العنكبــــوت “قصة قصيرة”
انغرست أشعّة الشّمس في رأسه انغراس السّهام في جسد طريّ.. وفصد جبينه حبّات عرق باردة، ما لبثت قطراتها أن تحوّلت إلى ماء منهمر..
كان يشعر أنّه يمشي على الجمر، وأنّ الطّريق التي يسلكها إلى بيته تقع في أرض مسحورة، يحسب الماشي فيها يتحرّك قُدُما وهو ثابت في مكانه كالوتد..
إنّ الشّمس التي تلفح وجهه وتفجّر ينابيع الماء من جسده، ليست هي سبب عذابه، ولا هي التي تزرع في قلبه العلقم.. لو قدّر للشّمس أن تضرّ أحدا فهي تستثني سكّان الصّحراء، إذ هم نبتوا من حرِّها.. وإنّما العذاب كلّه من الغدر: ” ليس شيئا أشدّ عليّ منه.. فإن تمدّ يدك مبسوطة بالخير والمرحمة.. ثمّ ترتدّ إليك محروقة معضوضة، فذلك هو الجحيم..”
أخيرا وصل بيته وما كاد يفعل..توجّه رأسا إلى دورة المياه، فأغدق ماء غزيرا على رأسه وأطرافه وسائر بدنه.. رفع رأسه إلى المرآة التي أمامه فألفى وجهه كظيما كقطعة ليل مظلم.. تأمّل سحنته الهادئة البريئة، فما لبث أن أفرج عن ابتسامة حزينة ساخرة: ” أيا ليت نفسي كانت دخانا أسود ترسم على وجهي البطش والقوّة…”
جلس إلى مائدة الغداء صامتا شاردا في ملكوت بعيد، لا يصيب من الطّعام إلاّ قليلا.. حاولت عائلته استفساره عن الطّارئ الذي بدّله، لكنّه تملّص من الجواب وأرجع ما لاحظوه عليه إلى التّعب الذي يلقاه في الشُّغل..
أغلق باب غرفته دونه.. واستلقى على سريره فارغ الفؤاد، موصولا بأحزان لا أوّل لها ولا آخر.. “يد باطشة من حديد.. خير من يد طريّة لا تقوى على مسك الزّمام.. ما أغنت عنّي شهامتي، وذلك الثّعلب يفعل بي ما يفعل… اللّعنة.. “
دوّت كلمته في البيت مع ضربة وجّهها إلى الحائط براحة يده.. فهرعت إليه أمّه والقلق يتراقص على صفحة وجهها.. جلست قربه على حافة سريره.. مسحت على رأسه.. وضعت كفّها على جبينه.. قالت في قلق:
ولدي ما بك ؟
لا شيء.. أنا بخير.
إنّك لا تستطيع أن تخفي هذا الكدر الذي أراه على وجهك.
أمّاه.. لقد صار ولدك رجلا، فممّا الخشية عليه؟.
قال ذلك وهو يحاول أن يهرب بنظراته إلى سقف الغرفة.. لكن أمّه احتضنت وجهه بين راحتيها، وراحت تحدّق مليّا في عينيه.. قالت:
أنت تخفي خطبا ما..
أطرق قليلا قبل أن يرفع رأسه ويقول بصوت متحشرج:
أمّاه.. ولدك في ورطة !
ضربت على صدرها وهي تقول: ما أخبرتني خيرا يا ولدي !
*****
أوحى إلى زميل قريب من نفسه أن يتبعه إلى مكتبه.. فلمّا اطمأن إلى خلوّه ممّا سواهما، قال بصوت خافت:
علمت ما فعل بي ذلك الوغد؟
لا لوم عليه.. بل عليك !
قال في ضيق: أجّل هذا التّقريع إلى حين..
إنّه نذل.. لا ذمّة له ولا ضمير.
فتحت له بيتي وصدري.. وكنت سنده الوحيد في المحنة.
أشدد عليه يأتيك صاغرا.. أمّا هذا اللّين الذي يجده منك فقد هوّنك عنده.
اخفض صوتك.. سأجرّه إلى الاعتراف بجريرته فأصغ إلينا.
لا داعي.. أنا مستعدّ أن أدلي بشهادتي ضدّه..
ولكنّك لم تشهد الواقعة..
أنت عندنا أمين صادق.. أمّا هو فكذّاب.
قال وابتسامته الشّاحبة تشرق كشمس شتويّة من وراء غمام كثيف..
لن أنسى لك هذا الصّنيع.
من المكتب الآخر جاءه صوت زميلته تناديه… أشارت له بالجلوس وهي تقول في وجوم:
تعال يا مسكين.. تعال !
