محمد حماد يكتب : “يناير” شهرٌ يُحِبُّنَا وَنُحِبُّهُ !

نحن من جيلٍ له في يناير ذكريات وطنية لا تنمحي من الذاكرة، وأعظم تاريخين عاشهم جيلنا هما، السادس من أكتوبر، والخامس والعشرين من يناير، وأعظم ما فيهما، الروح التي ابتعثت معهما، وللأسف أزهقت “ملاعيب السياسة” روح أكتوبر، وأزهقت “ألاعيب الأمن” روح يناير..

كنا في السبعينيات من القرن الماضي طلاباً بالجامعة، وكانت مصر تمور في بداية هذا العقد بعنفوان وطني جامح يطالب بتحرير سيناء من دنس الاحتلال الصهيوني، وظلت طلائع جيلنا تضغط بكل ما لديها من أوراق للضغط السياسي على أنور السادات لكي يخرجنا من حالة “اللاسلم واللاحرب” التي فرضت نفسها جراء تلكؤ ومماطلة السادات في اتخاذ قرار معركة التحرير، وكان قد أعلن أن 1971 هو عام “الحسم” ثم عاد ليعلن في نهايته أنه عام “الضباب”.

في يناير 1972 انفجر غضب الطلاب، واعتصم الآلاف منهم في قاعة جمال عبد الناصر بجامعة القاهرة، وشكلوا اللجنة الوطنية العليا للحركة الطلابية لتقود أكبر وأهم انتفاضة طلابية، وواجهتها السلطة بمنتهى العنف وباعتقال الكثيرين من قيادات الطلاب، فزاد الاحتقان داخل الجامعة، وتعاطفت معهم جماهير غفيرة، وخرج الآلاف من الشعب والطلاب، متجهين إلى قلب العاصمة في “ميدان التحرير”، وأعلنوا الاعتصام في قلب ميدان الثورة حتى يفرج عن كل الذين اعتقلتهم السلطة، وتحقق لهم ما أرادوه، وأفرجت السلطة عن زملائهم بعد ثلاثة أسابيع.

كنت وقتها طالباً في المدرسة السعيدية الثانوية، وخرجنا نؤازر طلاب “كلية الهندسة”، وهي الكلية الأقرب إلى مدرستنا، وكانت قد شهدت انطلاقة الانتفاضة الطلابية، ولا زلت أشعر بالفرح الذي كان يهز أركاني وأنا أردد لأول مرة هتافاً لا أذكره الآن، وبقيت هزة القلب نفسها تأتيني مع كل مشاركة في التظاهر ضد عسف السلطة وتجبرها.

ودخلت مصر حرب أكتوبر 1973، وحققت فيها العسكرية المصرية إنجازاً ضخماً، وعبرت مصر الهزيمة ، وبدأ الشعب يتطلع إلى ثمار النصر، خاصة في ظل حملات الترويج المتتابعة التي ظلت تتحدث عن الرخاء القادم، ورسمت تلك الحملات الكاذبة مستقبلاً زاهراً لتبرير انتهاج سياسة “الانفتاح الاقتصادي”، في نفس الوقت الذي بدأ فيه السادات الانفتاح على الأمريكان، وتزينت القاهرة التي كانت منذ سنوات قليلة تعادي السياسة الأمريكية في المنطقة والعالم، وهي تستقبل الرئيس الأمريكي ريتشارد نيكسون استقبال الفاتحين.

وبدا أن مصر السادات في طريقها إلى الارتماء في الأحضان الأمريكية، مع تصاعد نغمة الوعود بالرخاء الاقتصادي، وبدأت قطط النظام السمان تظهر في الواقع المصري، وتسلمت كل مجالات الاستثمار في ظل سياسة السوق المفتوح، بينما يئن الفقراء ومحدودو الدخل تحت وقع الخطوات المتسارعة على طريق الانفتاح.

وفجأة وبدون سابق إنذار أعلنت الحكومة يوم 17 يناير 1977 عن قرارات اقتصادية تقشفية جديدة استجابة لتوصيات مشتركة للبنك وصندوق النقد الدوليين تبدأ بإلغاء الدعم عن بعض السلع الرئيسية ورفع أسعار خمس وعشرين سلعة أساسية، دفعة واحدة، ولا تنتهي بتخفيض قيمة الجنيه المصري بما يوازي 75 % من قيمته في ذلك الوقت، وزيادة رسوم الدمغة والرسوم الجمركية ورسوم الإنتاج والاستهلاك وضرائب السيارات.

 وانفجر الغضب الشعبي العارم من اسكندرية إلى أسوان، ومزقت الجماهير الغاضبة في كل ميادين مصر وشوارعها الرئيسية صور بطل الحرب والسلام وقائد العبور، وهتفت الجموع الشعبية ضد سيدة مصر الأولى، وبدا أن كيل الناس طفح، وفشلت قوات الأمن في وقف الزحف الغاضب.

