الإفتاء: إشاعة الفتنة والفُرقة سلاح الإرهابيين لتدمير الأوطان
أصدر مرصد الفتاوى التكفيرية والآراء المتشددة التابع لدار الإفتاء المصرية عددًا جديدًا من نشرة “إرهابيون”؛ تعليقًا على حادث كنيستَي مار جرجس بطنطا والمرقسية بالإسكندرية، يتناول في جزئه الأول تحليلَ العقلية الإرهابية مستندًا إلى مجموعة من القواعد المهمة؛ حيث حلل مرصد الإفتاء الفتاوى والأفعال الإجرامية التي صدرت من التنظيمات الإرهابية في حق شركاء الوطن من الأخوة المسيحيين، واستخلص مجموعة من القواعد والأصول الفكرية التي يعتمد عليها الإرهابيون في إصدار فتاواهم ضد الآخر من المسيحيين، تلك الفتاوى التي حولتهم من “التطرف الفكري إلى التطرف الدموي التخريبي”.
وأكد المرصد أن القاعدة الأولى من هذه القواعد هي: قاعدة الولاء والبراء، وهي قاعدة مهمة جدًّا في المنهجية التكفيرية في إنتاج الفتاوى التي بسببها جاء 90% من أحكام فتاواهم بتحريم التعامل مع المسيحيين.
وأضاف مرصد الإفتاء أن الإرهابيين يُعمِلون هذه القاعدة بشكل خاطئ كأحد أهم أدوات الحكم على التعامل مع غير المسلمين، أو أحد المرتكزات الفكرية التي من خلالها يحرمون التعامل بشكل قطعي مع غير المسلمين، بل تطور الأمر في التحريم من عدم الموالاة إلى المعاداة استنادًا إلى أدلة ونصوص شرعية تم تنزيلها على غير مرادها لتبرير قتلهم للمخالفين لهم في العقيدة، مثل قول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ} [المائدة: 51]ْ، بل إنهم اعتبروا أن التعامل بأي شكل من الأشكال مع غير المسلمين مخرج من الملة، واستشهدوا لذلك بحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أوثق عرى الإيمان الحب في الله، والبغض في الله»؛ وبناءً على ذلك تحول المخالف لهم –نتيجة هذه القراءة العقيمة والخاطئة- إلى كافر، ومن يواليهم أيضًا في بوتقة الكفر معهم، وعليه يجوز، بل يجب قتلهم دون روية، وقاتلهم تنتظره جنة الخلد.
كما كشف مرصد الإفتاء في العدد الجديد من نشرة “إرهابيون” القاعدة الثانية التي تتحكم في نفسية الإرهابيين ودفعتهم لتفجير الكنائس؛ وهي: تقسيم الناس إلى فُسطاطين؛ أحدهما في جانب الحق والآخر في جانب الكفر، ولا ثالث لهما (حسبما يزعمون)؛ وفي هذه القاعدة نهى عن التعامل بأي شكل من أشكال التعامل مع غير المسلمين؛ لذلك ففتاواهم جاءت صريحة بحرمة التعامل بأي شكل من أشكال التعامل كما أوضحت الدراسة. ووفقًا لهذه القاعدة يكون الناس إما مع الحق والإيمان (وفق رؤيتهم)، وإما في خانة الكفر والضلال، وهؤلاء معرَّضون للقتل، واستندوا في ذلك إلى مجموعة من الأدلة وفهموها على غير معناها، مثل قوله تعالى: {لَا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ} [آل عمران: 28]، وهو أمر بعدم التعامل مع غير المسلمين (الكفار على حد وصفهم) سواء بحبهم أو التقرب لهم أو إطعامهم أو خدمتهم، ومن يفعل ذلك فحكمه حكمهم؛ لقوله تعالى: {وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ} [آل عمران: 28]. والحكم على المسلم وغير المسلم في هذه الحالة بالقتل؛ رافضين بذلك التعاون مع غير المسلمين لقوله تعالى: {إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا} [المائدة: 55]، وبفهمهم الخاطئ قصروا مفهوم الآية على أنها تحرم التعامل مع غير المسلمين من أي نوع، وهذا فهم مخالف للمعنى الصحيح للآية.
وذكر مرصد الإفتاء القاعدة الثالثة، وهي: الإفتاء المرسل؛ وهو عامل خطير يؤثر في الفتاوى التي تصدر عن الجماعات المتطرفة، فالإفتاء المرسل كان من الأطوار الأولى لعملية الإفتاء في العهد النبوي وحتى منتصف القرن الثاني الهجري؛ ثم تحول بعد ذلك في القرون التالية إلى شكل مؤسسي بعد تطور المسائل الإفتائية وتعقدها، مما جعل الحاجة ملحَّة إلى وجود مؤسسات إفتائية لها قوانين تحكم المتصدر للفتاوى، وشروط لا بد من توافرها لمن يتصدر الإفتاء؛ لكن الجماعات المتطرفة لا تزال تمارس الإفتاء المرسل دون أي مراعاة لمن يصدر هذه الفتاوى، ودون الالتفات إلى مستواه العلمي والفكري؛ مما نتج عنه غياب المنهج الفقهي العلمي، وجعل الفتاوى التي تخرج عنه فتاوى مشوهة، جزء منها يبيح قتل شركاء الوطن باعتبارهم كفارًا.