أحسّ كلمتها جمرة تنزل على قلبه.. قالت في اشفاق:
أتلدغ من جحر مرّتين ؟
لم تنتظر منه الجواب واستأنفت تقول في توتّر:
كيف تسلّم إليه مالك، وأنت مطّلع على تاريخه الأسود ؟
سيّدتي…
قاطعته: وماذا أنت فاعل؟
سأسلك معه طريق اللّين لعلّه يثوب إلى رشده.
صاحت غاضبة: لا يردع مثله إلاّ التّنكيل وغرس الرّأس في التّراب.
أخفضي صوتك
تخشاه وقد فعل بك ما فعل؟!
قال في حدّة: سيّدتي.. أرجوك.
انطلق إليه ..نحن لن نتخلّى عنك.
*****
عرفته أيّام الصّبا.. كان يسكن قريبا من حيّنا.. وكثيرا ما جمعتنا مقاعد الدّراسة.. منذ ذلك العهد وملامح الشّيطان مزروعة في وجهه، تنبئ أفعاله الطّائشة الصّغيرة بما سيكون عليه في مستقبل أيّامه.. الحقّ يقال، أنّ الدّوحة التي خرج منها طيّبة العرق، ما علمنا عنها إلاّ خيرا.. أمّا هو فقد كان من بذر الشّيطان، أو كما كان يقول أبوه دائما.. شذّ عن أصله، فجمعه الشّارع مبكّرا.. اتّخذ من الخلاّن أرذل النّاس وأفسدهم سيرة.. عاقر الخمرة وهو بعد دون البلوغ، كذلك فعل مع النّراجل والسّجائر ومكاره أخرى..
كذوب مخادع، يلعب بالبيضة والحجر.. لا يسلم منه أقرب النّاس ولو كان من أولي الأرحام.. لقّبه أحد ضحاياه بالعنكبوت، فلا يناديه النّاس إلا به.. فلمّا سئل لماذا وصمته بهذا اللّقب بالذّات.. قال: “إنّ أنثى العنكبوت إذا جاعت، أقبرت صغارها في بطنها وجعلت من زوجها وجبة لغذائها..”
انقطع عن الدّراسة فلم يبلغ فيها شأنا.. غير أنّه استطاع أن يرشي ” كتفا سمينا” فرفعه إلى كرسيّ الوظيفة العمومية رفعا..
أحلامه.. آماله.. تندفع إلى الحياة اندفاع ماء مضغوط.. إلاّ أنّها تندفع دائما من شقوق ثلاثة، هي الزّوايا التي ينظر منها إلى العالم: السّيجارة، الخمرة، المرأة.. تلك هي قرّة عينه، ولأجل ذلك خلق..
أمّا والعالم يتغيّر ويتبدّل، فإنّه لن يكون الاستثناء..
السّيجارة الرّخيصة لم تعد تسدّ أصغر حاجاته.. أمّا الخمرة الرّديئة المستخرجة من أعماق النّخل والتي غالبا ما كانت ملوّثة بالذّباب والوزغ، أصبحت هي الأخرى مثارة لسخطه وغثيانه.. وأمّا النساء اللاّتي تهدّلت أجسادهنّ تحت قصف غرائز الرّجال، فقد ملّ من أن يقف في طابور طويل أمام حجراتهنّ في المواخير..
الرّشوة هي أسهل الطّرق إلى المال.. بيد أنّ رتبته الحقيرة حالت دون أن يكتسب منه الكثير..
جلب على النّاس بملحه وروح خفيفة تصنّعها.. عند الحاجة ينحني بهامته إليهم فيُظهر عليه الذّل والانكسار.. لكن ما إن يقضي وطره حتّى ينقلب أسدا جسورا بيده الضّر والنّفع.. استمرّ على هذا حينا من الدّهر.. إلى أن فاحت رائحة سمعته كجيفة كريهة، تسدّ في وجهه الأبواب، وتصيّره أمثولة عند القاصي والدّاني..
جاءني منحني الهامة، يرهق وجهه غبار الذّل.. أوجست منه خيفة، وأنا المطّلع على خافيته، دقيقها وعظيمها.. قال وضحكة صفراء تعلن لؤمه الدّفين:
أكاد أجنّ.. أرى صفقات تعقد أمام عيني ولا يكون لي فيها نصيب.
ويصمت قليلا، ينفث نفسا من سيجارته في الهواء قبل أن يستطرد:
آه.. لو كان لديّ مال
ابحث عن أحد غيري !
طرقت الأبواب جميعا فلم يبق أمامي إلا أنت.
