يوميات دينا ابو الوفا … عارفين
تابعت خلال الشهر الكريم عدة مسلسلات رمضانية ، الا ان مسلسل ” حلاوة الدنيا ” احتل فى تقييمى الشخصى و طبقاً لمعاييرى الخاصة ، المرتبة الاولى بلا منازع …
كان بالنسبة لى أعمقهم من حيث الفكرة وأكثرهم تشويقاً ، بداية من القصة وواقعيتها الشديدة ، الى حسن اختيار من يلعب الأدوار المختلفة ، الى التمكن والبراعة فى تجسيد الأدوار و إتقانها من الجميع بلا استثناء ، الى الملابس الملائمة المتناغمة الأنيقة ، الى المكياج ( فلا اذكر انى انبهرت بمكياج عمل فنى مصرى كانبهارى فى هذا العمل و خصوصاً بعد حادثة الطريق التى تعرض لها امينه وسليم ) ، الى الموسيقى التصويرية ، وصولاً الى أغنية التتر و كلماتها العبقرية المؤثرة …
بدا لى عملاً فنياً رائعاً متميزاً على جميع المستويات ولكنى سأقاوم الاسترسال فى الحديث عّن كل تلك النقاط على حدى لما يتطلبه الامر من صفحات وصفحات ، ومقالات و مقالات …
ولكن اكثر ما الهمنى حقاً فى هذا المسلسل ، فقادني للحديث عنه هو اختيار المؤلف لاسم المسلسل ” حلاوة الدنيا ” بالرغم من ان المحور الذى تدور حوله القصة بأحداثها ، مؤلمة صعبة سوداوية كئيبة ، لا تبشر بأى حلاوة للدنيا !!!
فأثار فضولى و بشدة ان افهم …. كيف لقصة كتلك ان تسمى ” حلاوة الدنيا ” …
فأى حلاوة تكمن فى قصة تدور حول المرض و السرطان و العلاج اللعين و الموت !!!!
ليس فقط ذلك ، بل ان احداث المسلسل لم تخل من قصص جانبية كثيرة محملة بالمشاكل ، لا تستطيع كمشاهد ان تهمشها او تتغافل عنها بل تجد نفسك متفاعلاً كلياً معها فى آن واحد …..
فتعود لتسأل نفسك اين “حلاوة الدنيا ” فيهم !!
وبناء عليه رُحتُ ابحث داخل متاهات حلقاته عّن السر … سر “حلاوة الدنيا” …
وهنا يجب ان اعترف انى لم أتوصل اليه الا مع عرض الحلقات الاخيرة من المسلسل بعد ان ربطت جميع الخيوط ببعضها البعض و نظرت آلى الصورة بشكل أعمق و عشت مع كل شخصية حلاوة دنيتها…
فلنبدأ بالجدة ” زوزو” السيدة العجوز الأنيقة التى كمنت حلاوة دنيتها فى وجود ابنتها ناديه و حفيداتها من حولها ورؤيتهم سعداء أصحاء …
مروراً ب ” نادية ” الام التى عاشت حياة باكملها غير سعيدة مع زوج لم تحبه و لم يحبها ، فاختزلت حلاوة دنيتها كأى ام ، فى وهب عمرها لبناتها كى تراهم اوفر الناس حظاً و أسعدهم …
فانهارت لمرض ابنتها لكن سرعان ما عادت حلاوة الدنيا بشفاء ابنتها و بعودة الرجل الذى أحبته الى حياتها فاجمل لحظات الحياة تلك التى نعيشها بجانب من نحب حتى وان تأخر اللقاء …
و مروراً ب “عالية” التى ادركت ان “حلاوة الدنيا ” قد تختبىء فى لحظة صدق مع النفس و قرار صائب يتخذه العقل و ان بدا معارضاً للقلب …
وان حلاوة الدنيا تكتمل احياناً حين نخرج من حياتنا من لا يستحقون مشاركتنا إياها …
تعلمنا منها هذا الدرس ، حين قررت بثقة و ثبات الانفصال عّن شريك حياة غير مناسب و اختارت نفسها و راحة بالها و انقذت روحها من الفناء على يد شخص غير سوى …
ثم تأتى الجارة الجميلة و الصديقة الصدوقة ” سارة” …
التى ايقظها من حياتها الفاترة المملة ، مرض” امينة” فراحت تبحث هى الاخرى عّن حلاوة دنيتها فوجدتها باكتشاف نفسها “من اول و جديد” …
عادت لتصحح مسار حياتها و تحدد لها اهدافاً واضحة و هما سعادة ابنها زياد ، والعودة لممارسة عملها الذى ضحت به فى الماضى نتيجة زيجة فاشله …
ثم مررنا ب “شهد” الأخت غير الشقيقه التى أجبرتها الظروف ان تعيش حياتها فى الخفاء ، بعيداً عّن حضن ابيها ، محرومة من نعمة الشعور بالعزوة و سند العائلة و حنان الاخوات ، فكانت حلاوة دنيتها فى استعادتهم والتمتع بدفء أحضانهم …
فرأيناها تتخذ عدة مواقف وقرارات مبهرة و مؤثرة من اجل عائلتها …
فبعد تفكير عميق و هادىء آثرت اختها ” امينه ” وصفاء العلاقة بينهما، على ان تستمر مع رجل ضحى بأختها فى السابق تاركاً بداخلها جرح …
وراحت تدافع بقوة و حزم وصلابة عن اختها” علياء ” حين ضربها خطيبها و لم تكتف بذلك ، بل وافقت بكل بساطة ان تهب اختها فرصة الشفاء فخاضت معها عملية زرع النخاع …
فشهدنا موقفان يلخصان ببراعة شديدة معنى الأخت و قيمتها …..
ثم نأتى اخيراً و ليس آخراً الى قلب القصة ، الى ” امينة ” و “سليم ” فنرى “سليم” شاباً وسيماً يمتلك المال والجاه ، فلم يمنعا إصابته بسرطان فى المخ و رفض العلاج والقيام بعملية جراحية وقرر انه سيعيش دون ان يقاومه ، حتى يحين وقت رحيله الى ان صادف امينة و احبها ، فكان الشعور بالحب دافعاً قوياً للرغبة فى الحياة و محاربة المرض …
فأحيانا تكمن حلاوة الدنيا فى قصة حب صادقة تحلى الآيام و تضخ فينا ينابيع الامل وتزودنا بأسلحة نتصدى بها لصعاب الحياة …
اما “امينة” فقد اصيبت فجأة بسرطان الدم ، فقلب المرض حياتها رأساً على عقب و ألقى بعرض الحائط كل خططها التى رسمتها بعناية للمستقبل…
فانفصلت عّن خطيبها قبل موعد حفل زفافهما بفترة قصيرة ، وتركت عملها بعد ان كانت قد وصلت الى منصباً طالما تمنته و سعت اليه …
فبدى المشهد برمته مظلماً كئيباً تعيساً يكسوه التشاؤم …. فأين حلاوة الدنيا لها !؟
كانت حلاوتها فى كل من أحاطوها و ساندوها ووقفوا بجانبها واعانوها على تخطى الأزمة من جدة وام واخوات وعّم وزوج وصديقة …
كانت “حلاوة الدنيا” فى لحظات تختلى فيها مع الله فتفقد السيطرة احيانا لتنهار امامه وتثور قائلة ” لو بتختبر صبرى انا صبرى خلص لكن انت رحمتك مبتخلصش فين رحمتك !؟”
لتعود و تهدأ و تمسك بالمصحف و تدعوه دعوة صادقة من القلب خرجت بيقين و إيمان
فتسلحت فى معركة الحياة بالله و بمن أحبوها …
و ادركت ان هذا المسلسل قد القى الضوء على حقائق و بديهيات كثيرة فى هذه الدنيا ( الا اننا نغفل عنها و نتناساها) يجب ان نسلم بها أولاً ، حتى نصل الى مربط الفرس …
