شوقي العيسة يكتب : من الماضي ( 1 )

عندما كنت في الثامنة والتاسعة من عمري في اواخر ستينيات القرن الماضي ، كنت ومعي بعض الاصدقاء من جيلي نذهب من المخيم الى بيت لحم كي نشتغل ، كنا نغادر المخيم في الرابعة صباحا مشيا على الاقدام (كنا نسميه باص رقم 11 ) ، وكان اسهل عمل يمكن ان نقوم به بيع الجرائد ، نصل الى مكتبة ابو ياسر في عمارة جامع عمر في ساحة المهد ، وكانت تنافسه احيانا مكتبة حماد في قاع درج السوق القديم (المنارة) ، وكنا معظم الايام نصل قبل ان يصل ابو ياسر ويفتح مكتبته ، وعندما نشعر انه تأخر وكنا نعرف ان بيته يقع في ما يسمى الان حي شارع الكركفة ، ويبعد حوالي كيلو متر واحد عن الساحة ، كنا وبكل سذاجة ننزل الى حيث تقف باصات القدس في ذلك الوقت ، تحت الساحة ، ونبدأ بالصراخ والمناداة عليه كي يصحو ويحضر.

المهم ، يحمل كل منا ما استطاع من الجرائد ، ونسيح في شوارع المدينة لبيعها ، كان احد الشباب حيث كنا نسمي انفسنا شباب ، يكبرنا بعام واحد على الاكثر ويعتبر الاكثر خبرة ، كان يحتكر منطقة القبة (قبر راحيل) ، باعتبارها افضل منطقة للبيع ، حيث يمر منها كل من يريد الذهاب من جنوب الضفة الى شمالها او العكس ، واصحاب المحلات السياحية فيها من النوع الذي يشتري الجرائد ، بعضهم يشتريها كنوع من البرستيج ، والبعض الاخر يتابع انواعا معينة من الاخبار ، اضافة الى بيوت علية القوم الذين يحرصون على عادة قراءة الجريدة ، اما الرعاع والعامة والفقراء من باعة السوق القديم وزبائنه ، فلم يكن يهمهم الامر باستثناء القلة القليلة ، اضافة الى ان الناس بعد هزيمة 67 فقدوا الثقة بكل ما يكتب من اخبار ، باستثناء ابي الذي استمر في اعتبار جمال عبد الناصر الها او خليفة الله على الارض ، وان المؤامرة كانت هائلة عليه ، وكان يطلب مني كل يوم ان اقوم بحفظ كل ما هو مكتوب في الجريدة عن عبد الناصر لاسرده عليه في المساء ، اضافة الى ان الفقراء كانوا يكتفون بسماع الاخبار من الراديو رغم انهم دائما ما كانوا يستاؤون من ثمن احجار(بطاريات) الراديو ، وكانوا احيانا يسخنوها بجانب النار عندما تضعف لاعادة استعمالها ، لم يكن في المخيم كهرباء وقتها. وكنا اثناء بيع الجرائد نقوم ببعض الاعمال الجانبية ، مثلا تطلب منا احدى سيدات المجتمع بعد انتهائها من التسوق ان نحمل مشترياتها ونسير معها الى البيت ، واذا حصل واراد احدهم شراء جريدة اثناء ذلك ، كانت احداهن بالذات تخصم من الاجرة ، يعني كأنها (ميخذتني) تاكسي طلب ممنوع التحميل في الطريق ، كم كرهت تلك السيدة وقتذاك .

في احد الايام عندما كنت ابيع الجريدة في شارع المدبسة ، ناداني احد الاشخاص وكان يملك محلا لبيع السجاد وما شابه ، وكان معروفا كقائد في احد الاحزاب القومية الثورية ، وكان دائما يلبس البدلة الكاملة بقطعها الثلاث ، ويدخن السيجار ويلبس نظارة شمسية كبيرة حتى وهو داخل الدكان ، كانت طريقته في مناداتي والحديث معي سيئة للغاية ، عاملني بدون اي احترام ، كرهته جدا ، اراد مني ان اوزع اوراق دعاية ملونة لدكانه اثناء سيري في الشوارع ، وهددني اذا قمت برميها في الزبالة وعدم توزيعها ، ولم يعرف الغبي انه بذلك دلني على طريقة الانتقام منه ، وفعلتها على مرأى منه حيث القيت اوراقه في الزبالة المقابلة لدكانه وهو ينظر الي .

كنا بعد انتهاء العمل والعودة الى ابي ياسر لتسليم الغلة والحصول على الاجرة ، ننتظر بعضنا كي نعود الى المخيم سويا ، واثناء الانتظار امام المكتبة نستغل الوقت في تصفح المجلات الفنية المصورة ، وكان ابو ياسر يصرخ علينا لكي لا نوسخ او نخرب المجلات .

