مدحت نافع يكتب : ذكرى الثورة والسنوات العجاف

يخيّل للذي يتساءل عن نجاح الثورة وفشلها أنه يدرك مقاييس النجاح وموازين الفشل! ويخيّل للذي يتجرّد للإجابة على هذا السؤال بمنتهى الثقة أنه يعرف أهداف الثورة ويضعها في اختبار أمام مآلات الأمور!، وكأن الموت سبب كاف للحكم على عدمية الحياة، وكأن الإخفاق مبرر مقبول لليأس والخنوع.

الثورة التي تراها فشلت لأنك فقدت وظيفتك أو تراجع دخلك أو بارت سلعتك هى أثمن عند الأب المكلوم والأم الثكلى اللذين فقدا ولديهما واحتسباه شهيداً في أحداثها من كنوز الأرض. هى ملحمة متصلة وأرض عطشى ارتوت من دماء الشهداء .. فنجاح الثورة رهن عندئذ بما قدرّته لها من غايات..هى عند المقهور صرخة استطاع أن يطلقها ساعة بلا خوف أو تردد، عندما كانت آلات العسف تحيط بميادين الهتاف، لن تستطيع دعاوى الحطّ من الثورة والثوّار أن تنزع منه تلك الساعة إلى الأبد. وهي عند الشهيد حياته التي بذلها راضياً مرضياً أملاً في استعادة الكرامة والحريّة، إن لم يكن لنفسه وأهله فلوطنه ومواطنيه، لن تستطيع أبواق الْخِزْي والنفاق أن تنزعه درجة الشهادة وإن اجتهدت في نزع صفة الثورة عمّا وصفته افتياتاً وفجوراً مؤامرة يناير أو نكسة يناير!

التاريخ يعلّمنا أن الثورات عادة ما تفشل في سنواتها الأولى بموازين الاقتصاد، وترتيب مقاعد السلطة، وتحقيق الأهداف التي عادة ما تكتب بمداد المفاوضين لا بدماء الثوّار..لكنه ما فتئ يذكر الثورات التي وصمت بهذا الفشل، ويجعلها درساً للشعوب والحكام في كل العصور، ويؤكد نجاحها في تغيير المفاهيم وإيقاظ الضمائر وإلهاب المشاعر ..منذ ثورة اخناتون الدينية، مروراً بالثورة الفرنسية وثورتي القاهرة  ثم ثورة ١٩١٩ وغيرها من ثورات شعبية وفكرية غيّرت وجه التاريخ إلى الأبد..كذلك ثورات الربيع غيّرت وجه المنطقة إلى الأبد..صحيح إن تكلفة التحوّل الديمقراطي المأمول كانت باهظة، وصحيح إن الديمقراطية المنشودة لم تتحقق بفعل حركة الثوّار على الأرض، لكن سطراً مهماً كتب بماء الذهب في صفحة تاريخنا الحديث سيظل يقرأ على مدى العصور. ربما لن يدرك القيمة الحقيقية والمعنى العميق لذلك السطر إلا أبنائي وربما أحفادي الذين لم يولدوا بعد.. لكنهم حينها سوف يذكرون بكل فخر أن أباهم كان ينشد الحرية في صراع مع الاستبداد والقهر، وأنه لم يكن أبداً ضحية لخدعة أو مؤامرة، لأن كل أسباب الثورة كانت حاضرة تفقأ أعين المرجفين.

الثورة التى استلهمت روح التمرّد والعصيان على حكم مبارك من ثورة تونس الشقيقة، واستلهمت شعاراتها من شعارات الشعب التونسي التي نقلتها عدسات الفضائيات، كانت فعلاً عفوياً للتعبير عن الغضب، أو بالأحرى للتعبير عن الوجود أمام سلطة لم تعر لوجود المواطن أدنى اهتمام.

لا تخطط الثورات لكيفية التعامل مع الفراغ المتعمَّد الذي يفخخ به الطغاة المجتمع وأركان الدولة ومؤسساتها..لا يخطط الثوّار قبل هبّتهم لأبجديات التعامل مع مجتمع نخر فيه التطرّف والإرهاب الفكري والدموي، ومزّقته صراعات مفتعلة على الهوية..كذلك أشهد أن كثيراً من محدثي العمل العام الذين تضخمت ذواتهم بهواء فاسد وبلا مسوّغ لهذا التضخم، قد تعمّدوا إهمال ملف الاقتصاد مع بدايات الثورة، وتركوه بغير رقيب شعبي لمجرّد أن ورقة الاقتصاد كانت أبرز أوراق ملف التوريث، وخلّفت لذلك أثراً سلبياً في نفوسهم، وبالطبع لأنهم لا يفهمون مبادئه!!. أذكر أنني كدت أشتبك مع بعض هؤلاء السذّج في أيام الثورة الأولى في حضرة وزير الثقافة الدكتور عماد ابو غازي، الذي دعانا مشكوراً كمجموعة من الشباب لاستعراض رؤى التطوير..لم يستمع إلىّ هؤلاء وظَنُّوا أنهم ميادينهم حصونهم من غضبة الشعب إذا جاع أو تملِكه الخوف.

كل عام يمر على ثورة يناير نحتفل بدروسها..شخصياً أحتفل بدروس الفشل قبل النجاح، هذا في ذاته أحد معايير النجاح لدي. مجرد احتفاظ يناير ٢٠١١ بمسمّى الثورة في الدستور والتاريخ وقبل ذلك في الضمير الوطني يجعلها أهلاً للنجاح، حتى وإن تردّى على أثرها الاقتصاد وأمور المعايش..هى أثمان لا تقارن بدماء الشهداء الزكية، وسنوات عجاف سوف يحفظها التاريخ طويلاً ويمجّد أبطالها من الشعب والجيش أطول كثيراً من سنوات الرخاء.

اهم ماكتب عن ثورة 25 يناير

مصر العربية

شكرا للتعليق على الموضوع