محسن الغمري يكتب : الإسلام وأهل الكتاب

قال الله تعالى في محكم آياته: ( وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ) سورة يونس الآية 99.

وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم، كما جاء في صحيح البخاري: من قتل “معاهدا” لم يرح رائحة الجنة، وإن ريحها لتوجد من مسيرة أربعين عاما. والمقصود بالمعاهد، هو الذمي، فقد أطلق الإسلام على غير المسلمين الذين لهم ذمة “أهل الذمة” وعاملهم بها، وتعني.. العهد.. الأمان والضمان، والحرمة والحق وهو عهد منسوب إلى الله عز وجل وإلى الرسول صلى الله عليه وسلم قال ابن الأثير: “وسمي أهل الذمة لدخولهم في عهد المسلمين وأمانهم”.

” أهل الذمة ” هو مصطلح فقهي أسلامي ، يقصد به اليهود والمسيحيين، أو كما قيل إجمالا أهل الكتاب الذين يعيشون تحت الحكم الإسلامي أو في بلاد ذات أغلبية مسلمة، ويتمتعون بحماية ومسؤولية الدولة، وأيضا حمايتهم واجبة على المواطن المسلم، فلا يجوز للمسلم الإساءة لأحد من أهل الذمة، تحت عذر أنه من غير المؤمنين بالقرآن أو برسول الإســــــــــلام ( صلى الله عليه وسلم) لأن الشريعة أوضحت أن مسألة المحاسبة على الأيمان من عدمه، اختص الله بها نفسه، فهو الوحيد المطلع على القلوب وأسرارها، وهو حساب مؤجل إلى يوم قيام الساعة.

ويثبت التاريخ أن المسلمين الأوائل تحملوا هذه المسؤولية تجاه أهل الذمة، من خلال – مثلا- واقعة التفاوض مع المغول على أسرى مدنيين أخذوهم في هجومهم على المدن السورية، عندما حاول المغول تسليم المسلمين منهم فقط، والاحتفاظ بمن منهم من أهل الكتاب – أهل الذمة- كعبيد، لكن المفاوض المســــــــــــلم قال: أهل الذمة ( مسيحيين و يهود ) قبل أهل الملة أي المسلمين. وهنا نجد أن الإسلام لم يفرق في رؤيته للإنسان ما بين مسلم أو غير مسلم، فالإسلام حرم سرقة أموال اليهود، أو سبي نسائهم، ولا الاعتداء عليهم -إلا إذا هم اعتدوا – والأمر ينطبق على الديانات الأخرى، وما وقع من حرمات على المسلمين يقع أيضا على أهل الكتب السماوية الأخرى، التي تحظى بحماية المجتمع الإسلامي.

وفي دراسة تاريخية نقدية للباحثة شيرين العدوي، في كتابها الحياة الاجتماعية في كتاب الأغاني للأصفهاني، الصادر عن هيئة الكتاب في وقت حكم الأخــوان وتغول جماعات الفكر المتطــرف، تقول بصدد الطبقات الاجتمــاعية، التي وجدت في الفترة منذ ظهور الإســـلام وحتى عصر الدولة الأموية: ” وهناك طبقة أهل الذمة، وقد نعم أصحابها بحياة أمنة، بما يوفره لهم الإسلام من حرية في العقيدة، وما يكفله لهم من حماية ورعاية في تعاليمه السمحة “. وقد تجلى ذلك في ثقة الأمويين، وإسنادهم أعمال مهمة –   – وتقريبهم لهم، ونجد – على سبيل المثال لا الحصر-  .

أن الخليفة الأموي معاوية ابن أبي سفيان اصطفى “ابن أثال “وكان طبيباً نصراني المذهب، لنفسه وأحسن إليه، وقربه وجعله طبيبه وكاتبه الخاص، ثم جاء عبد الملك بن مروان من بعده ، واتخذ من ” سَرْجون بن منصور الرومي” كاتبا على ديوان الخراج، بل أن أسرته من بعده توارثت هذا المنصب. كما أن بعض الولاة وثقوا صلتهم بأهل الذمة واتخذوا منهم ندمانا، وخير مثال لذلك ما كان بين الوليد بن عقبة، وهو أخ غير شقيق لأمير المؤمنين عثمان بن عفان ( رضي الله عنه) وبين أبي زبيد الطائي، وهو نصراني، وقد أخذ الوليد له بحقه من أخواله بني تغلب، وكانوا ظالمين له.

وأظن أننا جميعا نعرف اسم الشاعر العربي الكبير ” الأخطل ” وكان نصرانيا من أهل الجزيرة، ولم تمنع نصرانيته، النقاد وعلماء الشعر من أن يقفوا منه موقفا منصفا، حتى أنهم شبهوه بالنابغة لصحة شعره.

 كما نستدل على ذلك بما كتبه نصارى الشام في صدر الإسلام سنة 13هـ إلى “أبي عبيدة بن الجراح” رضي الله عنه، حين قالوا: ” يا معشر المسلمين أنتم أحب إلينا من الروم وإن كانوا على ديننا أنتم أوفى لنا وأرأف بنا وأكف عن ظلمنا وأحسن ولاية علينا ” ، أيضا ما قالته المستشرقة الألمانية الشهيرة  ” زيجريد هونكه “1999-19113  المعروفة بكتابتها  في مجال الدراسات الدينية: ” لا إكراه في الدين” تلك هي كلمة القرآن الملزمة، فلم يكن الهدف أو المغزى للفتوحات العربية نشر الدين الإسلامي، وإنما بسط سلطان الله في أرضه، فكان للنصراني أن يظل نصرانيًا، ولليهودي أن يظل يهوديًا كما كانوا من قبل، ولم يحول أحدٌ بينهم وبين شعائر دينهم، ولم يُنزِل أذى أو ضررًا بأحبارهم أو قساوستهم ومراجعهم، وبِيَعِهم وصوامعهم وكنائسهم.

 وما سبق ذكره ليس إلا بقيل جدا، من أقوال وأفعال تدل قطعيا، أن الإسلام لم يجئ ليقتل أو يحرق، أو يدمر، بل جاء بالسماحة وبكل ما يثبت أنه أمر المسلمين بالتعايش السلمي مع الآخرين، لقد قالها القرآن صريحة قاطعة ” لكم دينكم ولي دين”، ولا حساب من إنسان لأخيه الإنسان، مهما كانت هوة الاختلاف فيما بينهم، فحساب البشر أختص الله به نفسه ” لست عليهم بمسيطر”  وعن  رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم :” ألا كلكم يدخل الجنة إلا من شرد على اللّه، كما يشرد البعير عن أهله” أخراجه الإمام أحمد. وقوله تعالى: “إن إلينا إيابهم” أي مرجعهم ومنقلبهم، ” ثم إن علينا حسابهم ” أي نحن نحاسبهم على أعمالهم ونجازيهم بها، إن خيراً فخير، وإن شراً فشرّ.

والتساؤل الذي يفرض نفسه الآن في هذا السياق، من أين أتت تلك الجماعات، جماعات الإرهاب والقتل والتدمير، بفتاوى تخولهم حق قتل أهل الذمة، من أين أتوا هؤلاء الذين يدلسون باسم الدين، ويسمحون بفعل ما حرمه النص القرآني، وما نفته السنة النبوية الشريفة، من قتل أي نفس دون وجه حق، وبالطبع دون أي وكالة ألاهية لهم بحساب الناس عما في قلوبهم ؟ !

بقلم الاديب : محسن الغمرى

شكرا للتعليق على الموضوع

أضف تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *