ماليزيا تضحك في حضرة الكرملين

عبدالله بوقس – ماليزيا
تقرير: عبدالله بوقس

صحفي وكاتب، مهتم بشؤون منطقة جنوب شرق آسيا، مقيم في كوالالمبور

 

في قاعة سانت أندرو التاريخية داخل الكرملين، المعروفة بأجوائها الرسمية ومكانتها المراسمية في ذاكرة البلاط الروسي، وقعت لحظة غير متوقعة من الدعابة وسط مشهد رسمي مشحون. فخلال زيارة رسمية إلى موسكو، في مايو الماضي، شارك رئيس الوزراء الماليزي أنور إبراهيم في مؤتمر صحفي مشترك مع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين.

وأثناء حديثه، استعاد بوتين موقفًا طريفًا حدث خلال جولة داخل القاعة، حيث أشار إلى ثلاثة عروش تعود إلى الحقبة القيصرية: الأول يرمز للقيصر، والثاني للإمبراطورة، أما الثالث فلم يذكره بوتين وكان مخصصًا لوالدة القيصر. ثم سأل بوتين مازحا: “برأيك، لمن العرش الثالث؟”، فأجاب أنور على الفور مبتسما “ربما للزوجة الثانية”، ما أثار ضحك الحضور، فرد بوتين قائلا “هذه إجابة لمسلم حقيقي وممثل للثقافة الإسلامية”. لكن أنور سارع بتدارك الموقف مازحا “لدي زوجة واحدة فقط يا سيادة الرئيس… اعتقدت أن العرش الأيسر للزوجة الثانية، لكنني أدركت لاحقا أنه كان مخصصا للأم”.

اللقطة، التي بدت في ظاهرها مجرد دعابة، عبرت في عمقها عن لحظة تلاقي بين ثقافتين مختلفتين، وفتحت مساحة للفكاهة وسط الأجواء الرسمية المشحونة، في مشهد جمع بين الطرافة والدبلوماسية الهادئة.

رمزية النكتة ومرآة الثقافة

في نكتة أنور، تنعكس الثقافة الماليزية ذات التراكم الإسلامي، حيث يُشرّع القانون الإسلامي الزواج من ثانية، لكنه محاط بقيود اجتماعية ونفسية معقدة. المزحة كشفت عن سلوك تلقائي لأنور المعروف أصلاً بخفة ظله وتلقائيته، ووجد فيها بوتين فرصة لتعزيز التفاهم الثقافي المشترك.

الفكاهة في موسكو لم تكن مجاملة، بل تقاطع ثقافي. تعليق بوتين بأن هذا جواب “مسلم حقيقي” ليس سخرية بل إقرارٌ بهوية ضيفه، وفيه إحالة على فهمٍ متعدد الأبعاد للموقف. بل يمكن اعتبارها لحظة اعتراف ثقافي علني، صاغه الضحك، لكنه غذّاه التفاهم.

مع ذلك، فإن هذه المزحة البسيطة أثارت جدلاً في بعض الأوساط الماليزية، حيث وصفها رئيس الإعلام في حزب (بيرساتو) المعارض وان سيفول وان جان، بأنها “سخرية علنية من زلة ثقافية”، مشيرا إلى أن بوتين “استغل الفرصة ليُظهر تفوقه من خلال الكشف عن جهل أنور الثقافي أمام وسائل الإعلام”، حسب قوله.

أما الصحفي الماليزي المخضرم عبد القادر جاسين فقد اعتبرها “سوء تقدير للبروتوكول”، مشيرا إلى أن روسيا بلد تُحظر فيه تعدد الزوجات بموجب القانون المدني والديني، وأن المزاح في هذا السياق قد لا يكون في محله. وأضاف “بوتين ليس مجرد رئيس. إنه ضابط استخبارات سابق، والجواسيس لا ينسون التفاصيل”.

الفكاهة بين الدبلوماسية والتأنيب

بينما تداولت وسائل الإعلام الفيديو بوصفه لحظة لطيفة وسط مشهد سياسي ثقيل، لم تغب عن بعض النقاد حقيقة أن المزحة قد تحمل أبعادًا إشكالية.

صحيفة (ساوث شاينا مورنينغ) أشارت إلى أن هذه المزحة جاءت في لحظة حساسة، حيث تتقاطع فيها الدبلوماسية بالذاكرة المثقلة بمأساة كارثة إسقاط الطائرة الماليزية في منطقة بشرق أوكرانيا كانت حينها تحت سيطرة الانفصاليين الموالين لروسيا، وذلك في رحلة رقم  MH17، التي أودت بحياة 298 راكبًا في عام 2014،

لم تزل هذه الكارثة تلقي بظلالها على العلاقات الماليزية الروسية. ففي مايو 2025، أعلنت منظمة الطيران المدني الدولي أن روسيا مسؤولة عن إسقاط الطائرة، بينما أكدت الحكومة الماليزية على لسان رئيس وزرائها خلال زيارته إلى موسكو ضرورة تحقيق العدالة للضحايا، مع إبقاء قنوات الحوار مفتوحة.

ورغم أن التحقيقات الدولية حمّلت عناصر انفصالية موالية لموسكو مسؤولية الحادث، اختار أنور أن يتبنّى خطابًا متوازنًا يجنّب التصعيد عندما تحدث مع بوتين عن قضية الطائرة. وفي هذا الإطار، تبدو النكتة التي رواها بوتين لحظة خارجة عن النص لكنها محسوبة بعناية، حيث ساهمت في تخفيف التوتر دون المساس بجوهر القضايا العالقة، ما يعكس استخدام الفكاهة كأداة لتلطيف المشهد في قلب لحظة دبلوماسية ثقيلة.

فن دبلوماسية الضحك

إن النكتة السياسية لا تُقال عبثًا، بل تُلقى وسط سياقات محمّلة بالرمزية، وتُستقبل وفق خرائط ثقافية دقيقة. لحظة الدعابة بين بوتين وأنور لم تكن مجرد طُرفة لتلطيف الأجواء، بل كانت اختبارًا حيًّا لمعاني النفوذ، وتوازن الهيبة، ومفهوم التفاهم بين عالمين سياسيين مختلفين.

لقد تحوّلت مزحة عابرة عن “الزوجة الثانية” إلى عدسة فاحصة تكشف من يملك أن يمزح، ومن عليه أن يضحك فقط، ومن يُخضع ضحكته لحسابات البروتوكول والسياسة. في عالم مملوء بالتحالفات الهشة والابتسامات المصطنعة، تصبح النكتة لحظة صدق نادرة، لا لأنها تعبّر عن حقيقة مجردة، بل لأنها تكشف البنية العميقة للعلاقات.

ولأن السياسة لا تتحدث دومًا عبر الخطب والبيانات، بل أحيانًا عبر الضحك المُرمّز، فإن ما حدث في قاعة سانت أندرو يصلح أن يُقرأ كلحظة دبلوماسية كاملة، أبلغ مما يمكن أن يقوله بيان رسمي. إنها دبلوماسية الضحك، حين تصبح النكتة وسيلة لإعادة ترتيب اللغة، والمشهد، وتوازن القوى، دون أن يُرفع فيها صوت واحد.

ومن هنا، لا يكون العنوان مجرد تصوير للحدث، بل مفتاحًا لقراءته: ضحكت ماليزيا في حضرة الكرملين، ليس لأنها استُهين بها، بل لأنّها آثرت أن تردّ على المزحة… بروح خفيفة وذكية.

اقرأ ايضاً

البحرين تغرق في نكتة ماليزية

شكرا للتعليق