معين شلولة يكتب: المحبة التي هي ثقة ما

الشخص الذي تحترمه وتحبه بعمق.. حين يغضبك أو يجرحك.. فليس  أمامك إلا أن تبدي عتبك عليه أو أمَلَكَ فيه.. أما أن تخربشه أو “تتعربشه” فهذا حمق وغباء يعبر في أحد أوجهه عن معاناتك اللاواعية من أنانية مفرطة ونرجسية مرضية أو شعور دفين بالاضطهاد منك فيك وبعيدا عن الموقف كله.. الحياة فيها مناطق وعلاقات يجب أن تكون آمنةً للأبد رغم أنفك وأنف شياطينك، إذ لا ينفع أن نتقاتل مع الجميع ..¡

وكنتيجة “نيجاتيف” لذلك.. فإن من تتقاتل معه بشدة.. فقد يعني قتالك له أنك لا تحبه ولا تحترمه؛ مهما كانت تفاصيل ما قبل القتال سليمة أو توحي بالطبيعية المخادعة.. ولا هو أيضا يحبك أو يحترمك.. نعم فالتقاتل لا يحدث إلا بين خصمين .. لا بين حبيبين أو صديقين أو أب وابنه أو شقيق وشقيقه مثلا أو بينك وبين من تحب.. أعرف ما اختمر في ذهن من يقرأني الآن وهو يبتسم بتعجب متسائلا.. ما الذي نراه ونسمعه إذن عن مشكلات تملأ المجرة بين جميع من ذكرتهم للتو .. فنحن البشر منا من وصل به حد الخصومة مع أبيه أو أمه أو أخيه لدرجة القتل هذا عوضا عن النفي والطرد والتبرؤ.. حسنا.. لن أجيب على ذلك.. لأن الخصومة التي تتحدثون عنها هي في حد ذاتها رواية أخرى.. مختلفة جذريا عن المحبة والود.. وما دمتم تقولون “خصومة” فإن لهذه المفردة سياقاتها التي تنعجن فيها المتغيرات وتتبلور وتُفْرَزُ على نحو آخر .

ذات مرة أخذ أو استغرق أحدهم قرابة خمسة عشر عاما قبل أن يقرر أن يقاتل من عاش معه وحوله صديقا.. ذات مرة أخرى استغرق أحد آخر عشرين عاما قبل أن ينقلب على إحدى مجموعات تنشئته الإجتماعية التي طالما أحس بالدرن في علاقاته بها .. مثل هذا الكلام معقول للغاية.. فنحن في علاقاتنا الطيبة لسنا مدفوعين للصدام أو التقاتل ضمن ميولنا السلوكية والإجتماعية الطبيعية، لسنا مشدودين من شعر رؤوسنا للإشتباكات البينية والصراعات والتحاقد والتحاسد..

 كما أن لكل منا سقفا لا يمكن تجاوزه في العلاقة.. فمثلا إن كنت أنت أبي وضربتني أو صفعتني على وجهي؛ فلا يمكن قط أن أفكر في صفعك.. ولا فيما يعادل الصفعة من ردة فعل.. لأن الأب حب وتاريخ ورعاية ومسؤولية.. وبالأساس فإن الأب لا يَصفَع إلا عندنا كعرب أقحاح – مثلا – وحتى لا تتخطفني الإستطرادات فإنني أُنَظِّرُ بوضوح هنا إلى أن قانون نيوتن حول حركة الأجسام من أن ” لكل فعل رد فعل … إلخ” لا ينطبق علينا كبشر حين نتقاتل.. لا .. من أحبه وأحترمه له عليَّ أن أتنفس طويلا طويلا قبل أن أشهق أو أزفر بسخونة مما يصدر عنه من استفزاز.. الهدوء الطمأنية الرضا مفردات لصيقة بطقس كل صديقين أو حبيبين أو أخوين حتى ..

لا أحد بوسعه أن يخربش الآخر إن كان ثمة حب واحترام يجمعانهما.. وإذا حدث وخربش فإن هذا يثقل المسؤولية على الذي تمت خربشته بتريثه وعتبه وأمله في معاني الخربشة قبل “الرد عليها” وهو أصلا غير مشروع .. نحن لا نستطيع أن نعيش مستنفرين على الدوام.. إلا إزاء أعدائنا أو من نقرر سلفا أنهم خصومنا.. أما الأحبة ومن نحترمهم.. فإن لهم حقا علينا وقناطير مقنطرة من الصبر والتفهم والتحمل بل ونهاية الموقف العصيب.. نهايته تماما على ذلك ودون أن يعقب التحمل ردة فعل.. ليس بين حبيبين خسائر حين يضيع أحدهما مظلمة الآخر-معنويا-.. وأنا أعرف أن مثل هذا الكلام سيبدو ساذجا قياسا بحجم الصراعات والمقارنات والحرب الدائرة خارج هذه المقالة في واقعنا المعاش..

لكن الحق لا يتأجل ولا يهون لأن الواقع لا يتسع له أو أعقد منه.. ونحن كمضغوطين ومختنقين وقلقين ومسؤولين ومثقلين.. قد نعيش بكل أشكال الضنك.. ويصدر عنا ومنا صوت القرد والكلب والثور والبهائم.. كل ذلك قد يحدث منا وعندنا وفينا.. لكن الأخطر والنهاية.. هو أن نقلد هذه الكائنات.. منتقلين من صوتها إلى سلوكها الوحشي.. فنهبش كالقرد أو نعض كالكلاب أو ننطح كالثور أو نهيج كالأخيرة.. وهذا يحتم علينا الإلتزام بدرجة قصوى وحذرة وحكيمة من التفهم فيما بيننا.. نفوسنا قد يوجد فيها كل شيء إلا قنابل الملز والألغام والمعجنات المسمومة مثلا.. أجل الحياة ضغط و ” عجقة ” وزحمة وضجيج.. لكننا فيها وتحتها وفوقها نعيش على أمل التفريق بين الحبيب الذي يستأهل الإجلال.. الإجلال الشامل لكله.. من ابتسامته غير المفهومة إلى أذاه.. وبين الخصم الذي لا نحبه ولا نحترمه وجاهزون له..

في برنامج ” حيلهم بينهم ” الذي عمت مشاهدته العالم العربي .. لم يكن يصدر عن كل الضيوف أي إساءة، حين صور المذيع لقاءا محبوكا مقصودا مع أصدقائهم ينتقدهم ويذمهم.. بل كانوا يستغربون ويصمتون التزاما بشعائر الحب والصداقة.. لم تشذ عنهم إلا المصرية علا غانم حين وصفت صديقها بأنه “كذاب في أصل وشه” الأخت كما يبدو كانت جاهزة.. فيما نجح الجميع في اختبار الصداقة الذي كان مفاجئا وعصيبا لكنه لم ينل من اعتقاداتهم إزاء أحبابهم.. وهذا ما أدعو له منذ بداية المقال إلى نهايته أي إلى هنا .

اقرأ للكاتب

معين شلولة يكتب: عن الحواديت

شكرا للتعليق على الموضوع