ولا زلت أذكر صوت الغلابة وهم يهتفون بحرقة:

هما بيلبسوا آخر موضه …. واحنا بنسكن سبعة ف أوضه

هما ياكلوا حمام وفراخ …. واحنا الفول. دوخنا وداخ ….

***

كان لي شرف المشاركة في انتفاضة 18 و19 يناير 1977، كنت في المنصورة ضمن وفد طلابي من جامعة القاهرة نحضر لقاء ناصر الأول بجامعة المنصورة، وعلمنا من زملائنا بنادي الفكر الناصري بالقاهرة أن المظاهرات العمالية اندلعت من حلوان ضد القرارات الاقتصادية الظالمة التي أصدرتها حكومة أنور السادات، وقررنا أن نخرج من جامعة المنصورة للمشاركة في الاعتراض على القرارات الاقتصادية، وما أن خرجنا من أبواب الجامعة حتى انضمت جماهير المنصورة إلى المظاهرة فاتسعت، وتواصل زحفها الحثيث حتى وصلنا إلى مبنى المحافظة، وكانت أعداد المتظاهرين تسد الأفق أمام ناظري، وكانت المرة الأولى في حياتي التي أحمل فيها على الأكتاف لأقود الهتافات، وهو فن برز فيه أصدقاء أعزاء على رأسهم الكبير كمال أبو عيطة، ولكني كنت أحسب نفسي أكبر الفاشلين فيه، ولكن الموقف فرض نفسه علي، فهتفت بصوتٍ يكاد يخرج مني بالعافية، وإذا بي أفاجأ بالصدى يهز السماء من حولي:

اصحا يا شعب بص وشوف …. سرقة علني وع المكشوف

 ***

أما يناير 2011 فهو أعظم تواريخنا، توج حياتنا ونضالاتنا بالفخار، وكانت مشاركتنا جموع الشعب وملايينه في الثورة واحدة من أجمل ما صنعناه على مدى العمر..

أزعم أن مشكلتي، وأظنها مشكلة كل قراء التاريخ ودارسيه، أنني حين أريد الكتابة عن يناير ٢٠١١ أجدني في حاجة للكتابة عن ثورة الشعب المصري خلال قرنين من الزمان ، حتى قبل الحملة الفرنسية ثار المصريون في ١٧٩٥ ضد تعسف المماليك وظلمهم ومكوسهم وسيطرتهم على الحياة المدنية وقاد علماء الأزهر تلك الثورة الشعبية ووضعوا أول ثلاث مبادئ تحكم علاقة الحكام بالشعب، ألا تفرض ضرائب جديدة الا بموافقة علماء الأمة ونوابها، وسحب عسكر المماليك إلى ثكناتهم ، ورفع المظالم وتحقيق العدالة..

وظل نضال الشعب المصري بعد ذلك وعلى مدار قرنين من الزمان يحمل عنوانين رئيسين، رفض طغيان الحكام، ومقاومة الظلم الاجتماعي، وأضيف إليهما عنوان ثالث هو الاستقلال بعد احتلال بريطانيا لمصر في سنة ١٨٨٢، وبعد الجلاء عدنا نناضل من جديد من أجل العدالة والكرامة والدستور، ثورات كبيرة بينها ثورات صغيرة والهدف واحد: الانعتاق من جعبة الحاكم الفرد..

حتى ونحن في يوم ٢٨ يناير نواجه بأجسادنا العارية وأصواتنا العالية طغيان الحاكم وجبروته كان قرنان من الزمان يُطلان علينا من شرفة التاريخ ليؤكدا أن ثورتنا ممتدة الجذور في تاريخنا وأننا جيل من بعد جيل لا نزال نكافح من أجل نفس الهدف..

في “ميدان التحرير” كانت الأرض تلعب معنا، لأنه أرض ملاعبنا في الشباب الباكر، اختلطت في المكان مشاعر وأماني وتصورات وتوقعات وأحلام وأهداف ونضالات جيل حلم بالثورة لأكثر من ثلاثين سنة مع مشاعر وأفراح وأماني وتصورات وأحلام جيل تحرك ليقطف قرص الشمس هدية لمصر، أذكر حمدين صباحي وهو يحتضنني في قلب الميدان حولنا جمع من الشباب، وهو يقول وعيناه مليئتان بدموع كلها فرح: “الحمد لله يا حماد، عمرنا ما راحش هدر”..

واليوم وبعد مرور ست سنوات على أعظم وأنبل ثوراتنا أحس أن دموعا بطعم الحزن تحتبس في مآقينا، ورغم ذلك سيظل عام 2011 أجمل الأعوام بالنسبة لي ، وسيبقى شهر يناير أجمل الشهور، شهر يُحبنا ونحبه، رغم أن أبواق الجالسين اليوم على مقاعد الحكم يسمونه “خساير”، ويقولون عن ثورته إنها مؤامرة، وهي بالنسبة لنا كانت وستبقى “أحلى” وأجمل المؤامرات.

كل سنة وانتم طيبين، وكل يناير وأنتم ثوار..

محمد حماد – مصر العربية

شكرا للتعليق على الموضوع