مصطفى جودة يكتب: سَلطة أحمد زكى العلمية
أ.د: مصطفي جودة
رئيس الجامعة البريطانية بالقاهرة – سابقا
سلطة الحاتى المصرية واحدة من بلايين الإبداعات العظيمة التى أبدعتها المحروسة للبشرية عبر تاريخها العظيم، وهى سر خفى عن بقية البشرية لا يستمتع به إلا أهل المحروسة. كل مصرى سار فى الأرض وأكل من سلطات الخلق يدرك عظمة تلك السلطة بمقارنتها بسلطات شعوب العالم. إنها السر المكنون والخفى حتى الآن عن العالم، ربما تقصيرا منا وإهمالا وقلة علم وقلة تسويق لما حبانا الله به. أصحاب المزاج السلطى أمثالى من أهل المحروسة يستمتعون بمائها المسمى « الويسكى الحلال» ويدمنونه مثلما يدمن الكحليون الويسكي.
عزمنى صديق مرة بسبب كثرة حديثى وثنائى عليها على مطعم الرفاعى فى السيدة زينب ليرينى أفضل مكان تقدم فيه. كان محقا وكانت المفاجأة أن هناك صور عشرات المريدين معلقة بالمطعم من أفذاذ مصر سبقونى بالأكل فى هذا المطعم ومنهم أحمد زويل.
ظللت آكل منها وأشرب أكل المودعين وشربهم ومازال طعمها فى فمى حتى اليوم. أكتب هذا قبل حديثى عن كتاب سلطة علمية للمبدع أحمد زكى تفوق سلطة الحاتي. كانت طبعته الأولى عن مطبعة لجنة التأليف والنشر التى كان أحد مؤسسيها عام 1948، وهو تفريغ لأحاديث معه بدار الإذاعة المصرية.
كانت مدة كل حديث 15 دقيقة بقصد تثقيف الشعب علميا بواسطة عالم ومثقف عظيم ومبسط للعلوم بأسلوب الأدباء ورقة الشعراء. كتب عن ذلك فى مقدمة الكتاب عقب تجميع تلك الأحاديث لتطبع فى ذلك الكتاب الشيق ولتكون أثرا ثقافيا باقيا وخالدا تنهل منه كل الثقافة العربية وليست المصرية فقط وتستطعمه مثلما تستطعم سلطة الحاتى المصرية.
كتب فى مقدمته للطبعة الأولى أن المحدث فى العلم الذى يتوجه الى سواد الشعب سامعين، يطلب كما يطلب كل متحدث أن يجمع بين الدقة والوضوح فإن تعارضا، جنح الى الوضوح إيثارا وهو يورد القاعدة وقد يكون لها شواذ يثقل الحديث بذكرها فيتركها إغفالا وهو ينظر الى الأرض من السماء فيرى الجبل الواجد البعيد يتضمن جبالا والوادى السحيق يضم وديانا، فلا يذكر إلا جبلا، ولا يسجل إلا واديا. يختم مقدمته للكتاب بقوله إن هذه الأحاديث قصد بها الى التسلية أولا، ثم الى التعريف ببعض حقائق العلم ثانيا، وهى فى العلم «قزقزة» وليست إشباعا. أضاف فى مقدمته للطبعة الثانية الصادرة عام 1955، نسأل الله المزيد من توفيقه فى الإسهام فيما ينفع أبناءنا شباب مصر والأمة العربية، ولو نفعا يسيرا.
إذا هذا هو هدفه الأساسى فى كل ما كتب وهو أن يقدم للناس علما ينتفع به من قبل العامة والخاصة. إنه صنع سلطته بحكمة صناعة سلطة الحاتى لتخرج بطعمها وتفردها وفوائدها.
يضم الكتاب عشرين حديثا ويقع فى 192 صفحة أولاها بعنوان: سلطة بقصد تعريفه الى الهدف الذى يرمى إليه. يقول: لن تكون الكتابة إلا سلطة فيها الخيار والطماطم والبصل والبقدونس والجرجير والخس وما إليها. وهى لن تكون إلا سلطة علمية، ينتقل فيها المتحدث من بند الى بند كما ينتقل الآكل من الخيار الى البصل ومن البصل الى الجرجير على غير عمد وبغير ترتيب مرسوم إلا ما ترسمه الصدفة. وخيل إلى أن ما يوافق فى الحر الحلوق والبطون لا بد أن يوافق فى الحر الأفهام والعقول. وخيل الى أن أول باب فى هذه السلطة العلمية وجب أن يكون فى السلطة المأكولة لا سيما فى الصيف. يقدم لنا بعد ذلك أن أصل لفظ سلطة لاتينى ومعناه الشيء المملح، والظاهر من هذه اللفظة أن السلطة عند اللاتين كانت تدل على الخضراوات المملحة كاللفت المملح والكرنب المملح، ولعل سلطة روما كانت من أجل ذلك أشبه بطرشى العقادين والحسينية.
ويستمر فى شرحه لمراده من موضوعه العلمى الذى يريد تثقيف القارئ به فيقول: التشهية أول عمل السلطة وواجباتها، وهى تشهى لا بما احتوته من خضر، ولكن بما احتوته من ملح وخل وتابل. والتشهية عمل صناعى تظهر بوادره ملموسة فى جريان الريق، وهى بالتالى تهيئة المعدة للطعام، لأن الريق إذا جرى جرت فى المعدة عصارتها مناغمة له ولو لم يدخلها طعام وهى استعانة على الهضم قبل الطعام. يشرح بعد ذلك مسار الخضراوات وما يحدث لها من هضم بطريقة تجعل القارئ مصاحبا له، وكأنه فى رحلة علمية ممتعة من لحظة التناول لها الى الهضم الى الامتصاص، ثم الى التخلص من الفضلات مع توضيح دور كل صغيرة وكبيرة للجهاز الهضمي، وأن لها ست وظائف وهى التشهية والإشباع، وأنها مصدر للماء مأكولا ومشروبا، ورابعها أنها مصدر للألياف التى تملأ المعدة وتحركها، وخامسها أنها تعطى الجسم حاجاته من العناصر والأملاح وسادسها أنها تعطى الجسم حاجاته من الفيتامينات، يخرج منها القارئ، وكأنه دارس مجتهد، وبالتالى يجنى فى النهاية فائدة دائمة أيا كانت درجة تعليمه.
بقية العشرين حديثا على ذلك الغرار من تبسيط المفاهيم المعقدة والشروح الحكيمة بأسلوب أديب وحكمة فيلسوف رقيق لموضوعات علمية حية متنوعة مرتبطة بحياة الناس منها: عندما يسدل الليل على الغاب ستاره، لعاب الشمس، العقول كالبحار لها أعماق، القمح الذى عاش أربعين قرنا، صراع الحى فى سبيل الحياة، قصة الزجاج، لو خير الناس بين الزجاج والألماس، نقيق الضفادع، عود الكبريت، شمعة تحترق، أول الحياة بيضة، الحضانة فى الطير، لماذا تبيض الدجاجة ولكن تلد المرأة، عقول مريضة، خداع الحى فى سبيل الحياة، طفولة، الثلج، وادى الموت. كثيرون لديهم مكونات السلطة العلمية، ولكن ليس لديهم سر الوصفة التى جعلت منها سلطة علمية ذات سر مكنون.
gate.ahram
اقرأ للكاتب
مصطفى جودة يكتب: النموذج الإسلامي للكون

