موت الصبية “قصة قصيرة”

ليس في موت الصبية إلا شرٌّ مطلق. كان رحيلها صاعقاً ومفجعاً إلى أبعد حد. في الغد كان يوم زفافها.

من يصدِّق! الفستان الأبيض مازال ينتظرها في غرفتها، مبسوطاً فوق سريرها ، متشوقاً لاحتضان جسدها الشفاف الذي ما لامس الخطيئة بعد. سيارة العرس ، الزهور المرسومة بألف لون وباقة، آلات التصوير ، الكاهن ، موسيقى الاحتفال، الصديقات ، الأهل ، والعريس ، كلهم كانوا بانتظارها لتعود من مشوارها القصير ، للاطمئنان على الترتيبات الأخيرة ليوم فرحها الكبير. لكنها لم تعد.

كان الزواج حلمها الأكبر، كما أي فتاة حول هذا العالم المشحون بالرغبة إلى الآخر. كل العيون كانت تناديها إلى أرض الحنان والرقة والحب الذي يشعل الكيان وحرائق الوله ، والشعور بطمأنينة القبول ” والسعادة الأبدية “.

ثم كانت عيونه ، محطة أخيرة في سفر البحث عن شريك القلب والروح، فاستراحت فيهما، وأسندت حياتها فوق كتفيه.

سريعاً كان قرار الزواج ، فالعواطف جرفت كل رغبة أخرى، ولم تُبقِ إلا على شوق الالتصاق والذوبان ، وشق دروب الحياة معاً حتى النفس الأخير. ولعلَّ تلك اللحظة التي قالت فيها ” نعم أريدك للأبد” ، أجمل لحظات حياتها، وأكثرها انغرازاً في شعورها. ارتسمت أمامها فجأة ، دروب مضيئة تلفحها شمس جديدة ، ولدت للمرة الأولى من عواطفهما ” التي لا مثيل لها فوق هذه الأرض” ، كما قالت له يوماً.

بدأت الخطط والتحضيرات، والتي هي لدى الكثيرين ، أجمل من الزواج بحدِّ ذاته. مرَّت أشهر متعبة ، ولذيذة ، شهدت ولادة مشروع المستقبل. فحضر بيت الأحلام والأثاث الذي تمَّ اختياره قطعة قطعة، بعناية وحب وذوق. ثم حضرت كل ترتيبات العرس والاحتفال، بشغف المهندس وهو يراقب عمارة خياله تنشأ وتعلو بأناقة وتفوق.

ثم كانت ليلة العرس وعجقة الأهل والإثارة التي تظلل أجواءهم وأحاديثهم، وتعب نهاية التحضيرات ، ومشوار الصبية السريع ، للاطمئنان على اللمسات الأخيرة… وتجمَّد الزمن عند هذا الحد.

فجأة انطفأت كلُّ الأضواء الملونة. ابتلعت الشمس خيوط الدفء والفرح والإثارة، وسقط منديل قاتم فوق هذا المشهد. سخافة قدر وعبثيته ، شاءتا أن تدهس سيارة مسرعة العروس المنتشية من رهبة الغد، وهي تعبر الطريق إلى بائع الزهور الذي كان سيرسم عرسها فوق قماشة الورد.

صرخت الأم من أعماقها المفجوعة :” أين أنت يا رب ؟ أيُّ جريمة ارتكبتها بحقنا ، وأنت الممسك بالموت والحياة ؟

لماذا كلُّ هذا الشر المطلق الذي عصف بنا ؟

لماذا ابنتي الوحيدة؟

لماذا في يوم عرسها؟

لماذا انتظرتَ حتى تفوَّقت في دراستها، ورسمت لمستقبلها أحلاماً بحجم ثقتها بك؟

لماذا تموت الورود قبل أن تسكب عطرها في الكون؟

لماذا تموت طفلتي في عز الفرح؟

لماذا يموت الأطفال والصبايا والعشاق؟

ألا تستحق عروسي يوم زفافها؟

أيُّ لعنة تسقطها على الأبناء في حضن ذويهم؟

أيُّ حجر أثقلت به عنقنا، ليرزح بنا تحت الحزن والألم طوال ما تبقى من هذه الحياة الناكرة ؟

لماذا هذا الشر الذي قهر كل الأحلام المشروعة بالفرح؟

رواية ” بنات خودا” جديد الكاتب سمير فرحات

كيف أتعزَّى يا الهي ؟ ومن تراه يعزيني، والقسوة جاءت منك ، أنت الذي كنا نتكل عليه لتظلل حياة العروسين بالمودة والحب؟”…

في لحظة الحادث الذي قضت فيه الصبية ، وقف رجل أربعيني مذهولاً أمام المشهد.حصل كل شيء أمام عينيه ، وكأنه كابوس لا بدَّ أن يتبدَّد لحظة يستفيق. جمد لوهلة في مكانه، معطَّل الحواس ، ومشلول الفكر والإرادة. ثم لمح نفسه يهرع باتجاه الجسد الممدَّد فوق الطريق ، الذي رسم بانحناءاته مشهد الهزالة البشرية المدقعة. مصدوماً عاين الدماء والأنين والعجز الذي صعق بلحظة واحدة هذه الحياة الشابة.

اقترب من جسد الفتاة المهشَّم ، منقطعاً عن كل الأحداث والانفعالات المحيطة به. لمح عينيها شبه المغلقتين ، وهما يحاولان عبثاً فتح نوافذ النور إلى الداخل. شعر أنها ما زالت حيَّة ، وفيها بعض الوعي. انحنى فوق وجهها ومسَّد شعرها برقة بالغة ، وثبت نظراته في عينيها، وسألها وقلبه ينعصر ألماً وخوفاً :

– ” لا تخافي ، هل تسمعينني؟ لا تخافي. سننقلك سريعاً إلى المستشفى. كل شيء سيكون على ما يرام. ما اسمك؟”.

