صباح ناهي يكتب : بغداد في تألقها وانحطاطها

جاء الاحتلال ليطرق سبيكة كل شيء لينثر أهل بغداد في المنافي كما نثرت فوق العروس الدراهم، زرتها قبل سنتين فلم أتلمس طريقي إليها حتى لبيتي.

ظلت بغداد مدينة مستقطبة للناس في كل زمان وأوان، في تألقها وانحطاطها، في فورتها وانحسارها، لا تعرف السكون والهدوء منذ بانيها أبوجعفر المنصور في عام 754م، يوم اختارها عاصمة العباسيين، وعنوان مجدهم لخمسة قرون تحكم الدنيا حتى خاطب حفيده الرشيد سحابة عابرة قائلا “أينما تذهبين فإن خراجك لي”.

أي فخر وزهو هذا الذي يردده البغداديون إعجابا وتقديرا لمدينتهم، حتى امتلأت بالوافدين من أبناء المدن والقرى والأرياف والهضاب والجبال، جاؤوا إليها ليعملوا ويدرسوا ويتعلّموا ويتسوقوا وينهلوا، بل حكموها أخيرا بعد العهد الجمهوري عام 1958 حتى غرقت بغداد بأمواج الهجرات إليها، بعد انهيار الفلاحة نتيجة قانون “الإصلاح الزراعي” الذي انتزع الأرض من ملاكها، صارت المدينة عراقا مصغرا بل عالما عربيا مصغرا حين أبطلت حواجز الهجرة وألغت الفيزا ليأتي إليها أكثر من 5 ملايين مصري خلال سنوات الحرب مع إيران، كأنهم مواطنون عراقيون بامتياز “محبة الرئيس″ لهم في الثمانينات من القرن الماضي.

ورغم الخمسة ملايين نسمة الذين سكنوها بما يعادل ربع سكان العراق، ظلت المدينة على فرح تنوعها وتلونها وأشاعت حواراً عربياً-عالمياً مع مريديها وعشاقها، امتلأت مقاهيها وشوارعها ومدارسها وجامعاتها بشتى الأجناس، بل صارت بعض أحيائها مغلقة لجنسيات غير عراقية مثل حي المربعة في شارع الرشيد للمصريين والبتاويين للسودانيين، وحيفا للسوريين وهكذا، كما ظلت مدينة “الثورة” للفقراء والمنصور للأغنياء والحرية للمطربين والملحنين، والأعظمية للسياسيين والفقهاء والكاظمية للتعبد والمجالس.

إنها مدينة تضج بالتنوع ففيها المساجد والملاهي ودور العلم والمكتبات، كما فيها المواخير وبيوت الدعارة، والواعظون والقواديون والتجار والحمّالون، فيها البيوت الرفيعة والوضيعة والأقسام الداخلية للطلبة من شتى المدن.

المدينة لا تعرف النوم كما لا تعرف متى تتوقف عن تشييع ضحاياها شهداء أم شعراء، كتابا وفنانين، معاهد أم كليات، لا تميز فيها بين العربي من الكردي، السني من الشيعي، الحارات سميّت بأسماء أبطالها وأعيانها رجالا أو نساء، سارة خاتون، عادلة خاتون، هيبة خاتون، حافظ القاضي، الوشاش الطوبچي، دراغ الأورفلية، أسماء أحياء يقطنها عراقيون دون محاصصة أو تلصص أو تميّز. جاء الاحتلال ليطرق سبيكة كل شيء لينثر أهل بغداد في المنافي كما نثرت فوق العروس الدراهم، زرتها قبل سنتين فلم أتلمس طريقي إليها حتى لبيتي.

ماذا فعل الزمن لتتغير المدينة بكل طقوسها وطروسها ويظل اسمها!

العرب

شكرا للتعليق على الموضوع