عبد الله السناوي يكتب : عناد مع التاريخ

لا توجد أزمة بلا تاريخ، والتاريخ ماثل فى الذاكرة، لكن دروسه شبه مهدرة.

المشكلة الحقيقية فى مصر أن أحدا لم يراجع ما جرى حتى نعرف ــ بيقين ــ أين كانت الأسباب التى أفضت إلى إطاحة نظام الرئيس «حسنى مبارك» قبل ست سنوات.

هناك من يتصور أن الحكم القضائى ببراءة الرئيس الأسبق من تهمة قتل المتظاهرين فى أحداث ثورة «يناير» صك سياسى بأن الثورة «مؤامرة».

دمغ الثورة بـ«المؤامرة» استخفاف بالأسباب التى أفضت إليها.

وهناك من يتصور أن تصفية الحسابات الأخيرة مع الثورة، وكل ما ينتسب إليها، تأخر وقتها حتى تعود بكامل حضورها الوجوه والسياسات القديمة.

أى تصورات من هذا النوع عناد مع التاريخ وحقائقه وتضحياته، وحتى إحباطاته.

لم تكن التهم التى حُوكم بمقتضاها «مبارك» هى التى أفضت إلى الثورة عليه بعد ثلاثين سنة فى الحكم.

ما الذى جرى خلال تلك السنوات الطويلة؟

كيف نهبت الموارد العامة وتوحش الفساد مقننا وممنهجا كما لم يحدث فى التاريخ المصرى كله فيما وصف وقتها بـ«زواج الثروة والسلطة»؟

وكيف تراجعت مكانة مصر فى إقليمها وقارتها وعالمها على نحو مروع؟

وكيف تغول الأمن فى الحياة العامة وجففت الحياة السياسية؟

لم يحدث أى مساءلة سياسية حتى نعرف أين كانت الجرائم الحقيقية التى تستحق الحساب.

لا فتحت ملفات ولا روجعت وثائق.

بالحساب السياسى وحده يطهر الجرح قبل تضميده.

لا يعنى مثل ذلك الحساب الانتقام الشخصى بقدر ما يعنى إدراك الحقائق حتى نعمل على عدم تكرار الأخطاء نفسها.

وبالحساب الجنائى تتحدد مسئولية إهدار الثروات العامة، أو أى تجاوزات أخرى فى ملفات حساسة.

لم يكن معقولا محاكمة رجل حكم مصر لثلاثة عقود متصلة بما جرى فقط فى آخر ثمانية عشر يوما من حكمه.

لو أن الشرعية فى صفه لأمكن القول إنه استخدمها ضمانا لأمن البلاد.

ولو أن الشرعية ضده فإن استخدام القوة عدوان عليها.

وقد كانت الشرعية ممثلة فى ملايين المصريين الذين خرجوا للشوارع.

إنكار تلك الحقيقة عناد مع التاريخ.

فى غياب المساءلة السياسية أمكن للماضى أن يعيد إنتاج نفسه.

ولم يكن هناك أى خطة للانتقال السياسى إلى عصر جديد، ينسخ الماضى ويؤسس لدولة ديمقراطية حديثة.

فى تغييب الحقائق أطلّ الماضى من جديد.

الثورات ليست مؤامرات، ولكل ثورة أسبابها وسياقها.

مطلع عام (٢٠٠٤)، وكان الرئيس قد تعافى نسبيا من الأزمة التى داهمته وهو يلقى خطابا أمام البرلمان، استدعت قطع الإرسال التليفزيونى وفرض حالة الطوارئ القصوى، قال بما نصه: «لا أريد أن أدخل التاريخ ولا الجغرافيا».

كان ذلك على هامش اجتماع ضمه إلى مثقفين، دعاه خلاله المفكر الراحل الدكتور «محمد السيد سعيد» إلى تبنى الديمقراطية حتى تكون له فرصة فى دخول التاريخ.

العناد مع التاريخ، كما الاستهتار به، عواقبه لا تحتمل.

وقد كان عام (٢٠٠٥) مفصليا فى تقرير مصير نظام «حسنى مبارك».

فى ذلك العام جدد ولايته الرئاسية لمرة خامسة وتولى نجله الأصغر «جمال مبارك» إدارة الحملة الانتخابية التى بدت كـ«استعراض الرجل الواحد».

عندما أعلن فوزه، كما كان مؤكدا، اجتمعت قيادات الحملة بأحد المقار فى حى مصر الجديدة لتحتفل بالنتائج.

جلس فى الصف الأول أعضاء «لجنة السياسات» التى يترأسها نجل الرئيس، بينما جلس وزير الداخلية اللواء «حبيب العادلى» مع وزراء آخرين فى الصف الثانى.

سأل «العادلى» واحدا من أبرز وجوه تلك اللجنة: «ما الذى تريدونه بالضبط؟».

تبدت فى السؤال إجابته أن يكون هو «وزير داخلية التوريث».

فى تلك اللحظة طرق الأبواب العامة لأول مرة سؤال: «مصر إلى أين؟».