أولها : ان الدنيا التى نعيشها لم ولن تكن يوماً جنة الله على الارض وان الله سبحانه وتعالى لم يعدنا الراحة والسكينة والهناء عليها ، بل انه ذكر لنا فى كتابه الكريم حقيقة الامر حين قال جل وعلى “وخلقنا الانسان فى كبد ” …
إذن فلنعى جيداً اننا سنمضى فى الحياة لنواجه اياماً مشحونة بالتحديات و ملغمة بالصعاب و العراقيل ، سنتلقى فيها لكمات وصفعات عنيفة لا نهاية لها ، ستعافر معنا لتسقطنا لتطرحنا ارضاً …
ستحاول مراراً و تكراراً ان تكسرنا ، وربما أيضا تبعثرنا رماداً فى الهواء ان أمكن …
والحقيقة الثانية : اننا وبعد هذه الرحلة الشاقه ، سنرحل عنها يوماً ما لامحالة ، كل منا بميعاد لا يعلمه الا الخالق سبحانه وتعالى ولسبب لا يدبره الا الله …
ربما طرح المسلسل فكرة الموت بسبب الاصابه بمرض السرطان ولكن هل نحتاج لسبب كى نوقن اننا زائلون …. الا يتردد بيننا دوماً ذلك القول “تعددت الاسباب والموت واحد” …
فهل نحتاج ان نعرف سبباً لزوالنا كى نعيش الحياة بشكل صحيح قبل ان يمر العمر هباء ويفوت الاوان …
إذن تفسير “حلاوة الدنيا” يكمن فى هذه العبارة السحرية ” كيف نعيش الحياة” …
وبناء عليه نستنتج ببساطة شديدة ان الامر بيدنا ، متروك لنا …
علينا ان ان نقف و بقوة فى وجه كل تلك الصعاب و العراقيل و نتصدى لكل التحديات
الا نقف أمامها مكتوفي الايدى ، ونكتفى بالشعور بالأسى و الحسرة على أنفسنا ، فنظل نندب حظنا و أقدارنا و مصيرنا …
ان نظل نحارب ونحارب والا نقبل بالهزيمة ، الا نرفع الراية البيضاء …
علينا ان نرد اللكمات بلكمات اعنف أشرس اقوى …
ان نعافر لنقف بعد السقوط و نتعلم كيف نلملم أشلاءنا و نستعيد أنفسنا من جديد …
الا نسجن أنفسنا فى حجرة مظلمة و نعزل أنفسنا عمن نحبهم و يحبوننا وننتظر النهاية فى صمت بلا اى مقاومة …
ان نعيش الْيَوْمَ بيومه ، نستمتع بكل لحظة فيه ، نبتسم ، نضحك ، الا نقف كثيراً عند لحظات الحزن بل نمر عليها مرور الكرام …
ان نتذكر ان هذه الحياة ما هى الا اختبار من الله عز وجل ، فكل ما نمر به قد كتبه لنا …
و من كرمه ورحمته علينا انه ” لا يكلف نفساً الا وسعها” فان قدر لنا ضيق ، قدر لنا معه طريق الخلاص … فقط لمن يتدبر …
علينا ان نلتفت جيداً لكل ما هو جميل من حولنا …
أهل ، اقرباء ، أصدقاء … فبهم يتيسر الصعب و يهون الالم و تمرالأزمات كعابر سبيل …
سأختم حديثى بعبارات نطقت بها “امينة” فى لحظات المسلسل الاخيرة ، أوجزت بها فأنجزت حين قالت :
“انا قررت أعيش ، أعيش بجد طول ما لسه مكتوب لى ايام فى الدنيا ، مَش هفرط فيهم ولا هسيبهم يضيعوا عالفاضي ، مَش هبطل احلم مَش هبطل اجرب وهفضل أعمل الحاجات اللى بحبها مع الناس اللى بحبهم وعارفه ان مَش كلها هتبقى ايام حلوه ، هيبقى فيه وجع وقهر كتير هيعدوا علينا بس اللى متاكده منه ان وسط كل الوجع ، لسه الحاجات اللى بنحبها تقدر تخلينا نفرح لسه حلاوة الدنيا بتضيع طعم المرار “
اقرأ للكاتبة :
الحلقة الاخيرة من مسلسل “حلاوة الدنيا “