خفقات فــي صــدري…”قصــة” الجزء الثاني
اقرأ الجزء الأول
تأليف : نادية حلمي
شامخ حفيدي.. ما تبقى من عطر الزمن السالف .. أتأمله ودمع في قلبه يصبغ الوجه بالاحمرار .. أعود وأنظر لها .. أجد في عينيها دمع سجين، بالأهداب السمراء متواريا عن اليتيم وإلاّ أنهار الصغير بجوارها.. ثم أعود وأتامله.. أجده يرمق جدته بطرف عينه وارادة المتحدى تتصدى للضعف والضعف يحاول هزيمته جاهدا بالبكاء وبقوة المصارع العنيد يقهر في العين دمعة.. دمعة شديدة العناد تجول والأهداب تبعثرها لتوارى لحظة ضعف خانته وقهرت شجاعته.. لحظتها رأيت الشمس تغرب في وضح نهارها والسماء توارى لمعان زرقتها الساحرة خلف سُحب داكنة فتبدو عليها قتامه الغيوم السائرة بالأمطار .. كل منهما السماء والأرض تأثرا بسحيق حزنه .. كما تأثرت بهما تأثيراً مباشرا .. ووريت ذلك.. حبست خلف الجفن دمعي..
ترفع الجدة للسماء عينيها وبأمل يمنحني المانح عمرا أراعيه ويشتد العود الأخضر يصبح وتد يتفرع منه فروعا لتبقى ذكرى الأبطال في الأذهان باقية وعلى صفحات التاريخ مكتوبة وإلاّ تبددت مجهودات الأعوام هدراً دون امتداد وأسألها نادمة:
بم ألم بكـ بجرار الحرب ؟
تنظر لشامخ حفيدها مستطردة.. طالما الرأس شامخة فالشهداء فى القلوب أحياء .. من ردُّوا اعتبارنا وجعلوا فى الكون الواسع الأطراف للإِسم بريق كنُجُومِ السماء.
فليكن شامخ وتدُّ بين الأوتاد جَدِيُر بالوطن ينول من العظمة نصيبا . في دمه شجاعة الأب وتحدى العم بالعدو وحكمه الجد وَجَلَدِى..
إرتباطه بالأرض أصبح وثيقاً.. امتزجت دماء الجذور برمالها وشعر كل منهما بالآخر.. شامخ اليوم جزء لا يتجزء منها .. أصبح الإثنان شديداً الوثاق .. تمسك الجدة.. حفنة من تراب أرض بورسعيد مسترسلة والكلام يتحشرج في صدرها .. هنا تدفقت دماء أبنى الأكبر .. وعلى أرض سيناء دماء الابن الثاني وفجأة يتدفق بركان الألم الحبيس فى الصدر ممزوج بالدمع الساخن الخارج من سحيق الأعماق وبصدق شديد يبلل صدر الثوب الأسود وعين الطفل تراقب دمعها بكبرياء الشامخ يسجن دمعه.. أنبهر به .. صامد صمود الرجال إزاء الموقف المؤثر .. ونار حنينها تخنق أنفاسها .. ثم ابتسامة باهتة توارى بها مكنونات صدرها المتأججة نارا ومعها التقط حبات الحلوى من فوق الأرض وبالفاعل يجيش صدري غضبا..
تتنهد الجدة بحصرة المجروح قائله : – آه لو يعلم من فعل ذلك .. كم أذى بفعلته مشاعر اليتيم .. ما كان قد فعل .. لو يعلم كم عانيت وبالحرمان أدخرت المال القليل لأرى في عين اليتيم بصيص أمل .. أرى على وجهه الحزين أشراقا يشرح سرير قلبي..
لكان تردد مرات .. رحلوا رجال حياتي وتركوا اليتيم حملا أثقل مما تحتمل الصحة وبقدر ذلك الحمل حنان ثم حنان حتى لا يشعر أنه افتقد أغلى ما كان لديه.
ولكن أخشى أن الباقي من العمر لا يصنع رجلا وتقتلعه ريح العود قبل ما يشتد أنني لا أملك حيوية الصغيرات من الأمهات ولا صبرهن ما سلف من العمر التهم سعة الصدر وتهدجت الأنفاس .. خارت الصحة واشتد ضعفها .. اجتاح رحيل رجال حياتي.. كل حلوا.. تصمت الجدة شمس الأصيل وقلبي يخفق بها..
لقد خالجتنى بإحساس لم يخالجنى من قبل .. راودتني بحقيقة تائهة عنى.. مصريتي .. ليس اسما أو لقب بل عطاء وتضحيات.. هناك واجبات وأساسيات وإحساسات بالوطن صادقة أصابتني حرارة أنفاسها بالعدوى.. شعرت بذاتي.. بوطني .. وطن لا يساويه وطن في الكون .. دفعتني لسحيق الكلمة.. ادخلتنى لمعنى الوطنية.. أحسستها ولأول مرة أراها.. صالحتني على النفس .. شمس الأصيل ردتني إلى صوابي…
طفا ما هو جميل إلى السطح .. أيقظت احساسى بوطنيتى متواريا كان في المكان البعيد من النفس.. طوانى حماس بها لا أعرفها ولكنى عليها تعرفت.. من خلال الصوت الصادق النابع من القلب .. أننا لسنا جميعا نعيش في عالم الرخاء والسكينة.. هناك عالم آخر يتصبب عرقا ومعاناة. الجدة تتحدث والدموع تسبق كلماتها..
تتحدث وعرق المعاناة يبلل محياها وفوق ثنايا السنون يمكث متراكما.. حين رأيتها ساورتنى بأحساس كما لو من زمن بعيد اعرفها ولكن كيف وعمرى لا يتجاوز الرابعة والعشرون.. وهى تبدوا فوق الستون بكثير وبصمات الأعوام على الوجه سحيقة.