لم يكن أحد يعرف إلى أين تمضى الأمور، فـ«الدولة تتفكك» بتعبير الدكتور «ممدوح البلتاجى» الذى أسندت إليه على التوالى وزارات السياحة والإعلام والشباب، ومستقبل نظام الحكم بين قوسين كبيرين، وصراعات الحرسين القديم والجديد خرجت للعلن، وإحكام لجنة السياسات على القرار الاقتصادى بات كاملا، وسيناريو «التوريث» بدا أنه قد دخل شوطه الأخير، بينما الحركات الاحتجاجية تتصاعد والمؤسسة العسكرية تمانع بمواريث أنها صاحبة الحق فى السلطة.

بتعبير نقل وقتها عن المشير «محمد عبدالحليم أبو غزالة» وزير الدفاع الأسبق، فإن رئيس الجمهورية هو حارس بناية لا يملك أن يورثها لابنه.

بعبارة مقاربة وصف مرشد «الإخوان المسلمين» عندما صعدت جماعته إلى الحكم دوره بأنه كـ«رئيس اتحاد الملاك».

فى الحالتين بدا البلد بناية ينتظر من يفرض ولايته على سكانها، وكانت النتائج كارثية للنظامين.

لم يكن «مبارك» يعتقد أن «التوريث» ممكن، فهو يعرف الطريقة التى صعد بها إلى السلطة، لكنه لم يمانع فى ذلك السيناريو ودفع الثمن فادحا فى النهاية.

طول البقاء فى السلطة أغوى بمشروع أسرة ملكية جديدة.

بغياب أى بنية حديثة تضمن انتقالا سلميا وطبيعيا بدا الانفجار محتما دون أن يكون أحد على يقين: كيف؟.. ومتى؟

السؤال الضرورى هنا: لماذا تأخر التغيير حتى يناير (٢٠١١)؟

ربما أحد أسباب مثل هذا التأخر اتساع هامش الحريات الصحفية والإعلامية.

باليقين فإن تلك الحريات ساعدت على ترقية الوعى العام ورفع مستوى إدراكه للحقائق من حوله، وقد ساعد ذلك فى التمهيد لـ«يناير».

لكنها باليقين أيضا أمدت فى عمر النظام لنحو خمس سنوات.

باتساع حرية النقد ارتفع منسوب الأمل فى التغيير من الداخل.

بضيق طبيعة النظام على أى تغيير بدا أن تغييره هو مسألة وقت.

وقد كانت كلمة النهاية فى عمر ذلك النظام الانتخابات النيابية عام (٢٠١٠) التى زوّرت بفحش.

عندما سدت القنوات السياسية وفرض الأمن كلمته على الحياة العامة وارتفعت حدة المظالم الاجتماعية دقت أجراس الإنذار فى المكان بأن هناك شيئا غامضا يوشك أن يحدث، تتجمع سحبه فى الأفق.

لم يكن يشك أحد، لا فى مصر ولا خارجها، أن سقوط نظام«مبارك» مسألة وقت.

أرجو أن نراجع السيناريوهات التى حاولت أن تتوقع الصورة التى يمكن أن يسقط بها النظام.

هناك من توقع «ثورة جياع»، بالنظر إلى تزايد الاحتجاجات أمام المخابز ومستودعات أنابيب الغاز.

وشىء من ذلك التوقع يطل من جديد فى احتجاجات الخبز جراء سياسات تستنسخ الماضى، كأننا لم نتعلم شيئا من التاريخ.

فالذين أفضت سياساتهم إلى إسقاط النظام كله لا يحق لهم أن يعطوا دروسا فى سبل تجاوز الأزمة الاقتصادية ولا أن يطرحوا أنفسهم كـ«خبراء مجربين».

وهناك من توقع «انتفاضة خبز جديدة» كما جرى فى انتفاضة (يناير ١٩٧٧).

وشىء من ذلك التوقع لا يمكن استبعاده تحت ضغط الأنين العام جراء ارتفاعات الأسعار وغياب أى عدالة اجتماعية فى توزيع الأعباء للإصلاح الضرورى ببنية الاقتصاد.

وهناك من توقع «حريق قاهرة آخر» على النحو الذى جرى فى (يناير ١٩٥٢).

وشىء من ذلك التوقع لا يمكن استبعاده هو الآخر تحت ضغط اليأس العام.

أسوأ ما قد يتعرض له أى بلد أن يعاند التاريخ، وألا يتعلم من تجاربه.

ولا يوجد بديل آمن واحد غير القطيعة مع الماضى.

عودة الماضى بخطابه ضد «الشرعية الدستورية»، التى تنص على أنها تستند إلى «يناير ــ يونيو» ثورة فريدة فى التاريخ.

وعودة الماضى بسياساته تحريض على الفوضى فى بلد يتماسك بالكاد ويبحث عن أمل، ولو من ثقب إبرة.

اونا

اقرأ للكاتب : 

يناير والمؤامرة

شكرا للتعليق على الموضوع