زياد دكاش يكتب : اعتراف مهندس اتصالات

تميّزت نهاية العصر السابق بتألّق تقنيّات الاتصالات التكنولوجية المادية، وبتطوير وسائل التواصل الاجتماعي والبشري. لكن كيف يمكنها أن تشكّل أرضيّة لتواصل إنساني أرقى؟ وكيف ينتقل الإنسان من تقنيّات الاتصالات الماديّة إلى تقنيّات فكريّة وأخرى باطنيّة مُبدِعة؟

بين سطور هذه المقالة سيستشف القارئ اعترافًا لمهندس اتصالات سلكية ولاسلكية بمحدودية وسائل العلوم الأكاديمية مقارنة مع رحاب مفاهيم علوم الباطن الإنساني… فشتّان بين الاتصال والتواصل، وبين تكنولوجيا المادة وتكنولوجيا الباطن الإنساني، وهذا الفارق الشاسع لم يخطر في بالي قط، قبل تعمّقي في علم باطن الإنسان – الإيزوتيريك.

 صحيح أن التواصل مع القرّاء عبر الكتابة يقرّب المسافات بين القارئ والمفاهيم التي يطرحها الكاتب، إلا أنّها تقرّب أيضًا المسافات بين أفكار الكاتب عينه، بين أسئلة كانت هاجعة في باله فاقترنت بإجابات تكمّلها خلال الكتابة… هكذا تغدو الكتابة وسيلة لتقديم معرفة تفاعليّة من جهة، ومنهجًا لتفتيح القنوات الداخليّة التي تتواصل مع تلك المعرفة… لذلك، لجأتُ إلى كتابة خلاصة أفكاري وخبراتي حول موضوع التواصل في كتيّب “فنّ التواصل الإنساني” كدليل لاكتشاف حقيقة التواصل (الذاتي خاصةً) وشبكته الخفية… مقدّمًا ما لم تذكره هندسة الاتصالات وما لم تتطرّق إليه أبحاث التواصل الاجتماعي.

من خلال دراسة الإنسان ومكوّنات وعيه في منهج علوم الإيزوتيريك، يقدّم كتيّب “فنّ التواصل الإنساني” سرّ الشبكة الخفية التي تربط بين أجزاء الوحدة وبين الأجزاء والوحدة، وبين أبعاد كل جزء وأجزاء كلّ بُعد… عبر شبكة تواصل كاملة ومكتملة، بعضها ظاهري وآخر خفي، أساسها داخلي وانعكاسها خارجي…

إنّ تنظيم التواصل حاجة إنسانية، ونظام التواصل حقيقة كونيّة… تمتدّ شبكة التواصل بين الإنسان والطبيعة وبين مكوّنات الطبيعة… بين الإنسان والكون، وبين أبعاد الكون… تمتدّ الشبكة بين مكوّنات الإنسان وأبعاده الباطنية… تمدّ روابط بين إنسان وآخر، وبين الإنسان ونصفه الأفضل، وتتوسّع في العائلة والمجتمع، كانعكاس للتواصل الإنساني والمعرفي، لتبلغ المجتمعات والبلدان والأعراق المختلفة… بذلك نصبح إخوانًا في المعرفة… بعدما كنا إخوة في الخلق!

بداية كل تواصل اتصال، إنما كم من اتصال لم يَرَ نور التواصل… وكم من تواصل تخطّى الاتصال المنظور… في التواصل تفاعل إرادي، فيما الاتصال قد يكون اعتباطيًا لاإراديًا، أو قد يضيع في فضاء اللامبالاة أو اللاإنتباه… هذا غاب أيضًا عن الطرح الأكاديمي لعلوم الاتصالات، ويعترف به مهندس الاتصالات الذي أدرك الفارق بين تكنولوجيا المادة وتكنولوجيا باطن الإنسان وطاقاته اللامادية…

في الحقيقة، إنّ الفارق بين الاتصال والتواصل هو كالفارق بين السمع والاستماع، والفارق يكمن في التفاعل الواعي وفي وعي التفاعل… وعلى قدر هذا التفاعل يرتقي الاستماع إلى إصغاء، والإصغاء إلى إنصات…