من كانت فى شبابها جميلة ذلك يبدو فى ملامحها.. يقال عطر الورود يبقى حتى لو بالجفاف ذبلت الأوراق.. فقد التهمت الشيخوخة نضارة الوجه وإنما لا تبدل الأسارير كثيراً.
قليلاً من العبوس حول العينين الساحرتين .. لقد تعَلَّمت منها ما لم أتعلمه من غيرها عرفت كيف أكون مصرية.. انتماء وصدق وإحساس وعطاء..
تتحدث الجدة وابتسامة لم تبرح ثغرها.. تبتسم والقلب غائرا في خضم اللطمات تلتقط بأنامل رشيقة ما قد ادخرته بشقا العمل البسيط لترى في عيني اليتيم إشراق المستقبل..
تعود الجدة بقول أخفق قلبي.. اتاكى اليوم .. تنحنين للظروف يا شمس .. اتاكى اليوم تذرفين باليتيم الدمع. كثير على نفس عاشت معززة وسط رجالها.. لا تجد في شيخوختها ساند يساندها عند الأحتياج..
سرقت الحرب راحتي ويتمت الصغير.. كم من الأطفال سرقت الحروب عالمهم ويتمتهم وشردتهم.. كم من الأمهات قست عليهن وشردتهن.. كم من الشيوخ حرموا نعمة الراحة.. كم من رضيع حرم من حنان الأم .. تتأمل حفيدها شامخ قائلة:
حظه أحسن حالا من غيره وجودي قد يعوضه شيئاً من الحنان ورغم ذلك تفتقد نفسه الأمان.. في قلبه مرارة .. شعور بالغربة .. إحساس بالخوف.. قالها ومزق بها قلبي اقترب من حبال الموت وأخشى ما أخشى حدوثه.. ماذا سيفعل وحيدا وسط عالم كبير تتحدث وعيناي على وجهها أتأملها وأسأل نفسي هل أكون في حكمتها يوما ؟ وعظمتها؟
أم ستتركني الأعوام ماضية دون بصمة فعالة وفى المرأة انظر فلا أجد سوى خيوط الزمن .. بصمات وخطوط تشبه نسيج العناكب متشابكة.. كل خيط متلحم بالآخر على الوجه.
وتنهض الجدة وزفيرا سحيقا يخرج من أعماق أعماقها بعد أن جمعن حبات الحلوى ووضعن الأشياء في حقيبتها الصغيرة وبأناملى أداعب خصلاته الحرير.. الطفل الصامد أمام الظروف .. قد يبالى بطفولته ولكنى لم أحرك ساكنا في صدره كما لو من عجوزا أمامي جرف الزمن أحلامه ساعة غضب .. حزينا وعلى الحزن أغلق باب الحياة.. أفكر في شيء ما به أسعده .. اسأل نفسي.. هل المال ؟ ومن حقيبتي بإحساس جياش بالعطاء اسحب مندفعة مبلغ لا بأس به وأمد له يدي.. يتأملني الطفل طويلا ثم يستدير بوجهه.. قلت ربما ينتظر الأذن من جدته.. وأذ بها ترميني بنظرة شديدة اللهجة يعتريها غضب .. تخجلني من نفسي .. أوجس بضآلة التصرف وكبر حجمها..
كم هما عزيزا النفس .. شامخا العنق .. أبيا وفى نفسيهما كبرياء المصريون.. ثم بأدب بالغ قالت .. أشكرك يا أبنتي.. طالما في النظر باقي شيئاً يرى ثقب الأبرة وحياكة ملبس الفقير بالمال القليل.. للقمة العيش نعمة واندفع بقولي وأسالها.. أذن ليس بالمال غنى النفس؟
تقاطعني .. بل بقناعة النفس .. وبأيمانها.. بما هو واجب عليها..
تستطرد في حديثها قائلة هناك قول : – كم يحتاج الإنسان ليشعر بالثراء ؟
وأنى أقول له كم يحتاج الإنسان ليشعر بالأمان؟
وذلك كان درس آخر لا يشترى بالمال .. رفضت رغم احتياجها الشديد للمال الإنسانة التي هزمتها الشيخوخة في صحتها لن تهزم مبادئها وأتأسف..
كان تصرفا غير حكيما منى حين سمعتها تنُوح أشيائها كنت في دورة المياه ابلل وجهي بالماء في نهاية يوم شاق لعل وعسى يزول صداع الرأس.. فقد انتابني عند قيام الأتوبيس في الصباح الباكر من القاهرة إلى بورسعيد وذلك كان في النصف الأول من أغسطس 1976.
كان يوما حار شديد الرطوبة .. النوافذ مغلقة وهواء التدخين تصاعد وملء الأتوبيس أختنقت بالصدر زفيراتى وتصاعدت الآم الرأس ما جعل زوجي يفتح النافذة المجاورة ليتسرب هواء الدخان وليس بحثا عن نسمات هواء ساخنة.. ثم يغلقها من كان يجلس خلفنا ويتكرر المشهد مرات .. زوجي يفتح النافذة والآخر يغلقها .. يثير ضيقي ورغبة في الصباح تعتريني به .. أندم.. زوجي وأطفالي راغبين الرحلة واحترمت رغبتهم قد ذلك يسعدهم.. برهات .. وصوت عريض النبرات جش قريب من صوت الأسود يقتحم خضم الضجيج بالغناء المنفر .. صوته فاق كل الأصوات.. آثار فزعي وصغاري معا..
تابعونـــــــــــــا …. الجزء الثالث
اقرأ للأديبة
نادية حلمى تكتب: نداء الى السماء