مصطفى جودة يكتب: النموذج الإسلامي للكون
أ.د: مصطفي جودة
رئيس الجامعة البريطانية بالقاهرة – سابقا
«قدر فى ذهنك بيتا منسق البنيان، فاخر الأثاث والرياش قائما على جبل مرتفع فى غابة كثيفة، وقدر أن رجلا جاء الى هذا البيت فلم يجد فيه ولا حوله ديارا ولا نافخ نار، فحدثته نفسه بأنه عسى أن تكون صخور الجبل قد تناثر بعضها، ثم تجمع ما تناثر منها ليأخذ شكل هذا القصر البديع بما فيه من مخادع ومقاصير وأبهاء ومرافق، وان تكون أشجار الغابة قد تشققت بنفسها ألواحا وتركبت أبوابا وسررا ومقاعد ومناضد، ثم أخذ كل منها مكانه فيه، وأن تكون خيوط الثياب وأصواف الحيوان وأوباره قد تحولت بنفسها أنسجة موشاة، ثم تقطعت طنافس، فانبثت فى حجراته واستقرت على آرائكه، وأن المصابيح جعلت تهوى إليه بنفسها من كل مكان.
ألست تحكم بأن هذا حلم قد أصيب صاحبه باختلاط فى عقله؟ فما ظنك بقصر، السماء سقفه، والأرض قراره والجبال أعمدته، والنبات زينته، والشمس والقمر والنجوم مصابيحه، أيكون فى حكم العقل أهون شأنا من ذلك البيت الصغير؟
أولا يكون أحق بلفت النظر الى بارئ مصوره، حى قيوم، خلق فسوى وقدر فهدي؟». هذا الوصف للعارف بالله محمد عبد الله دراز أورده الإمام الأكبر عبد الحليم محمود فى كتابه فى رحاب الكون مع الأنبياء والرسل، دار المعارف، الطبعة الثالثة، 1999، والذي يعرض فيه رؤياه عن الكون ويصفه بأنه مبسوط الرحاب، متعدد الجوانب، ولا يتأتى لفرد أو أفراد كثيرين أن يفسروا لنا رحاب الكون فى دقائقها.
الشيخ يحدد أن المعرفة العلمية وحدها غير كافية لتوضيح الأمر، يقول: «نحن فى رحاب الكون نحتاج الى معرفة زواياه وأركانه، مادية كانت أو روحية، ونحتاج الى معرفة صلبة بما وراءه، مما هو فوق الطبيعة وأن هذا الكون لم ينشأ مصادفة ولم يوجد اعتباطا، ولم يكن اتفاقا، وجميع أجزائه تؤلف وحدة متكاملة مترابطة، وهذا التكوين المترابط ينفى فى تأكيد فكرة الطبيعة العمياء أو فكرة المصادفة والاتفاق، وهذا الترابط بين أجزائه ليس مجرد ترابط فقط، بل هو ترابط هادف فيه القصد، وفيه الغاية ومن أجل ذلك اعتبر هذا دليلا على وجود الله.
يشرح الإمام الأكبر النظرة الإسلامية فى فهم الكون من خلال القرآن والسنة، بأن الله سبحانه يمسك النظام فى كل لحظة وفى كل ثانية، وأنه سبحانه لو تخلف عن شيء منه طرفة عين لتلاشى وفى ذلك يقول سبحانه: « إن الله يمسك السماوات والأرض أن تزولا ولئن زالتا إن أمسكهما من أحد من بعده إنه كان حليما غفورا» 41 فاطر، يفسر شيخنا ذلك: «وما من شك فى أن الله خلق وقدر، ووضع النواميس وقعد القواعد، وذلك شيء، وإمساك كل ذلك والقيومية عليه شيء آخر.
فمع الخلق فإن الإمساك مستمر لا ينتهي، وهذا هو معنى القيومية، وهى من صفات الله تعالي. والقيوم اسم من أسمائه سبحانه، فهو القائم بنفسه، وأنه الذى يقوم به كل موجود، حتى إنه لا يكون للأشياء وجود ولا دوام وجود إلا به. إنها قيومية علم، وعلمه سبحانه ليس مقصورا على الماضى أو الحاضر فحسب، ولكنه شامل للمستقبل أيضا.
إن علم الله عام وشامل بقوله عالم الغيب والشهادة، اذ إن عالم الغيب هو ما وراء الطبيعة، وعالم الشهادة هو الطبيعة، فإن الله فصل الأجزاء والجزيئات وبين أنه يعلم اليسير والصغير والكبير، «يعلم ما يلج فى الأرض وما يخرج منها وما ينزل من السماء وما يعرج فيها وهو الرحيم الغفور.
وقال الذين كفروا لا تأتينا الساعة قل بلى وربى لتأتينكم عالم الغيب لا يعزب عنه مثقال ذرة فى السماوات ولا فى الأرض ولا أصغر من ذلك ولا أكبر إلا فى كتاب مبين» سبأ 2-3. وهذه هى قيومية العلم، وهى لا تنفك عن قيومية التدبير. إن عناية الله التى يلاحظها الإنسان فى كل ما يحيط به ويغمره من نعم تنفى المصادفة والاتفاق، وذلك إن الترابط الهادف يلغى المصادفة والاتفاق، وأن القصد الظاهر فى نظام الكون ينفى المصادفة والاتفاق.
تحدث بعد ذلك عن تركيب الكون وكيف أنه يرشد الى الصانع، وقال إن الناس فى كل مكان وزمان يشتاقون الى معرفة كيفية خلق العالم، ويكثر تساؤلهم بمتى وكيف، ويريدون تحديدا محددا عن الأول من المخلوقات وعما بعده، إنهم يريدون ترتيبات يكون فيها التعيين والتحديد.
بعد تلك التوضيحات، يعطى الإمام الأكبر النموذج الإسلامى للكون وينمذجه من خلال أربع قضايا. القضية الأولي: كان الله ولم يكن شيء غيره، والقضية الثانية: كان عرشه على الماء، والقضية الثالثة أن الله كتب فى اللوح المحفوظ كل شيء، والقضية الرابعة أنه خلق السماوات والأرض.
القضية الأولى تثبت أنه لم يكن فى الأزل شيء غيره. لم يكن الماء، ولم يكن العرش، ولم يكن شيء سواه سبحانه.
أما القضية الثانية فإنها تدل على أن الله سبحانه خلق الماء سابقا ثم خلق العرش على الماء، أما القضية الثالثة فيفسرها ما ورد فى حديث آخر من قول رسول الله عليه الصلاة السلام: ثم خلق الله القلم فقال له اكتب ما هو كائن.
وكان خلق الأرض والسماوات وما فيهن بعد ذلك. الماء والعرش إذا كانا مبدأ هذا العالم لكونهما خلقا قبل السماوات والأرض.
هذا هو النموذج الإسلامي للكون الذى صاغه لنا الإمام الأكبر رحمه الله. آخر الدراسات والصور من تليسكوب ويب تظهر أن الماء أقدم من السماوات، وهى إحدى الإشارات العلمية المعجزة للقرآن الكريم والتى لم يشر إليها أحد.
gate.ahram
اقرأ للكاتب