ليس لي حظّ في التّجارة..
أتزهد في رزق جاءك إلى يديك؟
لن تجني من إلحاحك هذا إلا بحّة في صوتك.
أهذا آخر حديثك؟
وأتمنّى أن لا تعود إليه.
نهض كسير الخاطر.. قطع خطوتين ثمّ استدار عائدا وابتسامة غامضة ترتسم على شفتيه:
أمهلني أربعة وعشرين ساعة، بعدها أعيد إليك مالك مع ربح وفير !
حالك مضحكة يا صاح..
العمليّة مضمونة.. لا ينقصها إلاّ رأس المال.
إنّ ما تدعوني إليه هو الوهم.
تأكّد أنّك خلال شهر واحد.. يمكنك أن تجني أرباحا تعادل راتبك وزيادة.
لو عقدت قمحة، ما اقتلعت منّي شيئا !
أنت تظلم نفسك.
أظلمها حين أضع مالي في يدك.
لا تثق بي؟
ثمّة أمور تتجاوز الثّقة من عدمها.
مثل ماذا؟
المال الذي تطالبني به، أفنيتَ مثله في شهواتك، وأحرقتُ أنا به شهواتي.
صمتّ قليلا، وقد طافت بي ذكريات مُرّة، أطلّت لي منها أشباح الجوع والفاقة.. قلت والحسرة تملؤني:
لعلّك تضحك منّي في سرّك.. وربمّا ظننت بي الشّح والبخل.. لكنّ دافعي ليس ذلك تماما.
تنفّس نفسين من سيجارته قبل أن يقول بصوت هادئ:
أنا أقدّر جيّدا ما أنت فيه.. وأعلم أنّ مصاريف الزّواج الذي أنت مقبل عليه ترهقك وتسرق منك هناء البال.. غير أنّ اعتمادك على راتبك فحسب، لن يغني عنك شيئا.. أنت في حاجة إلى مصادر أخرى..
ما تدعوني إليه لا يرتاح له ضميري.
البيع والشّراء أمر لا غبار عليه، فلا تكبّل نفسك بالأوهام.
الحقيقة لم أجد ما أقول، كان قويّ الحجّة، عرف على أيّ الأوتار يضرب في نفسي.. قلت:
لست مرتاحا.. هذه هي الحقيقة.
أعطيك ضمانا كتابيّا.. أمّا الخسارة فعليّ وحدي.. وأمّا الرّبح فلك فيه النّصف.
أوافق..شريطة أن تحدّد لي مسبقا ثمن البيع والشراء..
فكّر مليّا أو هكذا بدا لي.. قال: اتّفقنا.
أمهلني حتّى الغد.
*****
خيّم على المكان هدوء أصم، شقّ رداءه طنين ذبابة تبحث لها عن مخرج.. اتّجهت الأنظار متفحّصة “العنكبوت” الذي غارت من وجهه الدّماء، وتحوّلت سحنته إلى صفار يضاهي صفار الموتى..
كان ضحيّته في جملة الحاضرين، وقد عادت إلى وجهه مياه الحياة.. قال في لهجة تنمّ عن الطّمأنينة:
ها قد وجدنا مخرجا يضمن حقي وحقّك معا، فهلم ننفّذه.
قالت السيّدة وهي تصرخ محمّرة الوجه من شدّة الانفعال:
لا يعنينا المال فهو مضمون العودة.. الذي يهمّنا أنّ يدا آثمة امتدت إلى الدّرج المقفول وسرقت الكمبيالة.
قال “العنكبوت” بصوت متحشرج:
أنا بريء مما تتّهموني به.
تجاهلته السيّدة، فقالت والانفعال لم يسكت عنها:
ثمّة سوسة تنخر عظم هذه الإدارة.. إنّ اليد التي سرقت أموال الدّولة قديما، هي التي تجرّأت وفتحت الدّرج بغير إذن صاحبها، واستولت على الكمبيالة لغاية في نفسها المريضة.
قال أحد زملائهم وكان حاضرا بينهم:
السّارق يريد الكمبيالة ولا يريد سواها، وإلاّ كان قد أخذ وثائق أخرى مهمّة من نفس الدّرج.
وكأنّ الأرض تميد به، قال العنكبوت:
أحسنوا بي الظن فلست كما تظنّون !
قال الضحيّة:
نحن لا نتّهمك.. هي وقائع نسردها كما هي.
أطرق “العنكبوت” قليلا.. قال ونظراته تتكسّر على الأرض:
لم يكن في نيّتي الغدر.. فقط أردت أن أضمن حقّي في سند ماليّ، عليه ختمي وفيه ذمّتي.