حاولت جاهدة أن ترفع رأسها صوبه، وتقترب من وجهه . لمح شفتيها ترتجفان ، وهي تبذل جهداً فائقاً لتتكلم. شجعها بنظراته ، وهو يردد كآلة مسحوقة :” لا تخافي، كل شيء سيكون على ما يرام”. ومن أعماقها المطحونة بالضعف والوهن ، خرج ابتهال مخيف ومذعور:

– ” أريد أن أعيش . أريد أن أعيش. أريد أن أعيش”.

ولم يسمع منها الرجل غير تلك الكلمات المبتهلة. كانت كافية لتفجر في قلبه تياراً حارقاً. أشعل صدره وامتدَّ كتوتر كهربائي إلى كل أطرافه ، التي راحت ترتجف بشدة ، وبشدة ظاهر، ثم انغرز فجأة في عينيه، وفجر فيهما ينابيع دموعه التي تحولت جمراً فوق وجهه.

– ” يا الهي ، لا، لن تموتي. ستعيشين. لا تخافي. ستعيشين. المهم أن تخاطبيني. المهم ألا تغمضي عينيك. حاولي . لا تغمضي عينيك، خاطبيني”.

لكن الصبية كانت قد أغلقت عينيها، وانسحبت من أنفاسها غمامة شفافة سرعان ما راحت تسبح في أثير لا تراه العيون.

وحين بدأ المسعفون يرفعون الجسد المتلاشي ،تراجع الرجل الأربعيني صوب الرصيف ، تاركاً العيون المتحسِّرة والفضولية تحيط بصمت وجمود بمشهد الموت الصاعق، الذي كسر رتابة الشارع لدقائق قصيرة .

كان ابتهال الشابة ما زال يدوي في أذنيه وصدره. شعر بشيء غريب يطبق على أعماقه ، ويصدِّع جدران نفسه المكلومة. أيقن أن وجهته اليوم تغيّرت ، ودربه سيسير في اتجاه آخر.

” ماذا كنت فاعلاً؟” ، قال في نفسه بلوم وحسرة.” ماذا كنت فاعلاً اليوم لولا هذه الصبية التي ماتت بين يديَّ؟”.

كان الرجل يحتاج إلى هذا المشهد ليعيش.

كان يحتاج إلى ابتهال صبية على عتبة الموت، وهي تصرخ بعجز متضرِّعة الحياة ، لتضمها إليها.

كان يحتاج إلى معاينة حياة خائرة، لا تملك أن تنقذ نفسها من الأفول ، وترجو العون من قدر لامرئي يحوم في الظلمة الزاحفة إليها.

كان يحتاج إلى كل ذلك ، ليستفيق من الخدر الذي شلَّ رغبته بالبقاء على هذه الأرض الشرسة ، ودفعه إلى ضرب موعد مع الموت.

كان في طريقه إلى ” صخرة الموت ” حين حصل ما حصل .الصخرة الموشومة ببصمات اليائسين ، وهم يتسلقونها توقاً إلى الانتحار.

السَّر “قصة قصيرة”

كان يتمتم في أعماقه ” أريد أن أموت ” ، حين دهست سيارة القدر ، فرح صبية في عز نشوتها.

عاد إليه الندم ، ورغبة خفية بتحدي لعنات قدر لا يُهزم إلا بقدرة الحياة على تضميد جراحها ، والنهوض من جديد.

وقرّر الرجل الأربعيني أن ينهض ، ليبحث عن كل دموع الأرض ، ويحاول تجفيفها بيديه العاريتين.

… وفي مشهد آخر ، ظلَّ مكتوماً في صدر صاحبه ، عاد سائق سيارة الإسعاف التي نقلت جسد الفتاة المهشَّم إلى المستشفى ، إلى منـزله، وقرّر أن يعتذر لزوجته. كانت حياتهما الزوجية على شفير الانفصال، فاتخذ السائق قراراً سرِّياً في نفسه بأن يهجر زوجته، ويسعى إلى الطلاق. تتهمه بأنه لم يعترف مرَّة واحدة بأنه مخطئ ، ويتهمها بأنها لا تفهمه إطلاقاً.

ومن نسمة الموت التي هبَّت أمام عينيه ، سكنه يقين عميق بأن الحياة لا تستحق ألم التكبر والعناد والأنانية. فهي قصيرة إلى درجة أننا نحتاج إلى أن نظلَّ مغمورين بحنان كبير ، لنبدِّد بعضاً من مخاوفنا وخيباتنا. هذا الحنان لا يستقيه إلا من الآخر ، من زوجته حين تصفو روحه أمامها. وهي بحاجة إلى كل زفرة من حنانه لتعيش.

فقرَّر أن يعتذر ، ويبذل كل حنانه لها.

… وبعد ستة أشهر، حصل عرس آخر . تزوّج عريس الصبية التي ماتت من العشيقة التي أحبها طوال حياته ، وكان يضاجعها قبل يومين من عرسه الأول، لأنهما تعاهدا على البقاء معاً. كلاهما كان يعرف أن الزواج من الصبية كان من أجل مالها الكثير. ماتت وهي تجهل أن ” حبيبها” كان يمضي في مغامرة الجشع والخيانة.

ماتت وهي سعيدة ، كونها أكثر العاشقات فرحاً ، و” أجمل عروس على وجه الأرض” ، كما قالت أمها قبل مشوراها الأخير.

الكاتب والاديب سمير فرحات
الكاتب والاديب سمير فرحات

 اقرأ للكاتب : 

الصوت الآخر “قصة قصيرة”

شكرا للتعليق على الموضوع