الصوت الآخر “قصة قصيرة”

يحدثُ الأمر دائماً على هذا النحو.

أدخل الغرفة مساءً للصلاة، ثمَّ يبدأ كلُّ شيء بالانهيار. عقلي لا يتوقَّف عن العمل. هذه ليست المشكلة بحدِّ ذاتها، ولكن ما يدور فيه يكاد يُفقدني صوابي.

أصلِّي منذ طفولتي بهدوء معقول. شكوك وأسئلة تقتحم المشهد باستمرار، لكنَّني أواظب في الإيمان. وفي الحقيقة لم أجد له بديلاً، لا الإلحاد، ولا العلم، ولا كلُّ الطرق البديلة للغوص في الذات والعثور على الحقيقة في أعماقها.

لكنَّ الأسئلة اليوم باتت أكثر إلحاحاً وساديَّة في مطاردتي.

عادةً ما أشكر الله في كلِّ صلاة. الشكر والامتنان أمران جميلان في الحياة، نفتقدهما غالباً في احتدام العلاقات وهستيرية المواقف.

-” أشكرك إلهي على هذا النهار، بكل خبراته.

أشكرك على غذاء الجسد الذي أكرمتني به، وبيتي، وعائلتي، وصحتي، و…. “

عندها أسمع الصوت الآخر يكتسح ذهني كعاصفة استوائية مكبوتة .

-” تشكره على الغذاء، ولكن هل يستطيع الأطفال الذين يموتون جوعاً فعل الشيء نفسه؟

هل هو من ساعدك على تأمين الغذاء؟ حسناً! فلماذا لم يساعد هؤلاء الأطفال، أو من يبحثون دون جدوى عن عمل ؟

أو ربما هو لم يساعدك ؟!

إذا كنت تشكره على الصحة، فهو إذاً من بعثر خلايا المرضى وجعلها تصاب بالسرطان ! وإذا لم يكن هو، فصحتك ايضاً ليست منه.

تشكره على … “

أحاول إسكات الصوت بمزيد من الصلاة. أشدُّ عينيَّ حتى أخال أنهما لن يفتحا من جديد.

-” أشكرك على الذكاء الذي زرعته فيَّ…”

-” هل تقصد أنه هو من زرع الغباء في الآخرين، والعته في المعتوهين؟ “.

-” أشكرك لأنك فتحت قلبي على الإيمان بك… “

-” وأبناء الصين الذين لم يسمعوا به حتى، ما هو ذنبهم؟ لم يولدوا على دينك، وهو من خلقهم، وبعضهم حتى لا يعرف بوجودك، وليس لديه أيُّ مفهوم مماثل عن الله. أين هو موقعهم فوق خريطة الايمان؟”.

-” أشكرك على عودتي سالماً إلى عائلتي وأطفالي…”.

-” وما ذنب مئة ألف انسان طمرهم الزلزال ليلة أمس؟ هل تخَّلى الله عنهم وأحبك أنت فقط؟ لماذا نجا من نجا ومات من مات؟ في الزلزال والفيضان وانهيار برجي التجارة في نيويورك؟”.

-” أشكرك لعنايتك بي…”

-” هيه! انتبه ! أنت تتَّهم الله بعدم العناية بعامل البناء الذي سقط من الطابق السابع، وخلَّف وراءه سبعة أيتام.

وإذا كنت ستردُّ بأنه ربما ليس مؤمناً أو مصلياً، فهذا يعني أنك قد ترمي طفلك تحت عجلات القطار لمجرد أنه عصاك”.

-” ساظلُّ أؤمن بك وسط كلِّ الأمواج، والأحداث التي لا أفهمها، والنجاحات التي ألقاها، والفشل والإحباط والتعب وإغراءات الحياة…”

-” وهل كنت تعبِّر عن ايمانك به حين خنت زوجتك مئات المرات؟

وحين صادفت صباح أمس ذلك المسن المتَّسخ، ومدَّ يده لتتوقَّف وتقله إلى مقصده، فخفت أن تفوح رائحة عجزه في سيارتك، هل كنت منشغلاً بالصلاة؟

وحين تهتم بالطعام أكثر من التأمل بالطبيعة، وتمضي أكثر من 12 ساعة للعثور على حذاء يثير إعجابك ولا تهب عشر دقائق من وقتك لعجوز يحتاج إلى مساعدتك، وقد يكون والدك حتى، هل تعيش بذلك ايمانك وسط الأمواج؟”.

… يحدث هذا الآن وباستمرار، وأنا مغلق العينين. وحتى حين أسمع صديقي يقول:”ما أروع نعم الله الكثيرة في حياتي!”، يقفز عقلي سريعاً إلى المهمَّشين، ومن دفعتها الظروف إلى البغاء، ومن وُلد بلا أطراف، ومن مات طفلاً بالسرطان. وأتساءل عمَّا إذا كانوا يعانون من التمييز في توزيع النِعم.

أم أنني أحلِّل الأمور بشكل خاطىء ؟

أم أنني غير مؤمن وأدَّعي الإيمان؟

أم أنَّ الله عصي على الفهم؟

أم أنَّ هناك شيئاً أفضل بانتظاري؟

أم أنَّ عليَّ أن أواظب على الصلاة فعلاً وسط كلِّ الأمواج؟

أفتح عينيَّ في الختام وأقول : ” آمين “.

يهرع إليَّ أولادي لتقبيلي.

-” صلاة رائعة يا أبي ! ليتنا نصلي مثلك بهذه الحرارة”.

-” الحمد لله “، أقول لهم.

أشكرهم وأبتسم.

الكاتب والاديب سمير فرحات
الكاتب والاديب سمير فرحات

اقرأ للكاتب : 

السَّر “قصة قصيرة”

 

شكرا للتعليق على الموضوع