مصطفى جودة يكتب: إفريقيا تزأر

أ.د: مصطفي جودة

رئيس الجامعة البريطانية بالقاهرة – سابقا.

قدمت جنوب إفريقيا ملفا من 84 صفحة يحوى جوانب اتهام إسرائيل بالإبادة الجماعية لسكان غزة. كما قدم محاموها الأدلة والبراهين القانونية التى لا تحتمل التفسير والشك. وصف سيريل راموزا رئيس جنوب إفريقيا أداء وفد بلاده الذى يتولى القضية أمام محكمة العدل الدولية بعد مشاهدته أداءهم فى اليوم الأول للمحاكمة وإبهارهم العالم كله بخبراتهم وبقدراتهم واستعدادهم وبحقيقة قضيتهم، بقوله بينما كان محامونا يدافعون عن قضيتنا، لم أشعر قط بالفخر الذى أشعر به اليوم. يقول البعض إن الخطوة التى اتخذناها محفوفة بالمخاطر. نحن بلد صغير ولدينا اقتصاد صغير. قد يهاجموننا، لكننا سنظل متمسكين بمبادئنا، ولن نكون أحرارا حقا ما لم يتحرر الشعب الفلسطينى.

ركز الفريق على تقديم الأدلة والقانون وعلى الفظائع التى ارتكبتها إسرائيل وأثبت وجود ارتكاب إبادة جماعية وجرائم حرب مكتملة الأركان من حيث النية المبيتة والحجم والتوحش والسرعة فى التنفيذ. فى اليوم الثانى كان الدور على الفريق الإسرائيلى والذى كان أداؤه بالمقارنة باهتا وباردا ومضطربا ومفتقرا للمصداقية بشهادة الجميع وكانت أدلته سطحية خالية من روح القانون وحيويته. كانت هناك لحظة مشخصة للأداء الإسرائيلى الضعيف عندما رفضت المحكمة طلب الجانب الإسرائيلى عندما أراد عرض مقطع فيديو مدته ساعة واحدة خلال جلسة الاستماع التى استمرت ثلاث ساعات. كان الفيديو عبارة عن لقطات دعائية تم تجميعها من خلال عمليات قص ولصق مع إضافة تأثيرات مصحوبة بعملية تحرير لعملية طوفان الأقصى وتهدف فى المقام الأول لإحداث نوع من التأثير والتعاطف.

