نانسى فتوح تكتب : شدة البلاء وقرب الفرج..
حينما ندرك يقيناً أن هذه الدنيا دار التواء لا دار استواء، دار امتحان، دار ابتلاء فمن عرفها لم يفرح لرخاء، ولم يحزن لشقاء .. وتأتي بعض المصائب من أجل أن تدفعنا إلى الله، وإن كان هناك استقامة تأتي بعض المصائب لتمتحننا، وبعدئذ تستقر حياتنا على الإكرام، فنحن في النهاية بين التأديب وبين الامتحان وبين التكريم .
فقد يكون هذا الابتلاء فردي، هذا مبتلى بالغنى، هذا بالفقر، هذا بالأولاد، هذا بإخوته، هذا بحرمانه من الزوجة، هذا بأولاد كلهم ذكور، هذا بأولاد كلهم إناث، هذا بأولاد بعضهم ذكور وبعضهم إناث، هذا ابتلي بالأولاد مع الفقر، هذا بالأولاد مع الغنى، هذا غني بلا أولاد، فظروفك وابتلاءك الذي أنت فيه مادة امتحانك مع الله، ولكن على كل مؤمن أن يوطن نفسه أنه لابدّ من أن يمتحن، لابدّ من أن يبتلى، وبطولته أن ينجح في الابتلاء، لأن الرضا بمكروه القضاء أرفع درجات اليقين، إذا أحبّ الله عبده ابتلاه، فإن صبر اجتباه، وإن شكر اقتناه ، فمجرد أن تقول: يا رب لك الحمد أنا راض فقد نجحت بالامتحان، الله عز وجل يقول:
﴿ وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلَائِفَ الْأَرْضِ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ ﴾
وقال تعالى :(لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِّأُوْلِي الأَلْبَابِ)
فعند الوقوف تأملا لسورة يوسف نجد أنها نزلت في عام الحزن على رسول الله صلى الله عليه و سلم في أشد أوقات الضيق وهو على وشك الهجرة وفراق مكة .. وما لاقاه من أذى القريب والبعيد فأراد الله تعالى أن يقص عليه قصة أخيه يوسف وما لاقاه هو في حياته وكيف أن الله تعالى فرّج عنه في النهاية لأنه وثق بتدبير الله تعالى ولم ييأس.
فهي السورة الوحيدة في القرآن ، التي تقص قصة كاملة بكل لقطاتها .. لذلك قال الله تعالى عنها : أنه سبحانه سيقص على النبي ( صل الله عليه و سلم ) ” أحْسنَ القَصَص ” .
وهي أحسن القصص بالفعل كما يقول علماء الأدب ، وخاصة المتخصصين في علم القصة .. فهي تبدأ بحلم ، وتنتهي بتفسير هذا الحلم ..
ففي هذه السورة ، لا نجد ملامح يوسف النبي ، بل نجدها في سورة ” غافر “، أما هنا فقد جاءت ملامح يوسف الإنسان .. الذي واجه حياة شديدة الصعوبة منذ طفولته ولكنه نجح.
وكأن الله يريد ليقول لنا: إن يوسف لم يأتِ بمعجزات .. بل كان إنساناً عاديَّاً ولكنه اتَّقى الله فنجح ..!
وهي عِظة لكل شاب مُسلم مُبتَلى أو عاطل ويبحث عن عمل، أو غير مستقر في حياته ويبحث عن الاستقرار، وهي أمل لكل مَن يريد أن ينجح رغم واقعه المرير .
فقميص يوسف استُخدم كأداة براءة لإخوته .. فدل على خيانته ثم استُخدم كأداة براءة بعد ذلك ليوسف نفسه مع إمرأة العزيز فبرَّأه ..!!
ثم استخدم للبشارة .. فأعاد الله تعالى به بصر والده ..
نلاحظ أن معاني القصة متجسِّدة .. وكأننا نراها بالصوت والصورة .. وهي من أجمل القصص التي يمكن أن نقرأها ومن أبدع ما نتأثر به ..