وجاءت القاعدة الرابعة بعنوان: التقوقع داخل الأيديولوجيات المتشددة والوافدة، فكثير من هذه الجماعات متأثر بفكر بعض الأيديولوجيات الدينية في بعض الدول التي تمارس منهجًا متشددًا في معاملاتها الدينية، وهؤلاء الإرهابيون تشبعوا بهذه المناهج من خلال الاحتكاك المباشر مع هذه المناهج بحيث إنهم أصبحوا لا يرون غيرها، ومن ثم أصبحت هذه القواعد حاكمة على عقلية مصدر الفتوى، رغم اختلاف الزمان والمكان والعوائد والأحوال، ورغم الاختلافات الفكرية التي أصدرت تلك الفتاوى.
وذكر مرصد الإفتاء القاعدة الخامسة، وهي اعتمادهم على المناهج والفتاوى المعلبة وانتزاعها من سياقات زمنية مغايرة، فالكثير ممن يصدرون هذه الفتاوى ليسوا على درجة كبيرة من العلم الشرعي، وليسوا على درجة كبيرة من اللياقة الفكرية؛ وبالتالي عندما يتصدرون للفتاوى يلجئون إلى ما يسمى بالفتاوى المعلبة والجاهزة، التي خلَّفها السابقون لهم في التنظيمات المتطرفة، وبمجرد السؤال يستدعي الفتاوى ويطلقها كالرصاص المميت؛ وبالتالي لا يراعي فيها شيئًا من أسس الفتوى، وعليه تكون نتائجها وخيمة على المجتمع.
وجاءت القاعدة السادسة بعنوان: غياب ممارسة النقد الذاتي لأصحاب هذا الفكر، حيث إن غياب فكرة المراجعة والنقد الذاتي للفتاوى لهؤلاء المتطرفين، وكذلك المراجعة الفكرية يكون له عواقب وخيمة على المجتمع، وتكون من أكبر نتائجه أن يُقدم أفراد هذه التنظيمات على الانتحار باسم الشهادة، وقتل الآخر من منطلق الجهاد في سبيل الله، وترويع الآمنين والنَّيل من الدول باسم إقامة الخلافة … وهكذا.
وتابع مرصد الإفتاء أن غياب ممارسة النقد الذاتي لدى الجماعات المتطرفة تأخذهم إلى عبادة الذات، والتعامي عن الإيجابيات ورفض أي نصح، والاصطدام مع المجتمع والآخرين؛ ومن شأن ذلك أن يجعلهم في عزلة، تتحول مع الزمن إلى عقيدة صدامية مع الآخرين.
وفي قراءته للأحداث الأخيرة التي وقعت في الكنيستين، بيَّن مرصد الإفتاء مجموعة من سمات الشخصية الإرهابية، أهمها:
الخصومة مع الحياة؛ فهؤلاء المتطرفون أعداء للحياة، وهذا الأمر يعكس خللًا دينيًّا عند هؤلاء المتطرفين، وخللًا اجتماعيًّا جعلهم أعداء للحياة بحيث أصبحوا أعداء لأنفسهم ولغيرهم، وبيَّن أن علاج ذلك يتم من خلال التفاعل مع القضايا الدينية والاجتماعية من خلال الخطاب الديني للمؤسسات الدينية والتفاعل أيضًا مع مؤسسات المجتمع المدني لمحاصرة الظاهرة.
إضافة إلى غياب فكرة المواطنة، فالمتطرفون مؤمنون بالله كافرون بالمواطنة؛ فالذي يقدم على هذا الأمر لا يوجد لديه أي وازع وطني تجاه بلده، وهذا ما تفعله الجماعات المتطرفة التي تزعزع حب الوطن في نفوس الشباب وتفقده انتماءه لوطنه وبلده.
ومن سمات شخصيات مرتكبي حوادث تفجير الكنائس إشاعة الفتنة والفرقة: فهدف أي فصيل إرهابي استخدام المناطق الرخوة في المجتمعات؛ لكي يحقق من خلالها مكسبًا على أرض الواقع، وهذه المناطق الرخوة تتمثل في مناطق المذهبية والطائفية، وهذا ما يلعب عليه من خلال التفجيرات لبث الفتن وزعزعة الأوطان؛ لأن الجماعات المتطرفة لا تقوى على العمل في البيئات الصلبة المتماسكة، وبالتالي تحاول إحداث خلخلة بها ليتسنى لها العمل بها والتخريب والتشويه.
ومن سمات هؤلاء المخربين تسليع الألم والمعاناة: فالجماعات المتطرفة تحاول استغلال الظروف الاقتصادية لدى بعض الشرائح أو الظروف الاقتصادية في البلاد ومعاناة بعض شرائح المجتمع ومحاولة جعل هذه المعاناة سلعة يروجونها من خلال الإعلام ومواقع التواصل الاجتماعي؛ لاستثارة المشاعر وتهييج الناس وخلق حالة من البلبلة والتوتر تسمح لهم بالعمل في أمان داخل المجتمعات وتهيئ لهم بيئة آمنة لغرس المتفجرات والمفرقعات، وهذا أمر خطير لا بد أن يجابه بقوة.
يضاف لذلك حرص هذه الجماعات المتطرفة على تدمير موارد الدول في حين تحصل على الدعم الكبير من جهات معادية للدول، وفي هذه الحالة تحاول إضعاف الدول واقتصاها من خلال تصدير صورة سيئة عنها؛ فيتحقق لها ما تريد بإنهاك موارد تلك الدول، وتستطيع هي بما تحصل عليه من تمويل مواجهة هذه الدول ونشر العنف فيها.