الصورة في الشعر والفن التشكيل (2)

تقرير بقلم الدكتور : رمضان الحضري

عشت طوال العمر أحلم حلمين لم يتحقق كلاهما أو أحدهما ، الحلم الأول أن أجد من يفسر القرآن والسنة تفسيراً دلالياً ذا بعد اجتماعي ونفسي مرتبطا بأسباب النزول وزمن التفسير الحالي ، والحلم الثاني أن أجد من يبني النقد الأدبي على ثورة العميد طه حسين ، فعلى الرغم من اجتهادات طلابه العظيمة كسهير القلماوي ومحمد مندور ولويس عوض وعبدالمنعم تليمة ، إلا أنهم جميعا ركنوا إلى البناء على العلم ولم ينتبهوا إلى الثورة لبناء جديد على العلم القديم .

وقامت المدرسة المناهضة لعلوم العميد على يد بعض من حصلوا على درجات الدكتوراة تحت اسم أدب العميد ، وسيطر هؤلاء على الثقافة العربية وعلى الفكر العربي لفترة طويلة وحتى هذه اللحظة التي أكتب فيها مقالتي .

وقد يتحقق حلم بناء بيت أسهل من حلم بناء جملة تستمر بأذهان الناس ، وهذا سر من أسرار لا يحصيها إلا الله في جماليات لغة القرآن المجيد ، فكم بيت في الأرض بني لأجل القرآن ، ولكن القرآن لم ينزل لأجل بيت واحد في الكون .

كان بودي أن أبسط الكلام في الصورة الذهنية والصورة العينية ،خاصة أن من تحدثوا عن الصورة في الغرب والشرق رأوا أن الصورة الشعرية الذهنية يصيبها كثير من الغموض ، وهؤلاء أمثال ييتس ورينيه وجنيت من الغرب وصلاح فضل وجابر عصفور وشاكر عبدالحميد من الشرق ، وهم معذورون في هذا التصور لأنهم يريدون صورة من اللغة وليست صورة مرتبطة بالواقع المعيش ، فتفسير الصورة لغويا لايمكن أن يكون واضحا بالفعل ، بينما تفسير الصورة بارتباطها بالواقع الطبيعي للحياة فستكون الصورة الشعرية الذهنية شأنها شأن الصورة التشكيلية المرئية .

وربما هذه النقطة التي دفعتني لكتابة هذه المقالة منذ البداية ، أن معظم النقاد في الشرق والغرب يرون أن الصورة الشعرية يكتنفها الغموض الدائم ، والحقيقة أنهم يفسرون اللغة ولايفسرون الصورة ، فقراءة الصورة المرئية تكون كذلك قراءة ذهنية ، وقراءة الصورة الشعرية تكون رسما لصورة ذهنية .

هذا بالإضافة إلى أن البلاغة العربية وضعت الصورة الشعرية في باب البيان ، وتعامل النقاد على مر العصور مع البيان بصفته بيانا لغويا ، ولا يرتبط بالواقع الطبيعي ففات البلاغة العربية الكثير بسبب هذا الفهم ، فلفظة البيان نفسها تحمل دلالات ذهنية وعينية وشعورية وإدراكية وكشفية ، فحينما أقول :( بينت الصورة للمشاهد ) ، فهذه الصورة تحتمل أن تكون حادثة حقيقية كأن تحدثه عما جرى في الوطن اليوم ، أو تكون لوحة تشكيلية وكشفت عنها الغطاء أو قراتها له بخصوصية منك ، أو صورة شعرية شرحتها لسامعك .

وحتى لا يطول الحديث ننتقل إلى النص الثاني الذي أقدمه نموذجا للصورة الشعرية فهو للشاعر والكاتب الدكتور / أسامة أبوطالب بعنوان (عشاء الشاعر الأخير) ، والتي يهديها لروح صديقه شاعر العرب الكبير / صلاح عبدالصبور ، ويعلن الشاعر أنها كتبها بعد وفاة صلاح عبدالصبور بساعتين ، والتي يقول فيها :