لكنها لم تجيء في القرآن لمجرد رواية القصص .. وهدفها جاء في آخر سطر من القصة وهو :
” إنَّهُ مَن يتَّقِ و يَصبر، فإنَّ اللهَ لا يُضيعُ أجرَ المُحسِنين”
فالمحور الأساسي للقصة هو :
ثق في تدبير الله و اصبر ولا تيأَس .
الملاحظ أن السورة تمشي بوتيرة عجيبة .. مفادها الثقة في تدبير الله وأن الله هو خير مدبر للأمور ..!
– فيوسف أبوه يحبه ، وهو شيء جميل ، فتكون نتيجة هذا الحب أن يُلقى في البئر ..!
– ثم الإلقاء في البئر شيء فظيع .. فتكون نتيجته أن يُكرَم في بيت العزيز ..!
– ثم الإكرام في بيت العزيز شيء رائع .. فتكون نهايته أن يدخل يوسف السجن ..!
– ثم أن دخول السجن شيءٌ بَشِع .. فتكون نتيجته أن يصبح يوسف عزيز مصر ..!
الهدف من ذلك أن ننتبه إلى أن تسيير الكون شيءٌ فوق مستوى إدراكنا .. فلا نشغل أنفسنا به ودعه لخالقه يسيِّره كما يشاء .. وفق عِلمه وحِكمته .
فإذا رأينا أحداثاً تُصيبُ بالإحباط ولم نفهم الحكمة منها فلا نيأس ولا نتذمَّر .. بل نثِق في تدبير الله ، فهو مالك هذا المُلك وهو خير مُدبِّر للأمور ..
وهي أكثر السور التي تحدَّثت عن اليأس .
– قال تعالى :
(فلمَّا استَيأسوا منهُ خَلَصوا نَجِيَّا ) .
)ولا تيأسوا مِن رَوحِ الله .. إنَّهُ لا ييأسُ مِن رَوحِ الله إلا القومُ الكافِرون) .
) حتى إذا استيأس الرسلُ وظَنُّوا أنَّهُم قد كُذِبوا جاءَهُم نَصرُنا( .
– وكأنها تقول لك أيُّها المؤمن إن اللهَ قادر فلِمَ اليأس ؟
فيوسف رغم كل ظروفه الصعبة ، لم ييأس ولم يفقد الأمل . . فهي قصة نجاح في الدنيا والآخرة
في الدنيا : حين استطاع بفضل الله ثم بحكمته في التعامل مع الملِك ، أن يُصبح عزيز مصر ..
وفي الآخرة : حين تصدَّى لامرأة العزيز ورفض الفاحشة ونجح ….
هذه السورة كما قال العلماء :
|| ما قرأها محزون إلا سُرِّي عنه ||
فإن ما يجري في الكون لا يغيب عن علم الله العليم الخبير،والإنسان محدود العلم والقدرات فلا يدرك الخفايا والعواقب، لكن الواثق بالله تعالى يسلم قياد أمره إلى من يتصرف في خلقه بعلمه وقدرته ومشيئته؛ فالثقة بالله تعالى تعني أن نفوض أمرنا إليه وتعلق قلبنا به، ونتوكل في أمرنا كله عليه، ولا ننسى أن نبذل ما في قدرتنا ووسعنا من الأسباب لتحصيل المحبوبات ودفع المكروهات، فلا أقول أنا لم أنجح ابتلاني الله بالرسوب، هذا كذب، لأنك لم تدرس لم تنجح، هذا الذي يقصر، ويعزو تقصيره إلى القضاء والقدر، فالتوحيد لا يبرر الخطأ ..!
نسأل الله تعالى أن يبصرنا بديننا، وأن ينمي في قلوبنا الثقة بربنا، وأن يصلح بذلك جميع أحوالنا.. فثقوا دائما إن مع الابتلاء فرجا .. وأن مع الهم مخرجا .. وإن مع العسر يسرا.
اقرأ للكاتبة :