في طريق العودة اصبح من عادتنا ان نقف امام سينما بيت لحم وسينما الامل نتفرج على اعلانات الافلام ، وكذلك امام (فترينات) المحلات نتفرج على ما فيها ، ودائما كان يأتي من يطردنا وكأننا وباء . ولكن كان هناك دكان واحد (ميني ماركت بلغة اليوم) يختلف عن كل شيء بالنسبة لنا ، كان يقع في شارع جمال عبد الناصر ليس بعيدا عن السينما ويقابل ما كان وقتها فندق حنضل . كانت الواجهة جميلة ويعرض فيها عينات مما يبيعه وخاصة انواع الشوكلاته ، ولم يكن صاحب المحل يطردنا مهما طال زمن وقوفنا امام الواجهة ، واصبحت من العادات الثابتة التي نقوم بها كل يوم ، وقرر الشباب ان افضل انواع الشوكلاته هو الكتكات ، لا ادري على اي اساس حيث لم يسبق لاي منا ان ذاقه ، ولا ادري ايضا لماذا قررت ان اخالفهم واعتبر ان ال باونتي هو الافضل ، رغم اننا ايضا لم يسبق ان ذقناه، واشتد النقاش بيننا دون ان يعرف اي منا عما يتحدث ، واستمر الحال هكذا حوالي شهر الى ان اتخذنا القرار التاريخي بشراء الشوكلاته ، كنا خمسة اذا لم تخني الذاكرة ، وطلبنا اربعة حبات كتكات وحبة باونتي ، وكانت الكارثة التي وقعت علينا حين تبين ان ما معنا من مال لا يكفي ، الا ان صاحب المحل سرعان ما لاحظ ذلك من النظر الى اشكال وجوهنا كيف اصبحت ، فابتسم واعطانا ما طلبنا رغم قلة ما معنا من مال ، وبذلك اصبح بطلا في نظرنا واصبحنا كلما مرننا من هناك نساعده في نقل صناديق او وضعها على الرفوف او ما شابه .

في احد الايام ، وكان قبل احد الاعياد بيوم واحد ، كنا قد انتهينا من العمل وتجمعنا امام المكتبة ، وكان احد الدكاكين المجاورة في عمارة جامع عمر بجوار باب الجامع المطل على ساحة المهد قد فرد بسطة مليئة بالعاب الاطفال ، وتجمع كثير من الناس لشراء الالعاب لاطفالهم ، وقفنا ننظر وكان صاحب المحل ممن يعاملونا باحتقار ، اقترح احدنا ان نسرق كل واحد لعبة وان ذلك سهلا للغاية ، انا اعترضت بشدة ، لم يسبق لي ان قمت بذلك مطلقا ، ولكن الشباب اصروا واعتبروني جبانا ، وفي معرض النقاش (الديموقراطي) بيننا  قال احد الشباب ان ذلك يعتبر انتقاما من صاحب المحل ، فاقنعني، وبدأت العملية وقام كل واحد بسرقة لعبة وتخبأتها في ملابسه والابتعاد وبقيت وحدي ، تحيرت ونزل عرقي وبقيت على تلك الحال الى ان عاد احد الشباب ، بعد ان ترك لعبته مع الاخرين ، ونعتني بالجبان مرة اخرى، وقال انه سيسرق واحدة لي ، مما استفزني كثيرا ورفضت اقتراحه ، وسرقت لعبة ، ولكن كانت طريقتي مفضوحة تماما فمسكني صاحب المحل ، ولم استطع الافلات من يده الضخمة ، وبدأ بضربي واصر على اخذي الى مركز الشرطة القريب ، وكان يسألني من انا ومن ابي ومن اين انا ، لم يخرج من فمي اي حرف والتزمت الصمت المطبق ، وكنت اسمع كل من حولي يقولون هذا اكيد من المخيم الله يقطع ولاد المخيمات ، ما جاب البلى للبلد الا اولاد المخيمات ، اهلهم مش عارفين يربوهم ولا يظبوهم ، لا ادري كم من الوقت مضى قبل ان يتدخل رجلين كبيرين في العمر تخيلت وقتها ان عمرهم تجاوز التسعين كانا يجلسان في المقهى المقابل، وطالباه بتركي باعتباري مسكين وان كل المخيمات مساكين ، واقترحا ان يدفعا ثمن اللعبة ، وبعد جدال واخذ ورد تنازل صاحب المحل عن اخذي الى الشرطة ، ورفضت ان يشتري لي العجوزان اللعبة وغادرت المنطقة باسرع ما يمكن . وكانت تلك اول واخر مرة في حياتي اقوم فيها بمثل ذلك العمل . يومها حقدت على كل البشر والحجر، على كل شيء.

وللحديث بقية ………

تابعونا : الجزء الثانى 

شكرا للتعليق على الموضوع