كذبت.. لقد أردت بي السّوء.
في هذه اللّحظة، دخل رئيس الإدارة ووراءه أحد زملائه، يبدو أنّه أحاطه بالواقعة.. اتّجه رأسا إليه وما لبث أن قال في حزم:
أمامك حلّ من حلّين.. إمّا أن تعيد الكمبيالة إلى صاحبها، أو توافيه بماله حالا.
ماله محفوظ مصون، فأحسنوا بي الظّن.
قال رئيس الإدارة:
أنت المستفيد الوحيد من الكمبيالة فلا تكثر من المماطلة.
مضغ “العنكبوت” بضع كلمات غير مفهومة قبل أن يصيبه الخرس، فيسكت مطرقا وعيناه في الأرض.. قال رئيس الإدارة بالحزم نفسه:
انه هذه المهزلة حالا، قبل أن أرفع ضدّك تقريرا إلى السّلط العليا.
*****
قدّمت له كاس شاي أخضر تفوح منه رائحة نعناع زكيّة.. ثمّ جلست قبالته على أريكة تنظر من الشّرفة إلى ساحة أمامها، تراقب نخلتين باسقتين تتمايلان مع النّسيم، وقد نفذت من بين سعف جريدها اليانع أنوارا فضيّة للقمر.. قالت وهي تزيل عن جبينها قطعة من شعرها الفاحم: وهل رفع الرئيس تقريره؟
ارتشف رشفة من كأسه، أبقاها في فمه قليلا قبل أن يبتلعها في نشوة.. قال وعيناه تدوران في المكان الذي بدا له في تلك اللّحظة قطعة ساحرة من عالم آخر: كلاّ.. لقد أثنيت الرئيس عن ذلك.
أتفلته من يدك وقد أراد بك شرّا..
وما حاجة لي في عقابه، وقد ردّ علي مالي..
إنّك تبوء بإثم ضحاياه، ما لم تضربه على يده.
تركته للأقدار !
أخشى أن يحسب عفوك عنه ضعفا، فيطمع فيك كرّة أخرى.
خطر مثل هذا ببالي لمّا كنت في قلب الأزمة.. أمّا وقد خرجت منها فلقد غلب طبعي على تطبّعي..
ويلي من طبعك هذا.
أجننت؟ !
الفتاة.. تحب ّفي فتى أحلامها القوّة والبأس، لأنّها بهاتين الصّفتين تأمن على نفسها.
وما أدراك أنّي لست على هاتيكما الصّفتين؟
إنّ الناس في زماننا لا يقدّرون طيبتك هذه.. إذ لا تعني لهم إلاّ الضّعف والمسكنة.
صمتت، وراحت تسبح ببصرها في السّماء الواسعة.. تأمّل وجهها لكنّها أشاحت به عنه ممّا دلّه على غيضها.. نظر في إناء الحوش.. تأمّل أفراد عائلتها القليلين وهم منشغلين بقضاء مآربهم..قال في حنوّ وصوت هامس:
أرأيت ذاك القمر.. لقد اقتبس نوره من غضبك..
طربت لهذه الكلمة.. وشعرت بها تنزل في قلبها كغيث نافع على أرض عطشى.. حاولت أن تنقّب مشاعرها وتحشرها في زاوية بعيدة من نفسها، إلاّ أن ارتجافة شفتيها ودعكها لطرف ثوبها بأصابعها كانا يفضحانها عنده.. اكتسى وجهه الجدّ وهو يقول:
في نفسك شيء منيّ، فهلاّ أفصحت ؟
قالت بصوت متحشرج:
لقد ولّى زمنك يا حبيبي.. وإنّي أخشى أنّ الذي حمل النّاس على الطّمع في مالك، يحملهم على الطّمع في.
إذن أنت تعنين ما تقولين..
قالها في هدوء مريب، فواصلت هي تقول وعيناها تمتلئان جرأة ما عهدها فيهما:
لو أنّ أحدهم تطاول عليّ، فما جزاؤه منك.. هل تقول له اذهب.. تركتك للأقدار ؟
حاصرها بنظرة طويلة أسقطت نظراتها أرضا.. فجأة فرد قامته وغادر صامتا…
” أعلمُ أنّها كلمة قاسية حادّة كالسّيف.. لكن عليّ أن أقولها.. وعليه أن يسمعها..”
وعادت تنظر إلى السّماء بقلب مطمئن، فتنظر إلى وجه خطيبها مرسوما على القمر، يرمقها بابتسامة عذبة تعبق منها رائحة الطّيبة…
————–
المجموعة القصصيّة ” التّيه”