فالتعبير المُفعم بالتفاعل ينقل المُصغي إلى حال تفاعل المتكلّم، ليسهّل استيعاب فحوى الرسالة. والتعبير المضمَّخ بأفكار الرسالة، وبإلمام المتكلّم، يتلقّاه العقل مباشرة لدى الشخص الآخر قبل أن تمرّ الرسالة في الدماغ… هذا وعلوم الإيزوتيريك التي تخطّت مؤلفاتها المئة كتابًا حتى تاريخه، في سبع لغات، تتفرّد في توضيح الفارق بين الدماغ المادي والعقل الذبذبي التكوين…

إنّ التواصل لا يعتمد على فنّ التعبير فحسب، بل على فنّ الإصغاء أيضًا، فمعيار فاعليّته هو الانفتاح ومقدرة الاحتواء… والإصغاء إلى ما لم يُلفظ، هو كالقراءة بين السطور، كتحسّس حال الآخر في تواصل صمته… والانفتاح لا يعزّز فاعلية التواصل فحسب بل يعمّق قنواته ويوسّع معها حريّة المرء في خياراته وفي حياته…

إذا كان المرء ملمًّا ومتفاعلًا بما يقدّمه، جاء التواصل مقنعًا؛ وإن تردّد أو ضعفت ثقته بنفسه أو بما يطرحه، تحسّس الآخر ذلك الضعف وعيًا أو لاشعوريًّا منه، وتحوّل الحوار إلى جدال يرتطم بالشكوك. تفاديًا لذلك، ليتساءل المرء قبل التعبير عن مفهوم أو رأي: هل يؤمن يقينًا بما يعبّر عنه؟ هل يعبّر عمّا يفكّر به ويطبّق ما يعبّر عنه؟ هل يقصد ما يقوله، أم هو يبرّر ما يقصده؟  ليتساءل عن أهميّة هدف تواصله. فالتواصل غير الهادف هو رديف التواصل غير الفاعل. وإذا كان التعبير العفوي لوحة فنٍّ تجريدي، فالتعبير الهادف فنّ نحتٍ في ألواح الوعي…

البلاغة في التعبير والشفافية في التلقّي تراصٌّ لفراغات التواصل…

الدقّة والتركيز اختزال لتكرار التواصل…

المواجهة والاحتواء تفتُّحٍ لمسارات التواصل…

الحضور المميّز والمتفاعل هو هالة التواصل،

الشخصيّة القويّة تعزيز لزخم التواصل…

التجدّد والانفتاح توسُّعٍ لقنوات التواصل…

الوضوح والهدوء صقل لمرآة التواصل…

لماذا التواصل؟! لأنّ الوعي لا يحقّق ذاته إلا من خلال المقارنة بين قطبين، المُرسِل والمُتلقّي… لذلك كان التواصل وسيلة لتفتيح الوعي من جهة، ولتقريب المسافات بين الأقطاب من جهة أخرى… لعلّ هذه المعادلة هي الدليل على أن الحبّ بين المرأة والرجل – قطبي الذات الإنسانية – هو أسمى أشكال التواصل الإنساني. فالحبّ يبدأ بتقريب المسافات النفسية بين الشريكين على الصعيد البشري، ليصل في مُنتهى هدفه إلى  تقليص الهوّة التي استُحدثت بين النصفين إثر الانشطار…

في الحقيقة، السرّ، يكمن في أن الحبّ لا يعزّز التواصل بين الشريكين فحسب، بل يعزّز التواصل بين مكوّنات النفس لدى كلّ منهما، وبين الأضداد التي انكشفت على مرآة الشريك في ظلّ الحبّ الصادق… فعبثًا يحاول المرء أن يتواصل مع الشريك إن لم يُدرك كيف يتواصل مع نفسه. وعبثًا يحاول أيضًا أن يرتقي بتواصله مع الآخرين إن لم يرتقِ بحبّه في الوقت عينه… ناهيكم أنّ شفافية التواصل في الحبّ تستحثّ حبّ التواصل…

مهما اختلفت لغته، ففي التواصل لذّة – لذّة اكتشاف الذبذبة للمحيط التي تتواصل معه، وفيه أيضًا دفء التفاعل – لغة تعبير الأجسام الباطنيّة… مهما اختلفت وسائل التعبير والتلقّي، تبقى متّصلة بالتواصل الداخلي، وتشكّل تعدّدية نستشف من خلالها وحدة الشبكة الذبذبية ونظامها. أستشهد بما ورد في ص ٨٠ من كتاب “تعرف إلى نفسك وإلى ذاتك” بقلم د. جوزيف مجدلاني (ج ب م) مؤسّس مركز علوم الإيزوتيريك: “التواصل هو وحدة التعبير بين أشكال المعرفة والوجود في الكون”.