10

هذا اليوم المشئوم ُ

هو اليوم الرابع عشرْ

من أيام السنة المشئومة ِ

تطلع فيه الشمس بجمرتها اليومية حبلى بالمعتاد وباللآمعتاد تقول

يا قاهرة ُإليك طعامَ اليوم ِ ،

غذاءَك من خبز الضجة ِ،

حصة َعرباتك من لحم المارة ِ

مشربها من دم ّ المقتولين

هواءك محترقا في رئة النفط ِ

فاروي ظمأ الأرصفة بخمر العرق المالح ؛

نزّي ثرثرة الليل وعومي في حمم الأسفلت ِ

، افترسي وجبتك المعتادة من أحلام الفقر

سارت حتى اتخذت مجلسها المعتادَ ؛

ومن بين أصابعها ألقت حصة هذا اليوم من الضحكات، وقالت :

أعلو فوق سماءك يا قاهرة ُ

وأدلق آنية النار الصيفية وأكبل أفراس الريح ْ

أدخل في شريان النهر فيغلي حتى ترتعشي أنت ِ من الحمى ؛

يتفصد جسدك عرقا ؛

تتسلخ أعضاؤك ؛

وتلين الأطراف من الرجفة نامي

ترتد إليك بكارتك

طهارتك الأولى وترقين فلا يخطر فوق أديمك غير اللص

وغير العاشق والشرطي ّ

ومن يجتمعون على دم ّ الشاعر

قالوا : ” مدّوا المائدة الليلية َفهو يحب السمر

ويأتنس بثرثرة الليل الناعم

ومنادمة الخلان

واروا عن عينيه التابوت الذهبي ، وجروه

بخيط الجدل الساحر

ثم اتخذوا سمت الندمان وقولوا أطربنا ؛

أنت طروب تشجيك الألحان .

أطربنا ؛

فانساب الصوت الطيب قال :

أغني لمدينتنا

وبلغتي أدعو من يعشقها أن يطرب ويغني

وينادم يا ليل

أحبك

أيقظ أهلي لأراقصهم

قالوا : – علمنا

قال أعلّمكم أن العاشق لا يكره أبدا

أن القلب إذا أسكره الحب تمايل ْ

وإذا عذّبه الصدّ بكى

لكن أبدا لا يكره

أن المعشوقة لو تجفو

فعلى العاشق أن يدنوَ

وإذا ملّت فليتقرب أكثر

أن العشق دوام الصحبة

أرض العاشق بستان

فيه الزهرة ، والشوك ، وفيه الثمر الناضج والفاكهة الفجّة

أبدا لا نتخير من نعشقهم

بل تخرج من ضلع العاشق معشوقتهُ

في أرض المعشوقة تخضر جذور العاشق.

قالوا : – باركنا نحن حواريوك إليك أتينا من غربتنا

ألقتنا سنوات النأي على شطك .

قال : يصيح الديك ، وقبل صياح الديك تضيقون بأغنيتي

يسلمني الكره الكامن في الأفئدة إلى السياف

قالوا :  أطعمنا

قال :  دمائي تروي النار المخبوءة

لحمي بين أظافركم

إني أكشف صدري

من يطعنني ، تحمل صورته الصحف السيارة ِ

يصبح ثرثرة الحانات ويركب عربات الشهرة ِ

لكن أبدا لن يسرق من بين ضلوعي سر النغم ِ

ولن يخطف من بين عيوني ألق العاشق ِ

أو يسلبني أحلام الشعراء

قالوا :  نحرق أشعارك في طقس الكره ِ

لماذا ننعق نحن وأنت تغني !؟

قال :  لأن الأرض تعلمني أن البذرة تضحك للمحراث إذا عانقها .

أن الثمرة َ

تسقط في حجر الطفل إذا اشتاقت أن يطعم منها

أن ورود الشفة العطشى للماء يروّي ظمأ الماء

يا وطني أهواك ولو عذبني عشقك

مبتدأ الرحلة أنت نهايتها

أسكن في صدرك

باركني حيث أموت وثبتني سطرا في أغنيتك

واصنع خاتمتي أنت لترثيني لا أرثيك

تمّت أغنية الشاعر

فاندق الخنجر في الظهر وقرّت ما بين الكتفين الطعنه

نظر إليهم ،

قالوا: قتلتك الكلمات تساءل من يحملها بعدي ؟

يا أهل مدينتنا انفجروا أو موتوا رعب

أكبر من هذا سوف يجيئ

سكتوا وانتظروا حتى جاء الرعب

فما انفجروا أو ماتوا

لكن الشاعر مات

مات

فهل تحيي الموتى كلمات؟

والصورة الشعرية في نص أسامة أبو طالب متسعة للغاية في المساحة ، وكثيرة للغاية في ألوان الحزن والخوف ، وخشنة الملس مما يجعلها صورة لامعة جدا ، لا أدري حتى الآن لماذا لايحدث هذا إلا في الوطن العربي ، يهتمون بلون عيون الشاعر لا بالشعر ، يهتمون كيف يبدو رباط العنق ولون الأزارار بقميصه

ولا يهتمون بالكلمات ، فلماذا يهتمون بأشجار الزينة ولا يهتمون بالشجر المثمر خيرا وزينة وعطرا .

