احمد الحداد يكتب : العشر الأواخر موعد ازدياد الخير والطاعة

رمضان شهر الصبر، والصبر ثوابه الجنة، وشهر المواساة، وشهر يزداد فيه رزق المؤمن.. هذه المعاني الجليلة هي الثمرات المرجوة بأن يخرج بها المسلم من مدرسة الشهر الفضيل، بعد أن تهيأ لاستقباله كما تتهيأ النفس لاستقبال أعز غائب يتنظر.

ومنذ دخول هذه المدرسة الكريمة على الصائم أن يروض نفسه للصيام والقيام وصالح الأعمال، فيكتب الأجر بهذه النية الصالحة، فكذلك فيه تهيئة للنفس لتطهيرها من رذائل المعاصي، بالعزم على البعد عنها وسلوك الاستقامة فيه حتى لا يكون فيه المرء من الغافلين، وهذه النية الصالحة تجعل من يتلبس بها كأنه مؤدياً لعبادة الصيام إن أدركه الموت أو العذر، فإن نية المؤمن خير من عمله.

العشر الأواخر من رمضان لها من الفضل والشأن ما لا يكون لغيرها من سائر الشهر، فهي الثلث الأخير الذي يشعر بدنو ارتحال هذا الشهر، فيكون المرء على وَجَلٍ مما كتب له فيه، فيزداد من الخير والبر والطاعة ما لم يكن يعمل مثله في الأيام الخوالي، وهو الحال الذي كان عليه المصطفى صلى الله عليه وسلم.

فقد كان لا يصلي في العشرين إلا كصلاته في سائر السنة، فإذا دخلت العشر اجتهد، أي كان يصلي تهجده الدائم الذي كان فرضاً عليه صلى الله عليه وسلم، فإذا دخلت العشر كان له حال آخر كما قالت عائشة رضي الله عنها:

«كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا دخل العشر شد مِئزره، وأحيا ليله، وأيقظ أهله»، وعنها أيضاً رضي الله تعالى عنها أنها قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يجتهد في العشر الأواخر ما لا يجتهد في غيره.

وقال أنس رضي الله عنه: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا شهد رمضان قام ونام، فإذا كان أربعاً وعشرين لم يذق غمضاً»، أي يقوم الليل كله حتى يجعل عشاءه سحوراً، وذلك لانقطاعه لله تعالى في ليالي العشر، حتى إنه ليترك ما يحتاج إليه جسده الشريف من الراحة والغذاء، لاغتنائه عن ذلك بلذة مناجاة الله رب العالمين، والوقوف بين يديه سبحانه.

مواصلة الصيام بل إنه كان يواصل بالصيام الليل بالنهار، لانشغاله بالله تعالى عن الطعام والشراب ونحو ذلك كما روى أنس رضي الله عنه، قال: «واصل النبي صلى الله عليه وسلم آخر الشهر، وواصل أناس من الناس، فبلغ النبي صلى الله عليه وسلم فقال:

«لو مُدَّ بي الشهر لواصلت وصالاً يدع المتعمِّقون تعمُّقهم، إني لست مثلكم، إني أظل يطعمني ربي ويسقيني»، أي يجعل فيَّ قوة الطاعم الشارب، بلذة مناجاته سبحانه وتعالى.

ونظراً إلى هذه الحالة الخاصة التي أكرم الله عز وجل نبيه الكريم صلى الله عليه وسلم من أنه كما وصف عليه الصلاة والسلام « إني لست مثلكم، إني أظل يطعمني ربي ويسقيني» فإنه صلى الله عليه وسلم نهى الصحابة، رضي الله تعالى عنهم، عن الوصال وقال لهم: «إياكم والوصال»، قالوا: فإنك تواصل يا رسول الله؟

قال: «لستم في ذلك مثلي، إني أبيت يطعمني ربي ويسقيني، فاكلفوا من العمل ما تطيقون»، وفي رواية: «فلما أبوا أن ينتهوا، واصل بهم يوماً، ثم يوماً، ثم رأوا الهلال فقال: «لو تأخر لزدتكم» كالمنكِّل لهم، يعني لكونهم لم يقبلوا إرشاده بالتخفيف الذي كان منهجه صلى الله عليه وسلم مع أصحابه ومع أمته، فإنه كما وصفه الله تعالى بقوله:

{لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ}، ولذلك كان يقول: «يا أيها الناس، خذوا من الأعمال ما تطيقون، فإن الله لا يملُّ حتى تمَلُّوا، وإن أحب الأعمال إلى الله ما دام وإن قلَّ».

ولم يكن قصدهم مخالفته، ولذلك عذرهم لحسن قصدهم، فتركهم وما أرادوا لتردهم الطبيعة.

ومما ينبغي في هذه العشر الفضليات الاعتكاف في المسجد، لا سيما المسجد الجامع الذي تقام فيه الجمعة، فإن ذلك هو الانقطاع الحقيقي لله تعالى في هذه العشر، وهو ما كان يحرص عليه المصطفى صلى الله عليه وسلم كما قالت عائشة رضي الله عنها: «كان يعتكف العشر الأواخر من رمضان حتى توفاه الله، ثم اعتكف أزواجه من بعده».

والاعتكاف هو العكوف في المسجد أي الاحتباس فيه تقرباً لله تعالى، فشرعه الله ورسوله للعباد ليزداد العبد قربى لديه سبحانه، فلذلك حرص عليه الصحابة رضي الله عنهم، فإنهم لما رأوا رسول الله اعتكف بادروا للتأسي به، كما روى أبو سعيد الخدري رضي الله عنه، قال: «اعتكف رسول الله صلى الله عليه وسلم العشر الأول من رمضان، ثم اعتكف العشر الأوسط، في قُبَّة تركِيَّة على سُدَّتها حصير»، قال:

«فأخذ الحصير بيده فنحاها في ناحية القُبّة، ثم أطلع رأسه فكلم الناس، فدنوا منه»، فقال: «إني اعتكفت العشر الأول، ألتمس هذه الليلة، ثم اعتكفت العشر الأوسط، ثم أُتيت، فقيل لي: إنها في العشر الأواخر، فمن أحب منكم أن يعتكف فليعتكف» فاعتكف الناس معه».

وهكذا يكون حال المسلم في هذه العشر من الانقطاع لله تعالى، إن لم يشغله حق للأهل أو للمجتمع.

البيان – مدير إدارة الإفتاء في دائرة الشؤون الإسلامية والعمل الخيري في دبي

شكرا للتعليق على الموضوع