وبعد النكسة باشهر في عام 68 كان احد ابناء العمومة الذي يكبرني باكثر من عشر سنوات واصدقائه من اوائل ان لم يكن اول من شكلوا خلية عسكرية في المخيم ، واقاموا صلات مع حركة فتح من خلال احد قادتها في غزة ، والذي حسب اعتقادي زودهم بالسلاح ، ولكن سرعان ما قبض عليهم واودعوا سجون الاحتلال لعدة سنوات ، بعد الافراج عنهم اصبح ابن العم قائدا فتحاويا ، وفي مرحلة لاحقة اصبح رئيسا لمركز الشباب في المخيم ، وعندما دخلت منظمة التحرير الى غزة واريحا عمل معهم في احد الاجهزة الامنية لفترة قصيرة ، قبل ان يعتزل العمل السياسي نهائيا ، ويعمل الان في مجال البناء . اما ابن خالي الذي يكبرني باحد عشر عاما وكان اصيب بشلل اطفال وعاش حياته مشلولا ، لم يمنعه ذلك من تشكيل خلية مسلحة محلية في المخيم مع بعض اصدقائه وبينهم احدى صبايا العائلة في عام 69 ، ولا ادري كيف استطاعوا تأمين السلاح ، الا انهم نجحوا في تفجير قنبلة قتلت وجرحت بعض الاسرائيليين ، وقبض عليهم اثر ذلك ، وهدمت بيوتهم وحكموا بالمؤبدات بما فيهم ابنة العم ، اما ابن خالي فبسبب وضعه الصحي فقد حكم بعشر سنوات وافرج عنه بعد خمس منها ايضا بسبب تدهور وضعه الصحي ، اما الاخرون فقد خرجوا من السجن في صفقة التبادل الشهيرة عام 85 ، وهؤلاء تنوعت انتماءتهم في السجن فمنهم من اختار الجبهة الديموقراطية ومنهم من انتمى للشعبية او فتح ، اما ابن خالي فقد عاد الى التقليد العائلي الذي بدأ في الاربعينات قبل النكبة وهو الانضمام للشيوعيين . اما ابن عمي الذي يكبرني بخمس سنوات فقام هو واصدقاؤه في عام 72 بتشكيل خلية والبدء بالبحث عن تنظيم يحويهم ويزودهم بالسلاح ، وقاموا بجمع بعض المال وارسال واحدا منهم الى الخارج وهو الذي استطاع من خلال اقارب ومعارف الوصول الى حركة فتح في سوريا والتدرب على صنع القنابل ، وعاد ودرب الاخرين ، وبدأوا العمل ، وفي بداية عام 74 حاولوا زرع قنبلة في سيارة احد الاسرائيليين ، الا انها انفجرت اثناء ذلك واصيب احدهم بجراح ، واعتقلوا بعد ذلك مباشرة وامضوا عدة سنوات في السجون ، وكانوا جميعا في السجن مع حركة فتح الا ان ابن عمي قرر خلال وجوده في السجن الانضمام للشيوعيين الذين بدأوا يملأون السجون اثناء عمل الجبهة الوطنية التي كان احد قادتها العسكريين الشيوعي سليمان النجاب ، وقد تعرض ابن عمي نتيجة لقراره الى اضطهاد شديد من الفتحاويين في السجن. ولا زلت اذكر ليلة اعتقالهم حيث تصادف ان كانت ليلة حفل عرس ابن المختار ، ذلك المختار الذي كان صديقا للاسرائيليين ، وتبين ان ابنه الاخر اخو العريس كان عضوا في خلية ابن عمي التي حاولت زرع القنبلة ، كان عمري 12 عاما وكنت مع غيري من الاطفال في الشارع المجاور لبيت المختار نراقب الاحتفال الذي تضمن فقرات الدبكة الشعبية وعزف على العود من الشخص الوحيد في المخيم الذي كان يجيد ذلك وخاصة اغاني فريد الاطرش ، وجاء الجيش وضباط المخابرات واقتحموا الحارة واعتقلوا ابن المختار وبدأت زوجته تصرخ وتشتم وكانت تمتاز بصوت حاد وعالي جدا ، ثم رأيت الجنود يقتحمون بيت عمي الملاصق لبيت المختار لاعتقال ابن عمي ، وكنت قبل ساعات من ذلك زرت بيت عمي ووجدت ان ابن عمي الذي كان قد بدأ العمل قبل ذلك بيومين في الطراشة والدهان مصابا بحروق في الصدر وقال ان مواد كيماوية انسكبت عليه اثناء العمل ، ولا ادري ان كان ذلك صحيحا ام انه اصيب اثناء انفجار القنبلة .