أمس كنت بين يدي شاعر الجزيرة السعودي / أحمد آل مجثل المبدع العجيب ، واليوم في ظل شجرة وارفة الثمار والظلال والشذا.

أجهشني بكاءً في الرثاء ، وملأني سخطا حين هجا ، الشاعر الدكتور / أسامة أبو النجا ، نص لكل صلاح عبدالصبور في الوطن العربي حيا وشهيدا ، نص لكل صلاح عبدالصبور تأمر عليه المغرضون فضيعوا شعره أو إبداعه عمدا ، فمات ولم يستطع ردا ، التفعيلة البسيطة فعلن أو فاعل أو فاعلن جاءت كالسكين تقطع في قلب المتلقي ، أو دفعات رصاص لاتعرف هدنة ، بيد أن الصورة في هذا النص غريبة ومهيبة ، فالصورة متراكبة لغويا ودراميا وسينمائيا وسردا وتشكيلا ، مما جعل الصورة في النص تحتاج أن أقف بين يديها طويلا طويلا ، فحوار الشمس للقاهرة تأنيب أو توبيخ ، وهي صورة سينمائية مفعمة بالترهيب من القادم والناتج من أفعال القاهرة بمن عشق القاهرة .

وحوار الشاعر قبل الموت مع جلسائه حوارا مسرحيا يعلن أن الشر أصبح قوة تسلب الخير الحياة والإبداع والإنجاب ، وصورة الأرصفة والسيارات والطعام والمارة والدماء والرشح والتسريب وخمر العرق المالح والكلام الليلي الكثير بلا جدوى ودلق أواني النار وربط جياد الريح وغليان النهر وإصابة المدينة بالحمى ورعشتها وتسلخ أعضائها ، والحلم بعودة البكارة والطهارة لمنع اللصوص الذين يقتلون الشعراء ، هذه كلها صور مرئية عينية تجعل من الصورة الذهنية متخيلا واقعيا ، قابلا للإضافة والحذف والتقديم والتأخير وتغيير الأماكن عموديا وأفقيا .

احفظوا هذه الكلمات عن الشاعر المبهر أسامة أبو طالب :

لماذا ننعق نحن وأنت تغني !؟

قال : لأن الأرض تعلمني أن البذرة تضحك

للمحراث إذا عانقها

أن الثمرة َ

تسقط في حجر الطفل إذا اشتاقت

أن يطعم منها

أن ورود الشفة العطشى للماءِ

يروّي ظمأ الماء

يا وطني أهواك ولو عذبني عشقك

مبتدأ الرحلة أنت نهايتها

أسكن في صدرك

كل قول لي بعد هذا القول سوف يحترق

********

أما النص الثالث للشاعر العربي العراقي / عباس شكر

فهو يقول فيه:

نغمةً قد خلتُ أعزفها

وترٌ ينساب من وتدِ

أطربتْ بالوهم سامعها

من رموشٍ غيّرت جلَدي

أنكرتني… ليت زنبقتي

من مياه الثلج والبرَدِ

هل نسيتِ النار من شفتي؟

لانطفاء النار بالكبد

تهتِ بين الضمّ والعقدِ

هل اُصبتِ اليوم بالحسدِ؟

أيّ فكرٍ جئتِ .. غبتِ به

من غباء الهجرِ..فابتعدي

10-1

هذا نص من النصوص الجديدة لعميد الشعراء العرب المفكر والمهندس / عباس شكر، ستة أبيات فقط وصورة ممتدة تحتاج لوحة بمساحة الوطن ، ولأن هذه الصورة تختلف في نوعها وملمسها عن الصورة السابقة فلربما أحدثت قلقا لو فسرتها الآن ، فلتكن هذه الصورة في اللقاء القادم بإذن الله تعالى.

اقرأ ايضا

الصورة بين الشعر والفن التشكيلي

شكرا للتعليق على الموضوع