على هذا الأساس نستنتج أنّ التواصل الخارجي ليس سوى انعكاس لمسارات الذبذبات وتفاعلاتها داخل كيان الإنسان… وكلّما ارتقى نبض التفاعل في النفس، وتحقّقت انسيابية التواصل في المسارات، تمكّن المرء من تحدّي العوائق في حياته وتمهيدها على مسار تطوّره، والعكس صحيح. أمّا في وعي حركة التواصل الداخلية في التطبيق العملي وفي ظلّ الأهداف الإنسانية السامية، فيرتقي الإنسان من الشفافية الذبذبيّة إلى نورانية الوعي الإنساني المتفتّح.

 في هذا السياق، إن ملحمة الإنسان “تعرف إلى نفسك وإلى ذاتك” بقلم د. جوزيف مجدلاني (ج ب م) تشرح أن “نظام الجسد كأعضاء وحواس مادية تجسيد حسّي لحقيقة التواصل في الكون. فما من ذرّة أو ذبذبة أو نواة نور، إلّا وهي على اتصال وتواصل مع الكون برمّته. لكنّ هذا التواصل يتجلّى في مستويين: الأول واعٍ وفاعل في حركة تتحقّق عبر أشعة أو شبكة النور في الكون؛ والثاني لاواعٍ وغير فاعل، في حركة تتحقّق عبر كلّ ما هو ذبذبي أو ينتمي إلى الشبكة الذبذبية في النظام، إلى أن ترتقي هذه الحركة )وشبكة تفاعلها الذبذبية( إلى المستوى النوراني الكوني في الكائن البشري وفي النظام ككلّ”.

بين عطاء وتلقٍّ، بين تعبير وإصغاء، وبين حركة واحتواء، يتمّ التواصل بين قطبين للتعلّم، ولتقليص المسافات بين كليهما… تتعزّز الروابط في التجاوب والقبول، وتضعف في الرفض والانغلاق… تلتحم في التفاهم والانسجام – بعد وعي أسباب الاختلاف والتناقض… وتتجاوزه في الفهم المباشر – بعد الانفتاح الداخلي الحق. يتحقّق التوازن في العطاء والأخذ، ويتفتّح على الجوهر في تخطّي ازدواجية التبادل، لتصبح طبيعة عطاء ووهب تلقائية. وتنضج بعد وعي هدف التواصل مع الآخر، لترتقي من التفاهم إلى تفهّم التعددية، ثمّ فهم الاختلافات بين الأشعة البشرية، وإدراك النواقص في الذات… هذه النواقص التي يعجز الإنسان عن وعيها من دون مرآة التواصل.

هذا بعضٌ ممّا يتناوله كتيّب “فنّ التواصل الإنساني” الذي يلقي الضوء أيضًا على أنواع التواصل ومستوياته، على مستلزماته ووسائله، وعلى طرق تعزيزه وتحقيق الانسيابية في مسارات شبكته… ويقع هذا الكتيّب ضمن سلسلة سبعة كتيّبات، كتجربة مشتركة في صياغته الأدب الباطني ضمن سلسلة علوم الإيزوتيريك، تتكامل كألوان طيف النور السبعة، وترمز إلى عناصر معرفيّة أساسيّة في بناء صرح الإنسان في مجتمع المستقبل. أمّا عناوين الكتيّبات فجاءت على النحو التالي: “مواجهة اللاحبّ” (بقلم هيفاء العرب)، كتيّب “أهميّة العطاء” (بقلم زياد شهاب الدين)، كتيّب “فنّ التواصل الإنساني” (بقلم زياد دكاش)، كتيّب “الإنسان طيف ألوان” (بقلم لبنى نويهض)، كتيّب “تطبيق النظام” (بقلم مروان أبي عاد)، كتيّب “قانون الباطن” (بقلم عارف منيمنة) وكتيّب “دروس في فنّ الباطن” (بقلم ندى شحادة معوّض).

متعة في القراءة، تنوّع في التجربة، وحدة في المبدأ والتوجّه… هذا ما تهدف إليه هذه الكتيّبات بقلم مجموعة من طلاب علوم الإيزوتيريك.

موضوعات ذات صله :

 مواجهة في الصميم … رواية ل “زياد دكاش”

شكرا للتعليق على الموضوع