مصطفى جودة يكتب : مفهوم الحزن “عزاء عمر رائد”

هو أن يصيبك ، بلا توقع ألم لا قبل لك به.

يعادل إصابتك بقطار سريع دون أن تموت منه.

ترى أشلاءك الممزقة ، تراك تنزف ، وتحس كل الجراح.

عندما أذهب الى عزاء رجل فقد إبنه ، وأحس جزءآ من نبضه ، يرتسم فى مخيلتى ، نوعا من حجم ألم ذلك الإنسان.

الدموع متحجرة فى مقلتيه ، والبصر زائغ ، وقلبه مكسور ، ومطحون ألف قطعه .

وروحه كأنها خرق قديمة ، بالية.

نعم جسده سليم ، ولكنه فقد نفسه ، كل خلية فيه تنتحب ، ويتمنى موته.

إنه رجل دفن إبنه ، بلاء لا أحد قدره ، حكمة الله فى خلقه ، اللهم رحمتك ، التى وسعت كل شىء أبدعته.

لا شك عندى ، أنك ستدخل هذا الرجل جنة ، وستصب عليه سكينة ، لأنك من بين كثيرين إصطفيته ، وفى ضناه فتته.

حتى الذكريات ، لا يحسها هذا الرجل فى هذه اللحظة.

سيحسها بعد أيام ، وسيبكى كرضيع فى خلوته ، وسيموت ألف موتة ، وستعصره الآلام ، وكفرائس ستصطاده.

اللهم أفرغ عليه صبرا ورحمة ، وصب عليه سكينتك وداوى جراحه ، وألزمه كلمة التقوى ، وأجعله أحق بها وأهلها.

لم يعد يهتم بشىء .

لا يدرى شيئا رغم أنه يتقبل عزاء إبنه .

مؤمن صابر على البلاء ، راض بحكمك بالقضاء ، أحد الذين وصفهم رب الارض ورب السماء: “والصابرين فى البأساء والضراء” يتحدث بلسان غير لسانه .

يجامل أحيانا ، ويهزي ، وكأنه مبنج ، تجرى عليه جراحة دقيقة ، رهيبة.

سيفيق منها ويتحسس جراحه. ستمكث معه آثارها الى الأبد. لن يستمتع بالحياة بعدها أبدا.

منذ سنوات طويلة مرض أخى الأكبر ، واستدعى الأمر ، ضرورة الذهاب به للقاهرة ، وتم إختيارى لإصحبه فى الرحلة . فى طريقنا للقطار وفى مطلع الفجر ، لمحت دموع أبى الذى كان يوصلنا.

كان يبكى فى صمت كرضيع فقد أمه ، لأنه عار أن يبكى الرجال فى الصعيد ، مثله .

لاحظ أني لمحته ، فكشر غاضبا لدرجة أرعبتنى منه ، وكأنى كشفته .

رغم السنون الطويلة ، لم تغب عن مخيلتى تلك الدموع الغزيرة .

مات بعدها أخى ، وكان أبى يبكيه كل ليلة ، فى ظلمات ليل الصعيد الغامضة .

كنت وكأنى كبحث علمى أدرسه . كنت أتوخى الحذر كى لا يرانى ، مثلما رآنى فى رحلة مرضه.

ظل أبى هكذا حتى مات حزنا وكمدا على إبنه . أما أمى فحدث ولا حرج.

لم تبتسم بعد محمود أبدا ، ففقدت بصرها ، وعاشت راضية حتى وريت التراب بعده.

تذكرت هذا بالأمس وأنا أعزى رجلا فقد إبنه.

كان صامدا ، ولكنى عندما إحتضنته ، أحسست بأن كل خلية فى الرجل تهتز ، وأن كل ذرة ، بكيانه تتفكك ، لتطلق ، للحزن قنابل ذرية ، اللهم لا تفتنا بعده ، ولا تحرمنا أجره ، وأرزقه شهادة خيرا من شهادته ، التى كان منها على مقربة ، كان ساهرا ، يدرس لمشروع تخرجه ، حتى الرابعة.

هذا بحر حزن ، هذا محيط دم ، هذا فوق الطاقة ، فوق التحمل ، إنه إختبار لا تطيقه نفس ، إنه إعصار ، إنه دمار ، إنه بركان ذا إنفجار ، رحمتك ياجبار ، مغفرتك يا غفار ، معذرتك ، ياعالم الأسرار ، من أجل هذا ، تحرم ، على رجل مثل هذا النار ، اللهم نجنا من مثل هذا الإختبار .

بقلم : أ . د : مصطفى جودة

رئيس الجامعة البريطانية بالقاهرة – سابقا .

نشر بجريدة “التلغراف” فى 30 – 8 – 2014 م

اقرأ للكاتب

مصطفى جودة يكتب : بوست ” #دينى_يامرنى_ان_اكون_كريما “

شكرا للتعليق على الموضوع