ولذلك عدت لادخل السجن كزائر للمرة الثانية عندما كان عمري عشر سنوات ، حيث ذهبت مع امي وخالي وزوجته التي هي عمتي ، لزيارة ابن خالي المقعد (رحمه الله) في سجن عسقلان ، وقد سمحوا لنا بالجلوس معه في غرفة بوجود الحراس طبعا ، وذلك كان افضل من رؤيته من خلف الشباك . اما المرة الثالثة فقد كان عمري 12 عاما عندما كنت بصحبة امي وزوجة عمي التي هي ابنة خال امي (كان الجميع يتزوج من نفس العائلة في ذلك الوقت ) ذهبنا لزيارة ابن عمي في سجن نابلس ، اتذكر تلك الزيارة لغرابة ما حصل فيها ، فأمي وزوجة عمي لم يكن على وفاق في اي وقت، وكان التنافس بينهن سيد الموقف دائما ، وكن دائما ضد بعضهن في كل شيء ، وزوجة عمي كانت تختلف عن نساء العائلة فهي الوحيدة في اسرتها بين اخوة ذكور واشتهرت بالعناد والصراخ على الجميع وتحدي الذكور ، ولم نكن نحن الاطفال نشعر بالحنان منها كما الحال من باقي نساء العائلة (باستثناء ابنها الصغير اخر العنقود) ، اثناء الزيارة كان ابن عمي نحيفا ووجهه اصفر ، وكان علينا وضع اصابعنا على الشبك لتلامس اصابعه في الجهة الاخرى ، قلت له فجأة ليش شكلك هيذ ووجهك ابيض ابيض وضعيف ، نظرت الي امه بعينها الواحدة حيث انها فقدت الاخرى لا اعرف كيف ، نظرة قاتلة كلها غضب ، اقتربت امي من اذني وقالت انخم احسنلك، ثم قالت بصوت عال ما شا الله عنه والله وجهه منور زي حبة التفاح ، بطل بطل ، كان ابن عمي من النوع البشوش المبتسم دائما وكان كثير الكلام ولا يزال، ومحببا في كلامه وحاول تلطيف الجو ، الا ان التوتر بقي سيد الموقف ، قالت زوجة عمي انا مش فاهمة لليش جبتي هالمقصوف معك ، قالت امي اسكتي عاد خليه يتعلم ، فردت عليها، يتعلم ، شو بده يطلع غير زعرنجي زي امه ، واحتد الموقف ، وتدخل ابن عمي بنبرة اشد وقال انتن جايات تتقاتلن ولا تزورني ، وبعدين معكن ومع هالعادة. في طريق العودة استمر التوتر وتبادل القصف ، وكانت كل واحدة تقول خلص بلاش فظايح قدام الناس ثم تلقي بجملة استفزازية ، ثم هدأ الجو وساد الصمت ، لا ادري لماذا كنت استمتع بمعاركهن فعندما هدأن ، قلت بس هو ليش وجهه ابيض كثير ، فصرخن علي سوية في نفس اللحظة انخم عاد. ففهمت ان الموقف لا يحتمل وانخميت. بعد فترة بدأت امي تشرح لي بصوت منخفض ان السجناء يميل لون وجوههم للاصفر بسبب الحشر وعدم رؤية الشمس لفترة طويلة .
وعندما اصبح عمري 14 دخلت السجن سجينا ، وتلك قصة اخرى ، اما في تلك الفترة عندما كنت في الحادية عشرة كانت معالم المخيم السياسية قد بدأت تتوضح ، وبدأ يتشح باللون الاحمر حيث انتشر الشيوعيون واعضاء الجبهة الشعبية في كل حارات المخيم اكثر بكثير من الاخرين ، وهذا ادى الى انفتاح في العلاقات الاجتماعية ودور للفتيات ، وكنتيجة لهذا الجو انتشرت العلاقات العاطفية واصبح هناك تزايد في حالات الزواج من خارج العائلة والعلاقات العاطفية اصبحت عابرة للحارات والعائلات والبلدات الاصلية قبل اللجوء ، وكنا نحن الاطفال نعرف الاسرار حيث استخدمنا العشاق كمراسلين . في احد الايام كنت وامثالي نتسرمح على الشارع الرئيسي امام المخيم ، نادتني فتاة من المخيم كانت تنتظر الباص وكانت وقتها في الثامنة عشرة، وسألتني ألست انت ابن عم صديقتي فلانة قلت نعم قالت اريد منك خدمة (وكنت اعرف عن علاقتها باحد شباب حارتنا) قالت اذهب الى فلان (عشيقها) وقل له بينك وبينه دون ان يسمع احد انني سانتظره بعد ساعة خلف مستشفى جبل داود للعظام في بيت لحم ، قلت بشرط فتفاجأت وقالت شو قلت بتعطيني بوسة بروح ، فغضبت وقالت عيب عليك بحكي لبنت عمك ولأهلك ، قلت شو بدك تقوليلهم ، بدك بدك ما بدك بروحش ، بعد فترة صمت ابتسمت وطبعت قبلة على خدي ، وقتها لم اكن اعرف ان هناك انواعا اخرى من القبل ، لم يكن لدينا تلفزيون ولا كهرباء ، انطلقت كالصاروخ الى الغرفة المجاورة لبيت اهله ، كانت العادة في ذلك الوقت ان تبني الاسرة بيتا بجوار غرفة وكالة الغوث الاصلية وتبقي الغرفة ليستخدمها ابن الاسرة عندما يصبح في التوجيهي للدراسة وفي العادة يشاركه اقرانه ممن ليس لديهم مثل تلك الغرفة ، وتصبح في فترة الامتحانات المهمة الاساسية للام والاخوة الصغار نقل الشاي من البيت الى مناضلي التوجيهي، عندما وصلت كان اثنان من اصدقائه هناك في انتظاره حيث ذهب الى البيت لاستعجال خدمات الشاي، حاولا جهدهما لمعرفة ماذا اريد منه ، وكان واضحا انهما يعرفان بعلاقته الا انني رفضت اخبارهما حتى عاد واخذته جانبا واخبرته ، بعد سنوات عندما اصبحت في الثانوي كان ذلك العاشق قد انهى دراسته الجامعية واصبح يعلمنا في المدرسة ، وبعد ذلك التقينا في السجن واخبرته عن قبلة عشيقته قبل سنين وكان يعرف .
وللحديث بقية ……..
اقرأ للكاتب :
تابعونا : الجزء الثالث