عناية جابر تكتب : الفايسبوك لوثة الوقت ونعيمه
لست بريئة تماماً من لوثة ما يسمّونه وسائل ” التواصل الاجتماعي ” وإن اقتصرت مشاركاتي على ” الفايسبوك ” فحسب، ذلك أن ما تبّقى من تسميات، لا يعنيني، ولم يألفها مزاجي الناحي صوب الشعبوية والناس غير ال ” النجوم ” .
لم يسبق لي أن فكّرت في ” الفايسبوك” على أنه دلالة على أمر شيطاني أو ملائكي أو حتى مصدر ومؤشر على حقيقة مطلقة.
هذا اللعب الافتراضي يوسّع الهواء القليل الذي نتنفسّهُ في عالمنا العربي المُختنق بويلاته، ويتقاطع مع الموت المستشري الآخذ بنا جميعاً، فنبتعد ونغادر افتراضياً، ونقطع أميالاً بعيداً عنه، عبر الحروف والكلمات، الشعر والنكات والتعليقات، والآراء التي تبقى في حدود طفولة الآراء . وفي حين المزاج المعتكر من تخالط الأشياء ثمة ذلك الشعور المُلّح بالعزوف عن المشاركة لأيام، في حركة عناد غير مفهومة، ثم العودة السريعة الصاغِرة للانضواء في رتل المشاركين .
في الغالب، نُسطّر على صفحاتنا الخاصّة لأصدقاء افتراضيين لانعرفهم، احتجاجات ضّاجة ضدّ حال اللاسعادة في مجتمعاتنا . أضبط نفسي متعلّقة بشكل أو بآخر، في تسطير احتجاجي الذي هو في النهاية احتجاج وحيد الجانب – لعلمي المُسبق أن ما من مُجيب – به أدير ظهري إلى أيّ من المظالم في عالمنا الكبير، تبعدني عن منطقة نعيمي الخاصة . في الآن عينه، أعترف أن كثيرين يتجاوزونني أشواطاً في معرفتهم بأسرار الروح الخبيئة في ” الفايسبوك ” وفي ما يُحرّك اهتمامات ” الفايسبوكيين ” ومشاعرهم، سوى أنني حزتُ مع الوقت – أعترف – الكثير من المعرفة من خلاله . ” النت ” عالم من المعرفة كان من الممكن جعلها نسبياً، أقرب إلى جوهر استعمالاتها على غِرار أهل الغرب الذين يجيدون الإفادة من هذه الإمكانية الهائلة، سوى أن جولة يومية على مشاركات الافتراضيين العرب، تشي باصطدام أغلبهم بواحدة من أهمّ العقبات في التواصل الاجتماعي وهي قلّة المرونة في الحوارات و ” التمترس ” كلّ خلف معتقده، رأيه، طائفته، حزبه، ذائقته الفنية والفكرية وبالتالي ثقافته، ما يعني أن الكثير من الحوارات وربما كل شيء فيها يظل غير قابل للتصديق أو الفهم بالنسبة لي .
التناقض أو التناحر بمعنى أقرب، سيّد الموقف على الشاشة الصغيرة الزرقاء، وهو مقبول أحياناً إذ حتى المستحيل يجب أن تتمّ المحاولة معه، لكن الحوارات على ما أتابع سرعان ما تنتهي انتهاءً كارثياً . لا نُحسن ربما استعمال الكلمات فنحن شوب دأبت على الخضوع لسطوة الصوت ولعلها الكلمات لاتُعبّر عن الأفكار جيداً، فكل شيء يصبح بغتة مختلفاً، مشوشاً وأحمق لنخلص إلى أن ما يراه أحدهم قيّماً وحكيماً يراه آخر مجرّد هراء .
يستوقفني مع ذلك بعض أصحاب ال ” بوستات ” التي تُرخي ظلاً من الوضوح النزيه، والأمانة الجسور حيال الفكرة التي يطرحونها وهي لا بدّ صيغ مختلفة لسيرتهم الذاتية والروحية والثقافية ومصورات شتى لدواخلهم الجوّانية . بيد أن عالم ” التواصل الاجتماعي ” لا يقتصر على هؤلاء، هناك الظريف والذي يستظرف والشاعر والمريض جنسياً والعاشق والحاقد والأهبل والمدّعي والوقح والمختّل نفسياً والعدائي واللطيف والباطني والرؤيوي .. والمدمن على ” الفايس بوك ” كما لو خشبة خلاص وحيدة لايبارحه لا ليلاً ولا نهاراً .. إلى توصيفات تحار فيها الكلمات .
هذه الوسيلة في ” التواصل الاجتماعي، لا أقربها هنا من باب الإلمام بكافة جوانبها الشائكة والمعقّدة بالنسبة لي، بل اكتفي منها بكتابة خاطرة ما، قصيدة ما، أو نهفة أكون أحتاجها أنا نفسي لمباشرة مرحة لنهاري .
لم يسبق لي أن فكّرت في ” الفايسبوك” على أنه دلالة على أمر شيطاني أو ملائكي أو حتى مصدر ومؤشر على حقيقة مطلقة . ما يعطي وسيلة التواصل هذه وزنها ومصداقيتها ليس صلتها بالحقيقة أو قداستها أو شرورها بل واقعيّتها . إنها واقعيّة بشكل مُخيف في حضورها وفي حتميّة تعاطيها مُرغمين مثل بعض الأمراض الجسدية أو الظواهر الطبيعية .
مشاركتي الفايسبوكية كما أرغب أن تكون أجهد إلى جعلها تخطياً وتقدماً وكسباً لسلسلة من المعارف تتمّ حيازتها تماماً مثلما تكتمل بعد لأيّة فكرة لامعة ومختمرة عن قطعة موسيقية . وآسف أن تتبدّى عند البعض مشحونة بالتعفّن وبالمراوحة في بؤرة فاسدة .
في ” وسائل التواصل ” هذه، ما يشبه الحلم القديم بالشمولية وبتركيب جامع للبشرية ومزيج من التحليل والحدس والقلم والفن والعقل الحر، وهو حلم محكوم بالتماثل التركيبي والجمالي، وليس فقط بمتطلّبات التطبيق والتكنولوجيا .
ما يهمنّي تحديداً، وبعيداً عن الصراخ العالي والمناكفات السياسية والعقائدية وسواها، لمّا أنني أجد ” اللا جدوى ” من تداولها مع الغير، ذلك النقاء وتلك الكلمات الطريّة المُربكة التي تدهشني من حين إلى آخر عند هذا الفايسبوكي أو الفايسبوكية . مخلوقات الشعر أجدها هنا، أكثر صدقاً وحيوية وحقيقية بكثير من بعض الشعراء المكرسين الذين أعرف . ما يهمني أيضاً تلك ال ” صباح الخير ” التي تطالعني ما أن تومض الشاشة صباحاً، وتلك الأمنية ب ” ليلة هانئة ” التي تصحبني إلى فراشي من ناس لم ألتقهم حتى، ولا أعرف على أيّ أرض يقطنون .
بقلم : عناية جابر – لبنان