بررت المحكمة رفضها ذلك بأن هذه القضية لم ترفع ضد حماس بل ضد إسرائيل وأنتم فى موقف الدفاع. كان منظرا مثيرا للشفقة وكأن الفريق الإسرائيلى لا يجد ما يقوله وكأن خيبة افتراء تحيط به. كان هناك موقف آخر دامغ عن عجز الفريق الإسرائيلى عندما تلعثم أحد المحامين الإسرائيليين واختلط عليه الأمر نتيجة غياب بعض أوراقه، فقال: لقد اختلطت أوراقى ويبدو أن أحدهم عبث بملفى. قبل انعقاد جلسات محكمة العدل الدولية بدأت إسرائيل من خلال تصريحات رئيس وزرائها ووزرائها الهجوم عليها وكأنها فى منأى عما ستصدره من أحكام دلالة على الإحساس بأنه مهما ستكون الأحكام فإن أيا منها لن يطبق على إسرائيل. يتأتى هذا الشعور بالأمان من العقاب بفضل الحماية الأمريكية والغربية التى توفرها تلك الدول فى كل مناسبة تستحق فيها إسرائيل الإدانة. آخرها هو اعتراض أمريكا الدائم والمتكرر واعتراض ألمانيا وكندا على اتهام إسرائيل بارتكاب جريمة إبادة ضد الشعب الفلسطينى، وهو الأمر الذى لن ترضاه الدول الغربية بإدانة إسرائيل أمام محكمة العدل الدولية، لأنها لو رضيت وقبلت فهذا معناه اعتراف صريح منها بجرائمها ومشاركاتها الفعلية فى الإبادة الجماعية لسكان غزة. من هنا نجد أن أنتونى بلينكن وزير الخارجية الأمريكية شغال «كعب داير» فى نفيه الجريمة الإسرائيلية ونجد أيضا التابعين له من الألمان والكنديين يقومون بترديد نفس النغمة. يتعجب المرء من الصوت الألمانى العالى والعتو غير المبرر وإعلانها أنها ستتدخل لصالح إسرائيل فى محكمة العدل وأنها ستقدم مذكرة كطرف ثالث لتبرئة إسرائيل. لست أدرى ماذا فعل لها أطفال غزة وعواجيزها ونساؤها وشبابها؟. أليس هذه شهادة زور مبينة؟. ألمانيا التى اخترعت النازية وارتكبت الهولوكوست تريد أن تتوضأ وتطهر نفسها بالدم الفلسطينى وتريد أن تقدم ضحايا المذبحة الثانية فى العصر الحديث عربونا لتوبتها وحتى ترضى عنها الصهيونية العالمية. لم تتوقف ألمانيا عند دعمها للموقف الإسرائيلى الإجرامى ولكنها تزيد من عتوها وتعلن يوم الأربعاء 17 يناير أنها ستمد إسرائيل بدبابات وبعشرة آلاف قذيفة مدفعية. أثار الموقف الألمانى غير المسئول دولة ناميبيا التى اتهمت ألمانيا بارتكاب حرب إبادة ضدها 1904. أما أمريكا فهى فى عام الانتخابات الرئاسية والبرلمانية وبالتالى فلا تنتظر منها غير الدعم الكامل لإسرائيل مهما تكن جرائمها التى ترتكبها آناء الليل وأطراف النهار ولا تعير الرأى العام العالمى أى إلتفات وتظن أنها ناجية لأن معها التبريرات الأمريكية المستدامة، فكل من وزير خارجيتها والمتحدث باسم البيت الأبيض لا يملان التصريح بأن اتهام إسرائيل بارتكاب حرب إبادة لا يستند إلى أى أساس.

عقب طلب جنوب إفريقيا من المحكمة أن تصدر حكما بالوقف الفورى للقصف الإسرائيلى صرح نيتانياهو غاضبا يوم 11 يناير بأن صراخ نفاق جنوب إفريقيا يكاد يبلغ عنان السماء، وأضاف أننا نحارب الإرهابيين ونحارب الأكاذيب. لقد رأينا عالما مقلوبا على عقبيه فى المحكمة اليوم. وجدنا إسرائيل تتهم بارتكاب جريمة الإبادة بينما هى تحارب الإبادة. وأتبع ذلك بقوله مساء السبت بتاريخ 13 يناير بأنه لن يوقفنا أحد، ليس محكمة العدل وليست قوى محور الشر.أما وزير خارجيته فقد اتهم جنوب إفريقيا بأنها الذراع القانونية لمنظمة حماس الإرهابية فى قضية مبنية على ادعاء باطل.

بقية دول العالم كله لا تتفق مع الموقف الغربى وتجمع أن المحكمة ستتخذ إجراءات عاجلة مثلما طلبت جنوب إفريقيا وأهمها الوقف الفورى لإطلاق النار وإيقاف عملية نزوح السكان وتوصيل المساعدات الإنسانية وهذا ما ستعلنه المحكمة خلال أسبوعين على الأكثر. أما الحكم على إسرائيل بأنها ارتكبت حرب إبادة فسيحتاج وقتا قد يكون طويلا قد يزيد على سنة كاملة. جنوب إفريقيا هزمت إسرائيل هزيمة نكراء وأظهرت للعالم سوءاتها وكذبها وادعاءاتها دون مداهنة أو خشية انتقام من أمريكا وأوروبا.

كانت المحاكمة واضحة جلية بين حق واضح ـ أصبح أكثر وضوحا وهو ما قدمته جنوب إفريقيا موثقا لكل الأحداث التى وصفها طلبها – وباطل غشوم تعود السيادة صار أكثر زهوقا.

gate.ahram

اقرأ للكاتب

شكرا للتعليق على الموضوع